نصوص أدبية

مونو دراما: أيوب عراقيًا

يمكن وضع شاشة كبيرة في خلفية المسرح تعرض صورًا لجسور، أفلاما لجسور عسكرية يعبر عليها جنود وآليات عسكرية وكل أنواع الجسور.

يبدأ العرض بأغنية (أدير العين ما عندي حبايب) لرضا علي مسجلة أو تغني بشكل حي على العود.

أيوب بين الخامسة والخمسين والستين من عمره. يجلس على حافة كرسيه وكأنه معلّق فوقه يوشك على السقوط. يغطي وجهه بكفيه ورأسه منكفئ على الطاولة. يبقى لثوان في هذا الوضع، يسحب كفيه ببطء عن جانبي وجهه وكأنه يمسح بهما تعبه، آخر ما يسحبه الخنصران ممررًا إياهما تحت جفنيه وكأنه يحتال في مسح دمعتين. يسقط جبينه ثقيلاً على الطاولة.

أيوب (وهو في هذه الوضعية): أريد.. أريد أن.. أقول... (تحتبس عبرة مكابرة في صدره).. أريد أن أقول.. هل هناك من يصغي لما سأقول؟ أنا.. أنا بحاجة لمن يصغي إلي.. فقط أن يصغي، رجاءً! (يرفع رأسه، يدور بنظره فاحصًا المكان، يتوقف محدّقًا بالكرسيين الفارغين).. أين ذهبا؟ الرجلان اللذان كانا هنا، (يقفز متوجهًا نحو الكرسيين الخاليين). كانا هنا قبل لحظات. متى غادرا؟ (يحمل أحد قدحي القهوة من على الطاولة). مازالت قهوتهما ساخنة. كنت جالسًا هناك مثل كل يوم، منتظرًا انتصاف الليل لأعود إلى منزلي. منزلي هَمٌّ يوميٌّ على فكرة، وعودتي إليه متأخرًا مصيبة أعيشها كل ليلة. الرجلان، أين الرجلان؟ ما أن سمعتهما يتحدثان باللهجة العراقية حتى قفزت فرحًا مثل عصفور. يا لسعادتي قلت في سرّي. لقد وجدت رفيقين من بلدي يمكن أن أمضي معهما بعض الوقت، لكنهما غادرا. قالا: إن العمال بدءوا ينظفون المقهى ويجمعون العُدّة ويضعون الكراسي مقلوبة على الطاولات إشارة لساعة الإغلاق، وإن عليهما أن يذهبا. قلت أحتاج إلى دقائق فقط، بل ثوانٍ معدودات، (متوجهًا نحو الجمهور) فقط لأسأل عن مقهىً أو مكانٍ آخرَ يدلني أحد عليه لأبدد فيه ساعة أو ساعتين قبل عودتي إلى البيت. لقد أخبرتهما أن عودتي إلى البيت مصيبة يومية أعانيها كل ليلة. لكنهما ذهبا، تركاني وذهبا. كنت أريد أذنًا فقط. أذنًا تسمعني.. لكنهما ذهبا. (يعود إلى طاولته بمرارة). ذهبا. لديهما من أو ربما ما يعودان من أجله. وأنا من لدي لأعود إليه؟ بل لأعود راكضًا من أجله. صحيح أن لدي زوجتي وابنتي وولدين شابين، لكنني أشعر بينهم مثل غريب أو مثل شخص مدان، لأنني تأخرت كثيرًا عليهم. تأخرت أكثر من عشرين عامًا، لذلك أتحاشى العودة حتى يناموا جميعًا. وأنا علي أن أنتظر، ساعة أو اثنتين. علي أن أجد مكانًا آخر أبدد فيه الوقت، وإلا علي أن أجد بيتًا آخر. كلما تأخرت أكثر كان ذلك أفضل. لكن.. (ينهار الرجل على كرسيه). أين الرجلان اللذان كانا هنا. ليش راحوووو؟

لقد كانا يجلسان عند هذه الطاولة وعلى هذين الكرسيين. يتحدثان بلهجة عراقية صافية، أي والله صافية كماء النبع، وهذا ما أفرحني، يتحدثان وكأنهما جاءا من خمسينات أو ستينات القرن الماضي، لذلك خمنت أنهما تركا البلاد منذ خمسة وعشرين أو ثلاثين عامًا. لهجة خالية من ثقافة الكبسلة والتقفيص وضرب البوري التي غزتنا ودخلت حياتنا مع الحرب.

