نصوص أدبية

الضفدعة الحجرية

rahman khodairabas هذه الضفدعة التي وجدتها مساءً أثارت دهشتي، تأملتها طويلا وأنا أحاول صياغة المباغتة للتحايل على نفسي كي أمتلكها.

- هل يمكن لي أنْ امتلك ضفدعة؟

هذا مافكرت به، وأنا أسترق النظر اليها مستلقية على حافة الحفرة الترابية، غير آبهة بما يحيط بها. تلمست جلدها. كان صلبا وباردا، يميل الى خضرة داكنة. حينما إقتربتُ منها أحسستُ أنّ عينيها الحادتين تغرزان رذاذا من التردد والتمهل، ولكن  ذلك لم يمنعني من إزاحة الغبار العالق على ظهرها. أخذتها بكلتي يديّ ووضعتها قرب الفازالحديدي الذي تزمع زوجتي أن تجعله مكللا بزهور التوليب المتعددة الألوان. فهذا موسم تلك الزهرة الذي تتبرج به مدينة أوتاوة، وكأنها تعلن عن تذمرها من شتاء قاس جمّد أوصالها. وهذا ما حدا بزوجتي أن تغتنم الفرصة لأقتناء تلك الزهور، مادام المهرجان في أيامه الأولى، والذي يقام في وسط المدينة وتحديدا في (كونفدريشن بارك) حيث تنتفض المدينة على رتابتها وإعتكافها على نفسها، فتقوم بغرس الآلاف من الشتلات، ثم بتنسيقها عبر الساحات العامة والمتنزهات وعلى امتداد القناة، وعلى الرابية التي يطل منها مبنى البرلمان، بطرازه القوطي على نهر اوتاوة، والذي يمثّل بدايات بناء الكيان الكندي. يبدو التوليب عرائس ملونة تتخذ أشكالا هندسية أخّاذة، وكأنها لوحات فنية منتقاة بعناية. تلك الزهرة التي تشكل لغزا، فهي تتكور وتحيط نفسها بهالة من الغموض خشية من ان تتسرب أوجاعها وعواطفها، لقد تجردت من الرائحة واصبحت تمثل روح شيرين. تلك العاشقة الفارسية التي ماتت حزنا على عشيقها فرهاد، فلما علم بموتها انتحر بقذف نفسه من اعلى الجبل الى الهاوية. ومن قطرات دمه نمت زهرة التوليب، كما تقول الأسطورة.

أقبلت زوجتي، وهي تحمل حزمة التوليب بألوانها الزاهية وجذورها التي تنغرس في التراب الرطب، وعكفتْ على زرعها في الفاز الحديدي الذي يتصدر بوابة البيت. فهذه المدينة التي سكنّاها خلسة تقيم مهرجانا لزهرة التوليب، منذ أن أهدت ملكة هولاندا قبل عقود شتلات من هذه الورود، تعبيرا عن الرعاية التي تكفلت بها مستشفيات مدينتنا، وللرعاية والحفاوة من سكانها. الهولانديون تبنوا تلك الزهرة الفارسية، والتي اصبحت جزءا من شخصيتهم وثقافتهم، وكأنهم يعيدون الإعتبار الى روحها الحزينة فاغرقوها برعايتهم، ومنحوها نكهتهم، وذوقهم. وهاهي الأميرة الهولندية ترسل الى مدينتنا الباردة مئات الآلاف من الزهور عربونا عن المحبة. لذا اصبحت اوتاوة تتضوع بهذه الوردة الأنيقة المتألقة بكل الألوان الرائعة، وصنعت لها مهرجانا، يحج اليه السواح من أنحاء العالم لكي يستنشقوا لذة اللون المخزون في طياتها أو إنفراجها.

