نصوص أدبية

سمكة الاكواريوم السمراء

asya rahahla شربت قهوتي على عجل. ارتديت ثيابي وخرجت...شاغبت سمكتي مبتسمة.."إلى اللقاء يا صغيرتي.. أنت هنا في مأمن.. لو كنتِ في البحر لأكلتك الأسماك الكبيرة." هدية أختي مروى في عيد ميلادي. خيّرتني بين عصفور وسمكة فاخترت السمكة.."أحب العصافير لكن خارج الأقفاص" قلت لها "ألن تكون السمكة في قفص مائيّ؟" قالت. "نعم" قلت "..لكنها سمكة صغيرة جدا..لن تدرك سجنها.. ستعتقد بأنّ الاكواريوم بحر".

كان الجو مشمسا ودافئا، مع أنّه الشتاء. كأنّه يوم ربيعيّ خائنٌ فرّ من فصله. ثمة كآبة في الأفق.. لكني تشجّعت.. وغلّقت في وجهها نوافذ القلب. قررت قضاء يومي خارجا. لن أشغل بالي بشيء. لابد من منح الدماغ إجازة..كما نمنحها للجسد.. يوم على الأقل في الأسبوع..لن أفكر بشيء..في هذا الزمن الصاخب السريع أصبح التفكير بذخا، رفاهة لم تعد تناسبني. راتبي الشهري داخل حقيبة يدي.. أقصد ما بقيَ منه. لم تكن لدي فكرة محدّدة عما سأفعل به.. ربما سأشتري معطفا. أحب المعاطف الأنيقة الفخمة.. ليس لأنها تحميني من البرد فقط بل من الاحساس بالخيبة أيضا.

سحتُ في الشارع المزدحم، دسست جسدي بين البشر محاولة جهدي تفادي الاصطدام.كل شيء مبالغٌ في حضوره.. الضجيج والسيارات والراجلين والمحلاّت والنساء والباعة المتجوّلون و.. المتسوّلون.

تساءلت لوهلة كيف ستبدو اللوحة لو أنّ عصا سحرية تمتد من السماء وبحركة واحدة تجمّد الحياة في الشارع..ستبدو كقطعة فسيفساء غريبة ومتناقضة و..مثيرة للضحك. الكل يبيع والكل يشترى..البعض يتحدث في الهاتف المحمول..بصوت مرتفع أكثر مما ينبغي. لم يعد غريبا وأنا أمشّط الشارع بخطواتي أن أكون شاهدة آذان على شجار بين زوجين أو صفقة تعقد بين طرفين أو حديث حب بين عشيقين أو اتّفاق على موعد بين مراهقين.

تذكرت أختي مروى. كانت تقول لي.. أصبحنا نعيش في العراء، التكنولوجيا أطارت بآخر ورقة توت كانت تسترنا....لم يبق يا أختي إلا أن نمشي في الشارع كما ولدتنا أمهاتنا.

تخيّلت المنظر، فابتسمت، ولعل بائع الملابس النسائية الداخلية الذي يعرض بضاعته على الرصيف، ظنّ أنّي أبتسم له، وربما رآني بخياله أرفل في إحدى المنامات الشفافة..

لم يكن النهار قد انتصف بعد عندما شعرت بالجوع. قصدت أوّل مطعم صادفني. ليس فخما لكن يبدو نظيفا و مرتّبا..لم أره من قبل في هذا المكان..المطاعم تنمو كالطحالب في كل انحاء المدينة.

المقاهي أيضا.. والمجانين.

طلبت طبق أرز بالدجاج. أحب الأرز ولا أجيد طبخه..حاولت مرارا.. وفي كل مرّة إمّا يكون غير ناضج تماما أو ناضجا أكثر من اللازم..تحضير الأرز يحتاج مهارة. مثل التفكير. لابد أن تكون الفكرة مستويةَ بدقّة. كل الخطورة تأتي من الأفكار النّيْئة.. تصيبنا بمغص فكري..