للحرب ثقافة تغزو الروح وتُغير على كل ما هو نبيلٌ ونقي، لا تكتفي بما تأخذه من أرواح الضحايا فتتحول إلى أرواح الأحياء أيضًا تعيث فيها تخريبًا.

ما علينا أين سأذهب الآن؟ لو كنت مت قبل أن أصل هذا المكان لكان ذلك أفضل، أفضل لي ولهم. ليس هناك من هم بحاجة إلي. لا أدري لماذا بذلوا جهدهم وأنفقوا المال لكي أصل إليهم في أول فرصة، العائلة.. يريدون لمّ شمل العائلة، وها أنا قد أتيت، فأين هي العائلة؟

كانت زوجتي هي من ينتظرني في المطار مع صديقة لها أوصلهما زوج ابنتي بسيارته، كنت أراه لأول مرّة. الصديقة احتفت بي كثيرًا، يشهد الله أنها احتفت بي وكأنني ابن أمها وأبيها، زغردت ونثرت الحلوى أمام دهشة الناس واستغرابهم، وكأنها تزف عروسين بينما طافت كل ألوان الخجل والحرج لتغطي وجه زوجتي. الابن الأكبر اعتذر عن المجيء، كان في عمله أو ربما مع صديقته، الأصغر لا يستطيع غلق محله التجاري خشية خسارته لزبائنه، كان عليه أن يعلن قبل وصولي بشهر على الأقل أنه سيغلق محله في هذا اليوم لظروف خاصة. والبنت أرسلت زوجها ليمثلها أمام أبيها الذي لا تتذكر شكله. لم يندفع أحد نحوي. تقدمت زوجتي مرتبكة، مدت يدها لمصافحتي، حين حاولت عناقها التفتت بنظرة اعتذار نحو صهرها وصديقتها ونأت عني بهدوء وحذر.

في البيت كان الجميع هناك.

ابنتي استأذنت زوجها قبل أن تتكرم علي بقبلة باردة. بعيني هاتين لمحتها وهي تلوي عنقها الجميل نحو زوج لا أعرفه سائلة إياه الإذن بعينيها النجلاوين. لم تطبع القبلة على خدّي إلا بعد أن هزّ الزوج رأسه مع ابتسامة هادئة تعني الموافقة. يا إلهي.. قبلة لمتسول، ليس لأب.

أعرف أن الأب هو من يوافق ولا يوافق لا الزوج، لكنه في الغالب صار الأب والزوج معًا. أخذ دوري وصفتي وسلطتي، و.. وقبلتي أيضًا. يقولون كل فتاة بأبيها معجبة. وأنا كل نصيبي قبلة باردة! يبدو أنني تورطت ولم أعد نافعًا لأي دور.

الصغير هزّ رأسه مع ابتسامة مرتبكة قائلاً: (شنا فاشا)، ومعناها كما ترجمتها زوجتي، مرحبا أبي ولكن بالـ (ستريت لانغويتش)، لا أريد أن أقولها باللغة العربية لأنها عبارة جارحة فاضحة. ثم جلس محافظًا على مسافة مترين بعيدًا عني. قلت لا بأس مع الأيام ستقصر المسافة فيما بيننا وتتحول إلى سنتمرات.

كنت متفائلاً (فطير.. طول عمري فطير)، أنا هكذا فطير.

لكن المسافة لم تقصر. تحولت من أمتار إلى مسافة زمنية، ساعات ثم تحولت إلى أيام فشهور.

الكبير صافحني بوقار وبنظرة فيها ألف سؤال وإدانة، وكأنه رجل كبير، وجلس أيضًا.