مابين التوليب الملّون والمتباهي بجماله، وبتناسق الوانه وبتموج حركته، وما بين الضفدعة الحجرية التي عثرت عليها ذات مساء، مساحة للتردد والحيرة والإنبهار، بحيث ان وجودهما المتجاور يطرح اشكالية التنافر، ما بين الجامد والمتحرك. مابين اللون ونقيضه. نسيتُ الضفدعة وأنا في أوج إنبهاري بمشاهد ومرأى التوليب. لكن هذه الفتنة التي جعلت الجميع ينشدّ اليها اضْمحلّتْ، وانتهى بريقها بعد عدة أيام. في البداية فقدت القدرة على التكور، واستطالت وريقاتها فاصبحت مكشوفة للريح والندى والمطر، ثم ذوت وشحبت الوانها، وجفت وريقاتها المتكورة حتى اصبحت تميل الى القبح، ثم مالت على الحافة الحديدية ذابلة، لاحياة فيها.

هل جمال الأشياء طاريء وموقت؟ هذا ما خمنته وانا ارمق الضفدعة التي كان وجودها نشازا - كما علقت زوجتي - وهي تسقي ورودها بالماء، متذمرة من مرأى التباين الذي لالزوم له حسب إعتقادها. أمّا الآن فبعد أنْ ذبلت زهور التوليب وجفت ثم مالت الى القبح لم تعلق شيئا. وإكتفت بالسكوت. عنذاك أحسستُ ببعض الإرتياح وكأنني أنتصر لضفدعتي بعد أنْ صفا جو الحديقة لها رغم وجومها. واعترف أنني كنت افتخر بديمومة ضفدعتي الحجرية واستمرارها على الجمود، كما شَمَتُّ حتى بوريقات الميبل المتساقطة من الشجرة الوحيدة التي زرعت قُبالة بيتنا.

ورقة الميبل التي تسقط مضرجة بالوان فاتنة تثير إعجاب النظّارة والسواح وهواة التصوير الفوتغرافي، ومحبي عصير الميبل، الذين لم يدركوا أنّ ألوان الأوراق يأتي نتيجة لشحة ضوء الشمس. وريقات هذه الشجرة التي جعلها الكنديون رمزا لهم. القليل يعرف أنّ جمالها اللوني يأتي تعبيرا عن معاناة حقيقية وعشق للشمس التي غمرت الغابات بنهار طويل. أما الآن في الخريف، وبقصر ساعات النهر يجعل من الشمس شحيحة العطاء. إنه الإحتضار الجميل، غير المرئي، والذي يثير فتنة الناس وإعجابهم ولكنه يُخفي أوجاع الشجرة وأوراقها.

 لقد كان التنوع اللوني فرصة للإنبهار وفرصة للسياحة بين غابات كندا المترامية الأطراف، ومهرجانا لتدفق ألألوان في الغابات. آلاف الناس يأتون لمراقبة هذا الإشعاع اللوني على إمتداد ألأفق.

بيد أن ضفدعتي نبهتني الى أنّ أشجارالميبل لاتمنح (عصير الميبل) في وقت تبرجها اللوني، بل في وقت عريها وتجردها من فخامة الأوراق التي تستلقي على أغصانها، مما جعلني اعتز بخضرة جلد ضفدعتي، وبطراوة التراب الذي يتألق على ظهرها، وفوق كل  ذلك بصمتها.