في جو المطعم تسبح أغنية رومانسية تعود إلى السبعينيات لمغنّي فرنسي. سرت في قلبي قشعريرة حنين. ..ما كدت أبدأ الأكل و فكري سارح مع الاغنية، حتى رأيتها تقف بالباب.. امرأة بلون الحنطة، رشيقة، طويلة القامة و العنق، مشدودة الظهر..جميلة رغم مظهرها المزري وحجم البؤس المعشّش في عينيها.. في حياة أخرى وبيد قدر آخر كانت لتكون عارضة أزياء مغرية ومشهورة ..وقعت عيني على قدميها.. كانت تنتعل شيئا يدعى زورا "حذاء".. شعرت بغصة وقفزت أمامي صورة مذيعة ظهرت على النت منذ أيام بحذاء مرصّع بالألماس.. كانت بي رغبة في البكاء لكني تماسكت..نظرت حولي.. لا أحد حرّك ساكنا لمرآها.. لا صاحب المطعم، ولا مساعده ولا الرجل المحترم الذي .لا أحد بدا أنّه يهتم. هؤلاء الماليات، الهاربات من الموت و الجوع، أصبحن جزءا من ملامح المدينة، قطعة من ديكور الشارع..صار منظرهنّ مألوفا كأنّهن وجدن في الأصل في هذه المدينة.. منذ أيام استغربت صديقتي كيف تستطيع فتاة ضعيفة البنية حمل حزمة ضخمة من الثياب فوق رأسها والسير مستقيمة تماما.. كنت أقول لها.. كيف يعجز عن حمل حزمة من القماش من يحمل أطنان التشرّد والغربة والمذلّة..

تقدّمت مني المرأة. أكيد شجّعتها نظرتي لها المشبعة بالشفقة..كان بيدها إناءٌ من الالومنيوم..شعرت فجأة بالشبع وبخز إبر في معدتي، وبكرهي الشديد للأرز وللرجل صاحب ربطة العنق المخططة ولصاحب المطعم.. وللحياة كلها.. حتى الأغنية العاطفية الرقيقة بدت لي موالا حزينا.

طلبت منها أن تقترب. أفرغت محتوي صحني في إنائها.. ثم أخرجت من حقيبة يدي بضعة وريقات دون أن أعدّها و دسستها في كفّها المتيبّسة.. شكرتني بإيماءة و غادرت المطعم تتبعها ابنتها.. طفلة في الثامنة تقريبا.. ترتدي أسمالا لا تكاد تغطّي جسدها النحيل.. جميلة جدا رغم بشرتها القاتمة السمرة.

..صرخت بأعلى صمتي.. يا الهي لمَ كل هذا البؤس على الأرض؟

ورأيت الكآبة، التي أغلقت عليها النوافذ والأبواب، تسقط بكل ثقلها في روحي.

بعد ساعات من التسكّع وأنا راجعة للبيت رأيتها.. هي نفسها، طفلة المطعم.. تقف غير بعيد عن والدتها أمام محل بيع اللعب، وقد الصقت جبينها وأنفها بالواجهة الزجاجية..

اقتربت منها.كانت ذاهلة، تحدّق في دمية "باربي".. سألتها.."تعجبك الدمية؟"..لا أدري لمَ ظننت بأنها ستفهم عليّ. التفتت صوبي. حدّقت في وجهي ولم ترد..بدت لي عيناها كعيني سمكتي الحمراء في الاكواريوم.. النظرة نفسها.. باردة ومدبّبة لكن نافذة وجميلة.. كان فيها بريق أخّاذ..وفكّرت وأنا أقلّب عينيّ بينها وبين الشارع المجنون.. يا إلهي.. لو أستطيع أن أحميها من أسماك القرش الكبيرة.

"تعجبك؟ تريدينها؟" سألتها وأنا أشير برأسي إلى الدمية في الواجهة مستعينة بتعابير وجهي و حركة يدي لكي أوصل لها المعنى.... هزّت رأسها بالإيجاب وقد اتّسعت نظرتها حتى خيّل إلي أنها ستبتلع الشارع وتبلعني. "انتظريني هنا". أكّدتُ عليها وأنا أهزّها برفق من كتفها. دلفتُ المحل مسرعة..دفعت ثمن الدمية دون أن أفكّر وهرولت نحوها، دسستها لها تحت ابطها وأشرت لها بأن تلحق بوالدتها.. ووقفت أمام المحل مسمّرة أشيّعها بنظرتي، بينما ظلّت هي تلتفت نحوي وتبتسم إلى أن واراها الزحام.

"حاذري من الأسماك الكبيرة.." سمعت صوتا بداخلي يصرخ بها..

في البيت حين فتحت حقيبتي كي أخرج هاتفي النقال لم يكن فيها مال، لكني رأيت سربا من ابتسامات طفولية تنتشر في سماء غرفتي الباردة.

 

آسيا رحاحليه

 

في نصوص اليوم