نصوص أدبية

بائعة السجاير / بلقيس الربيعي

في أن تفتح باب البلكون وتملأ رئتيها بالهواء البارد، لكنها لم تقوَ … أحسًت كأن شيئاً إنكسر في داخلها وهي تتذكر زيارتها الأولى الى الأردن للقاء اخوتها بعد اكثر من ربع قرن من غربتها في المنافي .

تذكرت جيدا ذلك اليوم التموزي من عام 2000 حين رأتها تجلس على الارض بين مجموعة من النسوة اللواتي إعتدن الجلوس معها على رصيف احد شوارع عمان كل يوم، يبعن ليف الحمًام والديرم و.. . كانت إمرأة نحيفة، وآثار البؤس والشقاء مرسومة في تجاعيد وجهها، وامامها صندوق من الكارتون تضع عليه باكيت سجاير مفتوح وبقربه قدًاحة . كانت تغمرها السعادة ووجهها يستبشر فرحا حين ترى من بعيد مجموعة من الشباب تتجه نحوها .

حين رأتها سعاد، شعرت بالحزن يخيًم عليها، شيء يدعوها الى البكاء وهي ترى نساء بلدها المجللات بالسواد تغص بهن الارصفة والاسواق الاردنية بين متسولة وبائعة متجولة بحثا عن لقمة العيش، والعراق السابح فوق اكبر احتياطي عالمي من النفط دون أن يستفاد شعبه حتى من ضمان الحد الادنى للعيش الكريم .

تلك المرأة البائسة، التي ركبت الاهوال وعبرت الحدود بحثا عن لقمة عيش كريمة، تفترش الارض تنتظر من يشتري منها سيجارة . بسطتها لاتأتيها منها طيلة اليوم ما يكفي لاكثر من كسرة خبز وإيجار غرفة مشتركة غير صحية .

دنت منها سعاد وجلست بقربها وسألتها قصتها وسبب تركها الوطن .

 

اطلقت العجوز حسرة حزينة وراحت تسرد قصتها .. قصة مؤلمة مثل كل القصص التي عانت وتعاني منها المرأة العراقية بسبب الحروب .

ــ انا ارملة، فقدت ولدي الوحيد في الحرب الايرانية . اسكن في بيت للايجار ولا اقوى على دفع ايجاره . بعت كل ما املك وجئت هنا بحثا عن لقمة العيش. وانتِ هل تقيمين هنا ايضا؟

ــ لا . انا اقيم منذ اكثر من ربع قرن خارج الوطن .

ــ اين؟

ــ في السويد ...

ــ يبدو انك وجدتِ وطنا بديلا في غربتكِ واكيد تعيشين حياة مرفهة هناك !

ــ صحيح كل شيء متوفر والحياة مريحة، لكن لا تعتقدي اني عثرت في غربتي على وطن جديد. صدقيني سكاكين الغربة تذبحني .انت تركتي الوطن بحثا عن لقمة العيش وانا تركته هربا من الإضطهاد وبحثا عن الحرية والكرامة.

بعد اسبوع ذهبت سعاد الى ذلك الشارع .. وجدتها تجلس في ذلك المكان وامامها ذلك الصندوق الكارتوني تتمتم مع نفسها ببعض الكلمات . وقفت سعاد في الجهة المقابلة وسؤال لم يغب عن بالها وكان يقض مضجعها طيلة الاسبوع .” اليست هذه المرأة البائسة عراقية؟ ولماذا لاتملك

سوى صندوق من الكارتون وعلبة سجاير؟ “ . إتجهت اليها تستفسر عن احوالها .

اطرقت العجوز قليلا وغالبت دمعة اوشكت ان تنزلق من عينها، وشعرت بحالة إنقباض مفاجيء وشحب وجهها . إقتربت من سعاد وهمست في اذنها ـ

ــ كنت اريد ان اقول لكِ بأن معاناتي ستنتهي وسأتخلص من هذا الصندوق .

 ــ هل ستعودين الى الوطن؟

ــ لا .. سأغادر الى السويد …

ــ هل لديك احد هناك وعمل لك دعوة أو لم شمل؟

ــ لا، انت من سيعمل لي وتأخذيني معك ..…

كتمت سعاد ضحكتها وقالت بإستغراب .

ــ انا؟ كيف لي ان اساعدكِ، ولم استطع ان اساعد اخي؟

غطًت وجه سعاد غيمة من الحزن والاسى ولم تقل شيئا وغادرت المكان وشيء ما يدعوها الى البكاء .

 

بلقيس الربيعي

يوليو 2000

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2294 الثلاثاء 04 / 12 / 2012)


في نصوص اليوم