لكن صديقته هرعت راكضة تسبقها ابتسامتها نحوي وهي تفيض سعادة واحتضنتني وقبلتني دون أن تطلب الإذن من أحد، بعدها جلست إلى جانبي وبدأت تحدثني بلغة انكليزية رقيقة راقية، مستفسرة عن كل ساعة قضيتها في العراق.

يا للمصيبة! بيني وبين أولادي ترجمان هو زوجتي، لكن لا حاجز بيني وبين هذه المرأة الصغيرة الغريبة.

أيام وأنا أجلس جنب زوجتي مثل تمثال ميت وهي مثلي بدورها تمثال خجول. تحت نظرات الأولاد. أقرأ في عيونهم أسئلة عن تعريف للأب، رب الأسرة. من هذا الرجل الحائر والصامت الجالس قريبًا من أمهم؟ ما الذي يريده منها؟ أخجل من أن أعلن أنني متعب وأريد الذهاب إلى غرفتي لأنام. لأنهم ربما.. بل من المؤكد سيستاءون ويتساءلون بأي حق يأخذ هذا أمنا إلى غرفة نومها؟ وهم محقون، لم يتعودوا هذا الأمر. هي أمهم وأبوهم، معلمهم وطبيبهم، حارسهم وملاكهم وكل شيء، وأنا.. أنا لاشيء.

لكن ما ذنبي أنا؟

كنت أغالب النعاس منتظرًا أن تسبقني إلى النوم، ثم أنتظر الباقين حتى يذهبوا إلى مهاجعهم، لأذهب أنا بعد ذلك. أحيانًا يغلبني التعب والنعاس فأنام جالسًا في الصالة، ولا أكتشف ذلك إلا فجرًا. لذلك أنا أنتظر الآن وكل ليلة حتى ساعة متأخرة من الليل، لأعود في الحافلة الليلية دون أن يراني أحد. أحيانًا أغفو في الحافلة. هذه هي مصيبتي المتكررة كل يوم.

من يعيرني أذنيه ويسمع؟

لكل منّا قصته، وقصتي أنني بنيت جسرًا لأعبر وأسرتي عليه إلى الأمان. كان عليّ أن لا أعود وأعبر عليه ثانية. فالجسور في زمن الحرب لا يعبر عليها مرتين إلا الأغبياء. كنت غبيًا من الدرجة الأولى حين عدت وعبرت عليه ثانية، فقد كلفني ذلك العبور أكثر من عشرين عامًا وخسارة كل شيء، أبوتي حريتي وعملي وأسرتي كلها. ابنتي التي منحتني قبلة التسول، زوجتي التي تعرف القصة كلها، لكنها تشاركني عزلتي ومحنتي ولا دفاع لديها لا عني ولا عنها هي، ولدي البكر الذي بدا أكبر مني، وصغيري الذي تزداد الشِقّة بيني وبينه.

يا سيدي وأميري وولدي كنت مثل الآخرين (حالي حال بقية الناس)، أعمل مهندسًا وسط القلق الذي سيطر على البلاد برمتها. حينها لم تصحُ الحرب تمامًا، بل كانت تتململ وتفرك عينيها متثائبة لتستعد وتغسل وجهها بالدماء. وقتها اختفى عدد من الزملاء المهندسين المدللين العاملين في واحد من المشاريع الحكومية الخاصة جدًا، اختفوا بشكل مفاجئ ودون أية أخبار، كأنهم ما خلقوا.

سرى الكثير من اللغط في أوساطنا. كان أحد المختفين صديقًا تخرجنا معًا في نفس العام وكان قد فاتحني بأن يرشحني للعمل في المرحلة التالية من ذلك المشروع الغامض. ربما كنت سأكلف برسم وتنفيذ شبكة طرق سرية للدخول والخروج من وإلى ذلك المجمع الهائل الذي قطعت من أجله رؤوس آلاف النخيل والأشجار، وسُوّيت البساتين مع الأرض. ثم ينتهي أمري إلى المصير ذاته الذي ذهب إليه الزميل الذي رشحني للعمل فيه. أدركت وقتها أن كل مرحلة من ذلك المشروع تبتلع لحظة انتهائها كل المهندسين والعاملين والجنود الذين أنجزوها. لذلك كان قراري وقرار زوجتي أن نعبر الجسر إلى دمشق قبل أن ينتبه الآخرون، ربما كان ذلك الصديق المختفي قد عرض اسمي على مرؤوسيه للعمل في تلك البالوعة البشرية الحكومية.

