نصوص أدبية

حظ الحمير!

asya rahahla وطني لو شغلت بالخلد عنه...نازعتني إليه في الخلد نفسي.

 وفي النهاية، كل شيء بقضاء، ولا أحد يستطيع أن يمحو ما سطّرته الأقدار سواء لبني البشر أو بني الحمير! لقد تيقنتُ أن دنياي ستتغيّر منذ تلك اللحظة التي وقع فيها الضابط الأمريكي طويل القامة، أشقر الشعر، أزرق العينين صريع غرامي..

نعم..وعليّ أن اعترف بأني محظوظ، وأكثر شهرة من حمار الحكيم الفيلسوف أو حمار لوكيوس أبوليوس الذّهبيّ أو أي حمار آخر! صحيح اتّفق البشر وتعارف الجميع، ومنذ الأزل، أننا فصيلة غبية لا تفكّر ولا يمكن أن تحلم أو تحب أو تكره، بل تسخّر فقط للأعمال الشاقة المضنية..مطأطئة، صامتة، نعم أعرف هذا، لا داعي لأن تذكروني به، ولكني محظوظ رغم غبائي، بل ربما بفضل غبائي! ثم أن الاتفاق على مفهوم ما لا يعني بالضرورة أنه صحيح.. أليس كذلك؟

المهم أنّ الحمير أيضا يدخلون التاريخ. صدّقوني!

كان الضابط يرطن بالإنجليزية ويضحك ويصيح مناديا زملاءه ليروا المشهد. كفّه الناعمة تمسح على ظهري وهو يدور حولي ويتأمّل قوائمي وذيلي، مبديا إعجابه الشديد بلوني الرمادي وأذنيّ الطويلتين، كأني حيوان منقرض ظهر أمامه فجأة.. لعلّه لم ير حمارا في حياته فكنت اكتشافه العجيب..مع أني بكل تواضع، حمار عادي، طيب ورقيق رغم ما أثيره من مشكلات أحيانا، أحب أكل الجزر والتفاح، غير أني في ذلك اليوم اختطفت السيجارة من يد الضابط وأكلتها..وجدتها غريبة ولذيذة، فيها نكهة المغامرة وطعم الاكتشاف.. لا أدري لمَ فعلت ذلك، كان تصرّفا طائشا، ولكنّه تسبّب في تغيير مسار حياتي، يحدث أن تولد أمور جسام من أفعال صغيرة، وقد تنتج أحداث لم تكن في الحسبان جرّاء تصرّفات طائشة مجنونة، وبعض النار من مستصغر الشرر كما يقولون.. ألم يغيّر بعض الحكّام تاريخ أقوام فقط بسبب لوثات في أدمغتهم؟

حسنا..لنعد لذلك اليوم. أصبح (المارينز) أصحابي، لا يستطيعون الاستغناء عني. أصبحت جزءا من فرقتهم، تميمة حظهم، منبع سعدهم، رفيقهم وكاتم أسرارهم، لكن المدعو"جون" ارتبط بي أكثر من الآخرين، كان يمشي معي يوميا..مجرد المشي وأنا بصحبته يجعله سعيدا..مبتسما وفخورا كأنه يمشي برفقة ملك الملوك!

ثم.. أصبح لي اسم..أسموني "سْمَاوْكْ smoke".. لا أدري هل لأن لوني دخاني أم بسبب حادثة السيجارة أم نسبة إلى لون الرماد الذي صبغت به سماء "الأنبار" وأرضها وأشجارها وأطيارها منذ وطئتها أقدام أولئك الغرباء ذوي العيون الملوّنة.

قبل ذلك اليوم لم يكن لي اسم، لم أكن أسمع سوى: امش يا حمار، توقف يا حمار..آه تذكّرت، أحيانا ينادوني بأبي صابر..لكن أعجبني اسم "سماوك" شاعري أكثر..

الآن صار عندي اسم حقا، كنية، هويّة. يا لقدرة هؤلاء الأمريكان! يمنحون الهوية لمن يشاؤون وينزعونها ممّن يشاؤون!

هل تعرفون من ابتدع مقولة أنا أفكّر إذا أنا موجود؟ أعتقد أنكم تعرفون، أكيد.. أما أنا فسأطلقها أمامكم الآن، دون تردد وبفخر أيضا: أنا حمار إذا أنا محظوظ! نعم، وإلا كيف تفسّرون إصرار الأمريكي على ترحيلي إلى هناك، لا تفتحوا أفواهكم من الدهشة، نعم.. قرّروا ترحيلي إلى الجنة الموعودة! بلد العجاب وناطحات السّحاب..بلد الجن و...الجن والبقعة التي نحظى فيها نحن ذوات الأربع بمكانة يحسدنا عليها البشر..