ضفدعة حجرية صامتة، لاتسمع منها نقيقا

كان الجواهري يتغزل بالضفادع على غير عادته ويعتبرهن بريدا للهوى. لاألوم أبا فرات على  ذلك الوله بالضفادع. فبعد سنين على وفاته. وجدت نفسي اسيرا لموقف مماثل، غير أنها جذبتني الى دائرة الصمت. منذ أن عثرتُ عليها ذات مساء رطب ومبلل بالمطر. كانت مختبئة بين الرصيف وحديقة البيت. إلتقطتها بعناية، وغسلت جلدها الحجري ووضعتها على واجهة البيت، وقد تناسيت أنها ضفدعة حجرية، وربما كانت من أدوات الزينة التي يحرص البعض على وضعها في الحدائق أو الواجهات ألأمامية للبيوت. لقد تخيلتها متوثبةً ضاجة بالحياة، رغم صمتها ووجومها. ولكنني اعترف بأنها سحبتني الى مواقعها بعد أنْ عجزت عن إغرائها بالنطق. فبادلتها صمتا بصمت، حتى فقدتُ القدرة على النطق. وحالما إندمجتُ في هذه الحالة حتى اكتشفت عوالم غير مرئية. الصمت لغة شاسعة غير مؤطرة بالبلاغة والمجاملة والتفسير. الصمت يأسرني في لحظات الغيظ والفرح، احاول أن اصرخ إحتجاجا غير أنّ احجارا تطبق على لساني وتغلق فمي. حتى يتحول الصوت الى مايشبه الحلم المتخيل لأستدراك الوهم او لإستدرار عطفه. تذكرت الصمت والصراخ قبل ربع قرن حينما أردت الهجرة الى هذه السهوب. كنت أعيش وأعمل في بلد عربي آخر، هاربا من وطني المثخن بجراح الحروب. وكان ثمة أمران يدفعاني الى الرحيل، الخشية من قذف حقائبي بعيدا حينما ينتهي عقد العمل، الذي يتجدد وفقا لصلاحية جواز سفري، والطمع في حياة أستطيع ان أمارس النطق فيها. بعْتُ أثاث منزلي، ولعب أطفالي، ثم دفعت آخر إيجار لصاحب الشقة الذي تأسف لقراري المفاجيء بالرحيل، وحوّلت كل  ذلك الى نقود لقطع التذاكر بعد أنْ حصلنا على فيزة كندا. وصلنا الى مطار محمد الخامس في مدينة الدار البيضاء قبل ساعات من الإقلاع. ولكن الشرطي دقق بجواز سفري، ثم دقق بجواز زوجتي المغربية، وفجأة انتفض وكأنه يكتشف لغما في جوازاتنا.

 - هل هناك مشكلة سيدي؟ قالت له زوجتي بصوت اقرب الى البكاء

 قال لها باسلوب أقرب الى التمثيل: طفلتك يجب أنْ تكون ملصقة بجواز والدها الأجنبي، وليس بجواز سفرك لأنك مواطنة والأطفال يعودون الى آبائهم. ثم أردف سننتظر الكومسير ليبتَّ بالأمر..

هل يعلم هؤلاء بان سفارتنا تعادينا وانها ترفض تسجيل أبنائنا او إعطائهم الجنسية العراقية؟ لم أبح لهم بذلك لأنني شعرت بلعبة خفية. هي لعبة الإبتزاز لذلك آثرت الصمت.

كان الأنتظار حجري الملامح، قرأت الذعر في وجه طفلتي وفي ملامح زوجتي المتعبة. بعد وقت طويل، حضر رجل خمسيني- أظنه الكومسير - سلمنا الجوازات بهدوء وهو يهمس: حينما تعودان من السفر سجلا ابنتكما في جواز الأب! كانت الممرات لاتستوعب خطواتنا الراكضة، لكن الطائرة انطلقت قبل وصولنا.

همست إمرأة في أذن زوجتي. (شرطة المطار باعوكم لأن هناك عائلة ذات نفوذ يجب ان تسافر على متن الطائرة، لذلك يلجأ الشرطة الى عرقلة بعض المسافرين لأسباب واهية لأستبدال مقاعدهم وإعطائها لأهل النفوذ). لم أصرخ او أحتج، بل تساءلت بمرارة:

- لماذا نحن دون غيرنا نؤدي طقوس الحزن والمرارة؟

هذا مافكرت به وانا أتأبط خيبتي نازلا نحو القطار المتحرك نحو الرباط.

لم أدرك المغزى الحقيقي لمعنى السكوت في كتلة متحركة من الوهن، ما معنى الشلل الذي يحاصرني وانا احاول أنْ اتهجى مفردة الحق. سنين مرت على نهر العمر، ومازال تدفق الماضي يُغرق الوهم الذي نستعيره احيانا لردم مساحات الخيبة التي تتكوم في لحظات العمر العاصفة. نسيت هذه الحادثة ونسيت غيرها، وكأني أبني بيني وبين الماضي ستارا كثيفا من السنين التي مرت دون أن تترفق بي او تتعاطف مع خطواتي المتعثرة.