في سوريا لم يردنا أي خبر عن استدعاء رسمي، تنفسنا الصعداء وشعرنا بقليل من الطمأنينة. كنا دون وثائق. لا وثيقة تخرج لمهندس في العراق، خصوصًا والبلاد توشك على الدخول في محرقة الحرب. وثائق تخرج المهندسين تنتقل باحتراس عبر بريد خاص وتستقر في الملفات. عليها حراس أشداء صامتون، تبقى نائمةً هناك ولا تصحو أبدًا. ناقشت وزوجتي الأمر بعد أن عرفنا أن قبضة الحرس والموظفين قد ارتخت قليلاً عن الملفات والسجلات، ويمكن بنصف رزمة من الدنانير وربما رزمة واحدة أن تسحب بعض الأصابع وثيقة من الملفات النائمة، وبرزمتين أن تأتي بالملف كاملاً. قلنا نحاول.

وهكذا عبرت جسري ثانية إلى بغداد، فتهاوى الجسر خلفي وابتلعت الأرض كل المنافذ وبوابات العبور. أما الوثيقة فكان ثمنها السجن المفتوح لكل من الراشي والمرتشي. وكانت كفارّة السجن مدفوعةً على جبهات الحرب وخطوطها الأمامية.

هناك شيّدت الطرق وأقمت الجسور وكلها كانت تصب في حلق التنور.

إشارة وحيدة وصلت من زوجتي بعد عام من عودتي، حين اتصلت بشقيقتي من استانبول وأخبرتها بأنها والأولاد في طريقهم إلى بيت الحاج محمود السويدي، وهي إشارة على أن العائلة ستنتقل إلى السويد، فيما أخبرتها شقيقتي بأن خالنا الحاج جواد أرسل أبناءه ليأخذوني إلى بيته لأكون في ضيافته. أدركت زوجتي أن خالنا الحاج جواد المضياف الكريم في طبعه، والجميع يعرف ذلك لا يسأل ضيوفه قبل ثلاث سنوات من استضافتهم، وأغلب الأحيان لا يسألهم على الإطلاق. ويترك الرب يسألهم يوم القيامة، بعد أن يهيأ لكل ضيف غرفته الصغيرة التي ينساه فيها. وصلتني تلك الإشارة حين التقيت بشقيقتي بعد أربع سنوات.

إي بعد آني شنو ذنبي. هاي رغبة خالي وخالكم حجي جواد، منو يكدر يكسر أمره؟

المهم خلصت الحرب وبدت محاولات لم شمل العائلة. وصلت للسويد وبدت مصيبة لخ. مصيبتي الجديدة.

العمل هو الحل.. هكذا فكرت، ألم أقل لكم فطير؟ أفطر من الشِجر! العمل! وكأن السويد كانت بانتظار شهادتي هذه. (يرفع ملف وظيفته ويلقيه بسخرية مرّة).

ضحك ولدي الصغير حين استطعت بمساعدة إيميلي صديقة ولدي الكبير جمع العائلة في إحدى الليالي لمناقشة إمكانية عملي. زوجتي كانت معي على الدوام. يشهد الله أنها كانت معي، لكن بدون حماس. لم تكن متفائلة.

خلاصة الحديث أنهم جميعًا متفقون على صعوبة حصول هذا المهندس العجوز على عمل مناسب أو حتى غير مناسب. قلت لهم فكروا معي. ضحك الولد الصغير وهو في مكانه البعيد وقال: هنا كل واحد يفكر لنفسه فقط.

عجيب صرخت! لكن يا ... أوشكت أن أقول يا ولدي، لكنني خشيت من أن يسخر مني، خصوصًا وقد أصبحت المسافة بيننا بعيدة جدًا.