لقد تعلّق (المارينز) بي وأشفقوا عليّ من واقعي المزري وأيامي البائسة..فقرّروا منحي التأشيرة على طبق من ذهب، نوع من رد المعروف ومجازاة لي على كوني صديقهم.. كم هم طيّبون ومحبّون هؤلاء الأمريكان! تمنيت فقط لوأخذتهم الرأفة أيضا بأسراب الطفولة المشعثة المنتشرة في الحي حيث كنت أقيم.. تلك الوجوه البريئة التي تعلوها غبرة الحرمان، كم تمنيت أنهم معي هنا، يستمتعون بطعم الجمال والرفاهة، كم أشتاق ضحكاتهم وصياحهم وحتى ركضهم خلفي ورمي بالحجارة.

كل التدابير أخذت من أجل تسفيري إلى موطني الجديد..لم يكن الأمر يسيرا ولكن لا شيء يصعب على امريكا!

وهكذا.. طرت من الفلوجة إلى نيويورك ثم إلى مدينة أوماها حيث أقيم حاليا.كنت سعيدا. ثم فكّرت..نعم لا تستغربوا، فأنا أفكّر.. فكّرت هل تكبّد الرجال كل تلك المشاق والمصاريف من أجلي فقط لأني حمار جميل رمادي اللون، أحفظ الود، أم أنّ في الأمر مكيدة ما؟ أصدقكم القول أنني استغربت وتوجّست خيفةً، فأولاد العم سام، كما يعرف الجميع لا يهبون شيئا مجانا وقد تذكّرت وهم محيطون بي، ما أوصاني به والدي دائما "لا تأمن لغير بني جلدتك!" قبل أن يلتفت يمينا وشمالا ويضيف "وحتى بنو جلدتك احذرهم قليلا!" لكني استغربت أكثر حين اكتشفت أنهم سمحوا لي بالدخول لأمريكا ليستفيدوا مني في تقديم الدعم النفسي للضباط المصابين.. أسمعتم؟ أنا سوف أكون الطبيب النفسي للعساكر الأمريكان!

ألن تشعروا بالسعادة والزهو لوحصل ذلك معكم أنتم؟

كنت أفكّر طول الطريق وأحلم..من يدري، فقد يحالفني الحظ أكثر فأدخل استوديوهات هوليود لأصبح نجما سينمائيا كبيرا أو أدخل مسابقة ملك جمال الحمير فأفوز بالسبق، أو ربما أصبح عضوا في البرلمان بعد أن أشارك في حملات الانتخابات الرئاسية. كل ذلك ممكنا..أليست امريكا؟

ولكن مالذي يحصل معي منذ أيام، لمَ أشعر بالحزن والاكتئاب؟ غريبة..أيمكن أن تشعر بالتعاسة وأنت في الجنة؟ ما هذا الإحساس المؤلم؟ كأني أعيش فوق كوكب آخر.. كأن الهواء غير الهواء والماء غير الماء، والأرض غير الأرض، يقتلني هذا الحنين إلى الصحراء، إلى الشمس يلفح شعاعها الذهبيّ جلدي، والرمل الدافئ الناعم الذي تغوص فيه قدماي.. لا أدري.. هل حقا أصبحتُ حمارا أمريكيا كما صرّح جون؟..هكذا بسرعة وبساطة؟ إذا من الذي يبصم الآخر البقعة الجغرافية أم السكّان؟ ومن يصنع جنسية الآخر: الأرض أم من فوقها؟ وهل مجرّد وقوفك فوق سطح أرض ما يجعلها موطنك أم أنّ هناك ما هو أقوى وأكبر وأعمق؟

كان جون يرد على من انتقد تكاليف نقلي إلى امريكا قائلاً: " لماذا ننفق مليارات الدولارات على طعام الحيوانات الأليفة في هذه البلاد؟ لماذا؟ لأننا نحب الحيوانات! ".

نعم، نحب..نحب..دائما الحب.. صحيح.. كل المشاعر الأخرى هراء! شعوران فقط يسيّران الوجود ويحرّكان الكون ويحدّدان العلاقة بين الكائنات: الحب والكره!..لا غير...لذلك أنا ألعن اليوم الذي أحبّني فيه الأمريكي وصدق من قال بعض العشق لا يجلب سوى الشقاء..! فأنا حزين وبائس وأريد العودة، وسأقولها وليغضب مني جون وأبوجون: إنّه لأحب إلى نفسي أن أكون كما ولدتُ، حمارا في الفلوجة، من أن أكون وزيرا في نيويورك!

...............       

* مستوحاة من قصة الحمار العراقي الذي تمّ ترحيله إلى امريكا.

 

آسيا رحاحليه/ أوت 2011

 

في نصوص اليوم