اتسائل وانا على مقعدي المتأرجح وعيناي تنغرزان في البارك الضخم الذي يقابل بيتنا، استمع الى اصوات مشجعي ولاعبي الفوت بول الأمريكي، وملابسهم ذات الدروع البلاستيكية التي تحميهم في لحظة الإلتحام والعراك حول الكرة. تساءلت في سري متهكماً

"لماذا يسمونها كرة القدم مع انهم لايركلونها الا مرة او مرتين؟"

ولكنني شعرت أنّ سؤالي يوحي بالحالة السكونية التي أعيشها، سؤال يهمل المنظور المغاير حيث نرى الأشياء من خلال ما ألفته عيوننا المتحجرة، وما تعودنا عليه، حيث التمرد الدائم على الصيغ المستحدثة والشغف بما هو جاهز. وحيث التسمر على صليب الهامش.

ومنذ اللحظة الأولى التي وطئتُ بها هذه الأرض الباردة المصبوغة بالثلج. احسست بمشاعر الود النابضة بالإنسانية، شعرت برقي الفكر البشري الذي تجسد في قانون المساواة التي تجعل الأنسان متجردا من العبودية. لا أثر لورقة التوت فنحن عراة امام الحقيقة، لانخجل من اي شيء. اصواتنا قادرة على النطق، لنا سقف يحمي لهاثنا المحموم، ولأطفالنا دفتر يتهجون فيه حروف الأمل، ولكننا جحدنا هذا الكيان الجميل الذي نحن في جنته الآمنة، إنشغلنا بهمومنا، ولم نندمج او نتمتع بالتنوع الحضاري لمجتمع يؤمن بالبناء. وبقينا نجتر حكايات مؤلمة لاتنتهي عن اوطاننا التي لفظتنا.

من المستحسن أنْ أعترف بأنّ ضفدعتي منحتني مساحة للمناورة والنشاط. استعيراحيانا لسانها لأخطف كل حشرات التملق (امس حضرت جلسة بين اصدقاء، في مقهى مفتوحة للجميع واطلقت لساني المستعار مادحا كل الإجراءات التي تقوم بها حكومتنا - اعني الحكومة خلف البحار والتي لاتعترف بوجودنا- ولكنني لم أنبس بكلمة إحتجاج واحدة على سوء إدارتها. مما جعل الحاضرين يفتحون افواههم دهشةً، وكنت أخشى انهم سيكتشفون لساني المستعار، لكنهم اشادوا- على غير عادتهم- بآرائي، ووافقوني بإيماءات من رؤوسهم المكللة بالضجر. هل أدركوا أنني ارتدي جلد ضفدعتي ذات اللون الحرباوي المتموج حسب ضرورات الظل والضوء؟ والذي يتحول احياناً الى صفرة وردية حسب الرغبة والمزاج، وان اكون في الواجهة؟ وانا ألتمس لهم عذرا لأنّهم لاحظوا أنّ كبار الضيوف في أفراح سفارتنا وموائدها ومناسباتها في العهد الجديد، هم أنفسهم كبار الضيوف في العهد الذي يسمونه مبادا، وربما إعتقد البعض من الأصدقاء أنّ لسان ضفدعتي الطويل وجلدها الذي استعرته ذات مساء سيؤهلاني لأنْ اكون ضمن تلك الجوقة. شعرت بنوع من الفخر المصطنع وانا انسحب من جلستهم، ذاهبا الى بيتي ابحث عن ضفدعتي التي تركتها جاثمة قرب الفاز. كنت انوي أنْ أعترف لها بأنني اسأت إستخدام جلدها ولسانها، ولكنها كانت واجمة، تتأمل الأفق المدلهم بالسحب العابرة ولم تكترث او تستمع لأعتذاراتي الكاذبة، وكأنها توحي لي بان هناك طريقا طويلا للتملق والتقرب لكي نضمن السكينة المؤطرة بالذل والهوان، ومن ثم إقتراف الموبقات التي تصبح وسيلة للأرتقاء في مجتمع لايميز بين الألوان.

 

رحمن خضير عباس

 

في نصوص اليوم