لا بأس، قال هذا الولد البعيد. سأحاول حل هذه القضية. أخرج هاتفه وضرب رقمًا وبدأ يحدث صديقًا له بالسويدية التي لا أفهمها. غادر المكان وبيده الهاتف. أخذ صوته يبتعد. بعد قليل عاد لتسأله الأم كيف سيهتدي إلى الحل. لقد هاتف أحد أصدقائه وضرب لي موعدًا مع والده المهندس أيضًا لنتحدث في هذا الأمر. وهكذا انفضت الجلسة وانتهى الحوار. بمكالمة هاتفية واحدة حسمها الابن البعيد.

توقعت أن ذلك الرجل الذي سألتقيه سيساعدني في إيجاد عمل لي وربما سيعرض علي عملاً مناسبًا، خصوصًا وأنه مهندس وعراقي مثلي.

لكن..

التقينا في ناد عائلي يجتمع فيه العراقيون مرّة أو مرتين شهريًا. أول سؤال وجهه الرجل: كم تتوقع عدد الكبار الموجودين في هذا المكان. كان سؤالاً غريبًا لا علاقة له بالعمل، لكني خمنت حوالي عشرين. قال: هل تعلم أن بين هؤلاء الجالسين هناك أربعة عشر مهندسًا ومهندسة.

فكرت ربما هم كادر يدير مؤسسة كبرى وقد جمعهم الرجل من أجل التعرف على زميلهم الجديد. لكنه قطع علي فكرتي قائلاً:

أنظر إلى ذلك العجوز كان أكبر أساتذة العمارة في جامعة وهران وفي الجزائر كلها. يحمل لقب عاطل عن العمل الآن.

المرأة الشابة التي تجلس إلى جانبه هي ابنته وهي مهندسة أيضًا، بعد أن يئست من الحصول على عمل، عادت إلى الجامعة من جديد ودرست لتصبح معلمة رياضيات.

ذلك الرجل الأربعيني مهندس أيضًا يمتلك الآن محلاً لبيع الهدايا وإلى جانبه زميله الذي كان الأول على كليات الهندسة في بغداد، عمل في واحدة من أكبر الشركات الإلكترونية هنا. تلك الشركة تمتلك جامعة خاصة بها، ولها فروع عديدة خارج السويد، وتمتلك في ملاكاتها أكثر من سبعين ألف فني وموظف وعامل. قبل سنوات اشترت شركة بريطانية أصول تلك الشركة وانتقلت إلى بلد أسيوي لتوظيف أيد عاملة رخيصة ودون ضمانات. سُرّح صاحبنا مع آلاف من أمثاله، زوجته مهندسة أيضًا بذات الاختصاص وتخرجت معه في نفس العام، تعمل الآن مشرفة في إحدى دور الحضانة، تغيّر للأطفال وتخرج معهم في نزهات أسبوعية. وذاك الرجل الأبيض مهندس متخرج من إحدى الجامعات الإسبانية..

كل هؤلاء مهندسون إذن. ولكن في فعل الماضي. إنهم جزء من التاريخ الهندسي وليس الهندسة.

لحظتها فقدت السمع والتركيز وبدأت كورة النحل تملأ رأسي بأزيزها.

خلاصة الحكاية كلها عبارة من كلمتين اثنتين: مِـــــــشْ بوزك!

بعد فترة وكنت قد قررت بالفعل أن (أمش بوزي)، جاءت إيملي لتحيي الأمل من جديد. عرضت علي عملاً مؤقتًا عن طريق إحدى صديقاتها وكانت معلمة. العمل هو مساعد لإحدى معلمات الرياضيات في تعليم بعض الطلاب العرب القادمين حديثًا إلى السويد ممن لم يجيدوا اللغة السويدية بعد. بعد ذلك جاءت فرص جديدة في تعليم اللغة العربية لطلاب عرب في مدرسة ابتدائية وبأجور مقطوعة.

ويا فرحة الما دامت! كانت تلك الطفلة الرائعة فاطمة سبب خسارتي لذلك العمل.

