نصوص أدبية

لا أعرفُ لي وطنًا سواكِ...

asya rahahlaخرجتُ من باب البناية الكبيرة.. وقفتُ برهةً مطرقا أحاول أن أستجمع ذاتي .. أشعلتُ سيجارة .. الأخيرة في العلبة .. أخذتُ نفسا عميقا .. أعمق من أي مرّة ثم نفثتُ الدخان من فمي عاليا ومعه زفرة حملت كل الثورة التي تضطرم في داخلي. وكل القهر الجاثم على صدري .. نظرت حولي .. تردّدت .. هل أسيرُ يمينا أم أنعطف شمالا؟ .. .جررتُ ساقيّ جراً واتّجهت إلى البيت .. "حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل".

لا أدري كيف استطعتُ أن أمسك أعصابي .. كان يمكن أن أقلبَ به الطاولة أو أرميَه بالكرسي .. أو أصرخ في وجهه بأنني إنسان .. ألا يشفع لي كوني إنسانا؟ .. ما الذي ألجم لساني فابتلعت الإهانة وخرجت مطأطئ الرأس كأنما أنا المذنب لا الضحيه؟ .. لكني وعدتها بأن أتصرّف بحكمة وتعقّل من أجلها ومن أجل 'كريم'. توسلات عينيها لا تفارقني "أرجوك .. لا تتهوّر .. لو حصل لك مكروه .. من لنا بعدك؟".

رئيس البلدية كان واضحا .. "لا يمكنني أن أفعل أي شيء من أجلك .. أنا لست وزير التضامن.". هكذا .. ليس بمقدوره أن يساعدني في أمر الوثائق ولا أن يوفّر لي مسكنا يليق بآدميّتي .. أحمي فيه عائلتي من عواصف الطبيعة وعصف البشر ..

رئيس البلدية ليس وزيرا للتضامن .. ولو أقابل وزير التضامن فسوف يقول "لست رئيسا للدولة!" .. ترى ماذا سيقول لي رئيس الدولة وأنا "إبن الدولة؟" .. ها قد بدأت أهذي! .. مقابلة الموت أسهل من مقابلة الوزير أو الرئيس .. طبعا .. يكفي أن أتقدم الأن معصوب العقل وأجتاز ذلك الشارع المزدحم بسياراته المجنونة .. فتكون نهايتي .. ولكن ربما سيرفضون دفني .. فأنا لا أملك شهادة ميلاد ولا شهادة إقامة .. أنا نكرة .. لا .. لا .. القبور للجميع .. لكي تحصل على قبر لست بحاجة إلى ملف أو إثبات هوية .. لك الحق في الموت وليس لك الحق في الحياة .. -الكريمة-.ولكني لن أنتحر .. لست جبانا – أو شجاعا؟ - بما يكفي .. فعَلها ثلاثتهم .. أحمد ورائد وزكريا .. قفزوا السور إلى الجانب الآخر .. .اختاروا الموت على التشرّد والضياع .. في صباح يوم بائس من أيام الشتاء وجدناهم جثثا هامدة .. كان ذلك منذ خمس سنوات .. حين أُجبرنا على مغادرة مركز الطفولة المسعفة الذي أمضينا فيه ثمانية عشرة سنة ..

أنا لن أفعلها .. حياتي ليست ملك لي .. هناك غير بعيد عن أحياء المدينة الراقية .. حيث المنازل بحدائقها المعبّقة بشذى الورد .. يقبع بيت قصديري حقير .. - كوصمة في جبين الكرامة الوطنية- .. تنتظرني فيه زوجة حامل وابن يحلم بالذهاب إلى الروضة .. لا .. لستِ مجرد زوجة .. أنت الرفيقة والحبيبة .. والوطن والسكن .. أنت التي صالحتُ بك الأيام .. وغفرتُ بك لامرأة تُسمّى والدتي .. إمرأة أهدتني صرخة البداية .. ثم تلاشت. أما التي تبنّتني- الدولة - جازاها الله - فقد منحتني الحليب والوسادة والكتاب .. ثم انسحبت .. لا يمكنها أن تمنحني أكثر! .. وفي انتظار شهقة النهاية كان عليّ أن أمشي الطريق الطويل المعبّد بالحرمان .. وحدي. لولا أنك كنتِ معي .. رفيقة .. ثم حبيبة .. ثم زوجة .. في ليلة عرسنا البسيط في الميتم وعدتك أن أكون لك أبا وأنتِ لي أما ..

أنت وأنا .. يجمعنا نفس الإسم: الألم. ونفس اللقب: أبناء الدولة ..

من كان يُفترض بهم حمايتنا لفظونا إلى الدنيا واختفوا كما تفعل السلحفاة .. .غير صحيح .. .السلحفاة أكثر رحمة .. على الأقل تدفن بيضها في رمل الشاطئ قريبا من الماء لتضمن لأبناءها بصيصا من العيش ..

ما لي أفكر في هذا الأمر الأن .. ؟ لم يعد يهمّني أن أعرف أصلي ولا من أكون .. ما عدت أسأل أي ذنب اقترفت .. اقترفنا .. ولا أي جريمة ارتكبت .. وجودك في حياتي ألغى كل الأسئلة ..

أنا الأن أمام "البيت'' .. سوف أدخل .. ألقي بثقل خيبتي على كتفيك .. فتجلسين إلى جانبي .. تمسكين بذراعي .. وتهمسين لي "هناك ربٌّ كريم .. غدا يكون أفضل .. فقط لا تيأس .. " .. تجلبين لي القهوة .. أرتشفها في صمت وأنا أراقب 'كريم .. ' وهو يلعب ويقفز ويسألني بين الفينة والأخرى "بابا .. متى أذهب إلى الروضة؟" ..

كم أحب أن أنظر إليه ليلا وهو نائم .. تهدهده أحلام بريئة طفولية .. أقسمتُ أن لا أسمح لأيّ كان أن يغتصبها منه .. وحين تندسّين في الفراش إلى جانبي وأحتضن جسدك .. أحس بانتمائي الحقيقي .. وأطبق أجفاني على حقيقة واحدة .. هي أنت وإبني ..

أنتما أهلي .. .هويّتي .. وأنتِ .. أنتِ وطني الذي لا أعرف لي وطنا سواه.

 

آسيا رحاحلية

 

في نصوص اليوم