نصوص أدبية

غربة

forat almohsenأصحو فجرا وفي وهدة الروح أتلمس العشب الندي المرمي أمام نافذة شقتي. أتضرع للأفق المغلق الهابط بوحشته جواري، ونتف الثلج تهبط مترنحة بتؤدة فوق الحاجز الخشبي. نثار الثلج ألملمه وسادة رخية، وشاحا من لعل وأين ومتى. شيء من الذاكرة يثقب ذاك الصمت، الصمت أكبر من صوتي، يخال ليّ أن الشفق المرمي في البعيد وحيدا، مستنزفاً، ثقيل الخطى كان.

تخونني الذاكرة وتسكنني المساءات البليدة، عندها تخطر القطارات دون مسافرين، وصحف المساء تتوسدها المقاعد، وظلالي تخترقها الريح ويقلقها الضجيج، والدروب الموحشات ملأن جعبتي بالفحيح.

في هذا الفجر الرمادي المبلل بالمطر والثلج، مرميا كنت في المتاهات وحيدا.

كل شيء أمسكه ساعة وجل لأطبع فوقه القبلات دون حساب، أذر روحي في رتابة نقرات حبيبات المطر، أرصد دحرجتها وهي ذاهبة لتنحر فوق أرصفة الشوارع، أعد صدى خطوات العناكب المتعبة وهي تلحس جدران روحي، تفسد رغيفي بنهمها، تبعثر أوراقي الندية دون كلل. وحيدا دون صحبة كنت.

ممكن.. ممكن.. في هذا المساء الشتائي البليد الذي يحمل أثقاله نحو عامي السابع من بعد الستين.

ممكن..لأنامل رقيقة ظليلة بأريج السنابل أن تمسك هذه الساعة جنح فراشة وتدسه فجأة وبيد رقيقة بين شغاف قلبي، وريح أرجوحة من ياسمين تعطر يومي المثقل بالصدأ، وتضع هنا بين جدران روحي شغف ذكرى كركرة يتردد صداها في صدر شيخوختي. كركرات طفولتي المبهمة تتنهد في الفجر لتداعب حلمة عصية تجلس عند شرفتي دون وجل لتبعد الملل. ممكن.. أرى ضوء الشمس يتسلل رويدا رويدا ويمسد جدران غرفتي الصماء. تنقلني خضرة الحقول لتلك المدن الصاخبة، هناك حيث بدأ أصحابي لعبتهم الأولى دون حساب، هناك حيث يلبط جسدي رخيا خفيفا في غمر الشط وتناديني بخوفها أصوات حشد نساء، لا تبتعد أيها الشيطان الصغير.فأضج ضحكا وألبط ألبط، ألبط في البعيد.

على غفلة لكزتني الغربة

ـ لا تذهب بعيدا.

 

فرات المحسن

ستوكهولم

 

في نصوص اليوم