فاطمة في الثامنة من عمرها وهي عراقية مثلي لكنها ولدت في السويد. كنت أدرسها مع مجموعة من الطلاب العرب اللغة الأم، كان الدرس عن العائلة.

علّقت لهم على اللوح صورة لعائلة نموذجية.. الأب، الأم، الابن والبنت. إضافة إلى بعض الأقارب مثل العم والعمة والخال والخالة وأبنائهم. حين أشرت إلى صورة العم سألت: من هو العم.

أجابني أحد التلاميذ: العم هو الرجل الذي يجلب لي الحلوى حين يزورنا في بيتنا.

قال تلميذ آخر: هو الرجل الذي كلما جاءنا إلى البيت أخذ بابا وخرج معه. وعندما يعود بابا متأخرًا، تبدأ ماما بالصراخ عليه.

هذا يعني أن العم هنا في السويد واحد من اثنين: إما أبو الحامض حلو أو أبو المشاكل.

لا.. أنا أقصد في سؤالي ما هي صلة قرابة الأب بالعم. قلت لهم.

أستاذ فاطمة تعرف، صرخ طالب ثالث. نهضت فاطمة.

أريد أن أعرفكم على فاطمة أولاً. هي من عائلة عريقة. الجد شاعر معروف، الجدة كانت مفتشة اللغة العربية الأولى في المدارس الثانوية ببغداد. الأب والأم أستاذان جامعيان في اللغة العربية والنقد الأدبي.

هذه هي فاطمة. الحقيقة فاطمة وبهذه المؤهلات تصلح لأن تقف مكاني وأجلس أنا مكانها لأتعلم منها.

تفضلي يا فاطمة، من هو العم.

العم هو واحد أخوج مال بابا.

لا.. لا يا فاطمة هذه لغة مكسّرة، كانت خيبتي مفاجئة.

ما إن سمعت فاطمة كلمة (مكسّرة) حتى أصيبت بالهلع وبدأت تصرخ. لعلها فكرت بأنني كنت أهددها بالتكسير. اقتربت منها محاولاً تهدئتها، اشتد خوفها أكثر ودخلت في نوبة من الصراخ الشديد. جفلت مرتدًا والتصقت مستندًا بظهري على اللوحة وقد ارتخت يداي ساقطتين إلى أسفل. لم أكن أعرف ما أقول وما أفعل.

لماذا خافت فاطمة هكذا؟ ماذا فعلت أنا؟

ما هي إلا دقائق حتى اقتحمت المديرة والمشرفة النفسية الفصل. سحبتني المديرة إلى خارج الفصل فيما اتجهت المشرفة إلى الطفلة لتهدئتها.

النتيجة فكرت المديرة بعرض فاطمة على مختص نفسي ونصحتني باستشارة طبيب نفسي بدوري، كذلك عرضت علي المساعدة في إيجاد هذا الطبيب. ما عليّ إلا أن أوافق وسيصلي موعد زيارة الطبيب في رسالة عن طريق البريد. ألمحت المديرة بأن سلوكي فيه نوع من العدوانية يعني (أغريسيف) بالسويدي، وذلك بسبب الحرب. وعلمتني بعض المحظورات والقوانين الخاصة بالمدارس.

أن لا أقترب من التلميذ أقل من نصف متر، وليس من حقي أن أقول للتلميذ افعل هذا ولا تفعل ذاك. مهمتي فقط أن أقدم له المعلومات لا أكثر.

بعض الطلبة الكبار أطلقوا علي لقب دراكولا المدرسة. ساخرًا، أنا أيوب العراقي دراكولا!

في البيت خراعة خُضرة، أي فزّاعة طيور بالعربية الفصحى وفي المدرسة دراكولا. يا ربـــــــــــي!

الحمد لله انتهت المشكلة على هذه الشاكلة، طبيب نفسي أهون من البوليس. همٌّ أصغرُ من هَم.

مخبل ولا يقولون مشبوه.

واحد أخوج مال بابا.. والله حقها فاطمة. هو آني الما أفتهم.

تمسك أيوب نوبة من الضحك المفاجئ، يدور حول المسرح مقهقهًا.

واحد أخوج مال بابا، هذا هو العم، واضحة.

هي بس هاي. لو على فاطمة حفيدة شاعرنا الجبير وبنت أستاذنا وأستاذتنا تهون.

واحد أخوج مال بابا.. قبلناها.

خصم الحجي: آني طلعت مخبل والوظيفة طارت. لقب دراكولا لزك بيه مثل جيرة بزبون أبيض، صار طمغة عثمانية. شراح يشلعها. بعد منو يقبل يشغل دراكولا؟.

يغرق أيوب في نوبة من الضحك.

لأي عمل أصلح سوى إثارة الرعب في قلوب الأطفال، (يبكي)، أقسم بالله أني أحب فاطمة، ولست نادمًا على خسارتي عملي بسببها، ولو خسرت حياتي ما ندمت. أكاد أصدق أنني ما عدت أنفع لشيء، سوى ركوب القطارات والتسكع هنا وهناك والبحث عن أذنين صديقتين تصغيان لي وتسمعان قصتي. لا أنفع لشيء على الإطلاق. لقد تخرجت من الحرب وليس من كلية الهندسة، علمتني الحرب أكثر مما علمتني الجامعة.

في مكتب العمل كنت بحاجة إلى مرآة لأنظر إلى نفسي، وأرى كيف كانت هيأتي حين التقيت ذلك الرجل الذي حدثني عن إنجازاته المعمارية في أكثر من مكان في العالم. (يركض أيوب نحو ملفه على الطاولة يتناولة، يفتحه، يستل مجموعة أوراق من داخله). هذه هي سيرتي الذاتية، منها جزء كبير أخجل من تدوينه وإعلانه.

لنعد إلى ذلك الرجل الذي التقيته في مكتب العمل. لم تكن سيرته الذاتية صفحات وشهادات عن حياته المهنية فقط. كان الرجل يحمل ألبومًا من الصور التي تؤرخ حياته كمعمار مرموق. هنا صورة لعمارة سكنية صممها وبناها في المدينة الفلانية، وهذا مبنى بلدية الناحية العلانية، وهذا مبنى بريد وذلك ملجأ أيتام بحدائقه وكأنه واحدة من جنان الله. سيرة نقية واضحة.

وأنا ماذا قدمت؟ أين ألبوم إنجازاتي؟ أين طرقي وجسوري؟

الحرب أكلت سيرتي وإنجازاتي دون رحمة. مزقت كل طرقي وحطمت كل جسوري. لم أشُد جسورًا وأعبّد طرقًا إلا نحو جهنم، ولم يسر على طرقي ويعبر جسوري إلا الأموات.

الجنود (أيوب يصرخ باكيا): أولاد الخايبة.

لم أصمم حديقة غنّاء، لم أبنِ مدرسة، لم أضعَ حجرًا في بناء ملجأ أيتام، بل ساهمت بتواطؤ مع الحرب وجنرالاتها في ثكل أمهات أولاد الخايبة وتيتيم أطفالهم وتشريدهم.

لعل فاطمة قرأت كل ذلك في وجهي فأصيبت بالهلع وانتابتها هستيريا الصراخ. يا لذلك الفزع الهائل الذي سببته لذلك المخلوق الجميل فاطمة. أنا مهندس الحروب ودراكولا المدارس.

أنا ضحية يا حبيبتي، أنا خائف مثلك يا فاطمة. ضعيـــــــــــــــف، لا حول ولا قوة، (يضحك ساخرًا) لكنني مازلت غير راضٍ على (واحد أخوج مال بابا).

أنا المهندس أيوب، لم أخدم سوى الحرب ونياشين الجنرالات، فمن يجد لي عملاً. بنيت جسورًا أعمارها قصيرة مثل أعمار الجنود الذين عبروا عليها. ما أن يكتمل بناؤها ويعبرها الجنود حتى تأتي الطائرات لتقصفها، وتصب المدفعية جحيمها فوق كل ما بنيناه. كانت أشبه باللعبة المتكررة، نبني فيخربون، يبنون فنخرّب نحن. وكأننا كنا نبني جسورًا من رمل.

في الحقيقة أنا لم أعبأ بجسوري المحطمة وطرقي الممزقة، ولم أحزن لأعمارها القصيرة. كانت مجرد خردة من الفولاذ الخاكي الممزق والخرسانة العسكرية المحروقة. كنت قد تحولت من ثقافة الإبداع إلى ماكنة (الماس برودكشن) الإنتاج الواسع لذلك لم أهتم كثيرًا.

أقرّب لكم الصورة أكثر، أضرب لكم مثلاً: لو أن فنانًا أمضي جزءًا كبيرًا من حياته في رسم لوحة أو نسج سجادة، ثم جاءه تاجر أو جنرال وعقد معه صفقة بشراء هذه التحفة الفنية مقابل ثروة هائلة، وما أن سلمه الثروة حتى أخرج سكينًا ومزٌق تلك القطعة الفنية ببرود. كيف ستكون ردة فعل الفنان؟ سيموت حتمًا أو يجن، يعني يتخبل! لأنه باع حياته لمن سيبددها. أنا لم أبدع تحفّا فنية تستحق ثروات كبيرة، وإنما بنيت جسورًا هي أشبه بلطخة عار في سيرتي الذاتية، وزوالها أشبة بعملية غسل للعار. ثم أنا لم أشترِ بها حياتي، (ثم بتأمل عميق وبهدوء). لم.. أشــ.. أشترِ.. بها حياتي. (بتأمل أكثر) لم أشــ.. أشترِ.. بها حياتي. بل.. بل.. بل.. (يضرب على رأسه ويبكي)، بل يا ويلي.. يا ويلي.. يا ويلي.. لقد بعت بجسوري الصماء تلك حياة الآخرين.. لم أشترِ حياتي وإنما بعت حياة الآخرين.. بعت حياة الآخرين (ينهار أيوب أرضًا)، بعت حياة أولاد الخايبة.

يعود أيوب إلى وضعه الأول جالسًا على كرسيه بشكل معلق يحتضن رأسه بيديه.

حين فشلت في الحفاظ على عملي كما فشلت في صيانة طرقي وجسوري، أدركت أن علي أن أبحث عن حرب لأجد عملاً. قرر أولادي تخصيص مبلغ شهري كاف لي مع بطاقة شهرية أستخدمها في التنقل في المدينة، وأن يتركوا لي حرية الحركة. هم قرروا.

لدي ساعتان أعود بعدها إلى البيت. لدي المال لأشتري أو أستأجر أذنين تصغيان لي. ربما أجدهما في محطة القطار. سأستأجر أذني سكير ممن يقضون حاجتهم في المصاعد وفي أفنية المحطة الخلفية.

(يدير ظهره ليغادر المسرح، لكنه يتوقف، يخرج المال من جيبه).

بهذا المال سأشتري الأذنين.

حين يحاول إعادة المال إلى جيبه، تسقط الأوراق النقدية على الأرض، ثم تسقط بطاقة القطار وجواز سفره العراقي. ينتبه إلى الجواز، يصرخ:

لا..!

ينحني ليلتقط الجواز، يرفعه بيده.

هذا هو جسري الأخير. يجب أن أحميه وأحافظ عليه. لكن علي أن أعتذر أولاً. سأطلب كفنًا وأضع فوقه سيرتي هذه. وأحمله هكذا.

يا ناس اشتروووووووووووووووووووووووووووووووووووووووني!

يقف أيوب مستقيمًا كرمح. يمد ذراعيه أمامه وفوقهما الملف كمن يطلب العفو من أهل ضحيته عن جريمة كان قد ارتكبها.

هكذا سأتقدم إليهم طالبًا العفو منهم. علي أن أعتذر عما فعلته بأولاد الخايبة.

يخرج أيوب من المسرح تاركًا خلفه بطاقة القطار والمال المنثور على الأرض.

((تمت))

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1220 الجمعة 06/11/2009)

 

في نصوص اليوم