نصوص أدبية

نزفٌ منفرد

asya rahahla لم أستطع التركيز فيما كنّ يثرثرن به.

بخار النفاق يسبق الكلمات..الملامح يغشاها ضباب الكذب، والمصلحة الشخصية.

عبارات مصطنعة متبادلة بين الحضور بنفس الكثافة من الزيف والتملّق.

 

ووجدتني أستحضرك وأشرد فيك.. هكذا دائما... كلما تضعني الظروف، ظروف عملي، في بؤرة للنفاق أجدُني أحنّ للقائك والاستفراد بك.تفضحني رعشة صدري شوقا لاحتضانك، ولهفة خدي لملامسة وجهك، وحنين أناملي للمرور على زندك، وتوق أذني لانسياب أسراركَ فيها... أيها العظيم.

 

وحدك الصادق... الكل كاذبون ومنافقون. وحدك الواضح، الجميع مداهنون. وحدك الفصيح...كم في حديث البشر من نتوءات والتواءات وحفر!

 

انسحبت بهدوء من جمع المؤنث المسالم دون أن يلاحظني أحد.

 

شوقي إليك يسرقُني منّي دائما، يسرقني من كل ما حولي فأترك العالم خلفي وأجيئك.

 

ليس من مجرم مثل الشوق، وأعرف بأنّ بك من الشوق بقدر ما بي أو أكثر. تبوح لي بذلك أوّل نقرة بالريشة على شرايينك... حتى أني أحيانا أسمعك تناديني مثلما ناديتني أوّل مرّة... هل تذكر؟

 

تلك الصبيحة الخريفية في المدينة الكبيرة الصاخبة و.. أبي، يمشي بي في شارع مزدحم باتّجاه طبيب العيون. يمناي الهشّة الناعمة تمسك بيد أبي الخشنة القوية، بينما يسراي تحاول إحكام خماري فوق رأسي.

 

 كنت معتادة على شعري مسافرا في الريح، يسابق خطواتي، يساير سنيني الاثنتي عشر، لكن قرّر أبي وأخي الأكبر أن أتحجّب في تلك السن، فكان ذلك، وبدأت أتعلّم ترويض خطواتي وكلماتي و نظراتي، ترويض جموح طفولتي ليتوازن شعري المغطّى باحتشام مع حركاتي المتمرّدة و جسدي الطفولي المشاغب، وافكاري البسيطة العفوية... لكني حين لمحتك، تقف خلف واجهة إحدى محلات بيع آلات الموسيقى، بعدما دلف أبي ليجلب الدواء من الصيدلية، مشيت اليك مأخوذة بسحرك كمن بها مسّ من جنون، ولم أفق إلا وصلابة زجاج الواجهة تصدم جبهتي... أبصرتك بكامل عنفوانك، وسمعتك تناديني بلغة نائية عشقتها روحي، كادت تندثر لاستطالة هجوعها في كنف الإهمال.

 

لم أتمالك. تسمرت قدمي في الأرض. لم أحفل بصرخات أبي، ونهره لي، بل لم أكن أسمعه إلا رجعاً بعيدا من كهوف بعيدة. شدني صوتك قبل أن أسمعه، سحرني شدوك و لمّا يصل أذني بعد، داعب فرحي وحزني، انسكبت على مكمن عطش في روحي... أفاقت بي جنون عشق غابر فارقته منذ حقب وداع..

 

 هل التقينا قبل الآن؟ في أزمان مندثرة من التاريخ؟

 

 تمردت أصابعي على يد أبي، وقدمي بعناد تتشبث بالأرض. أطلقتُ شهقة إعجاب، وجريتُ نحوك ثانية.

 

وقفتُ مبهورة أتأمّلك... ووقعنا في العشق من أوّل نظرة..

 

ذلك اللقاء الأول بيننا كان بداية لبعث ولعي بك وبالموسيقى، لقاء أزاح عن ذاتي تراكم غبار الأزمان...

 

ذلك اللّمعان والجمال والعنفوان، تلك الأصالة والعراقة والأناقة والزخرفة..

 

ذلك السحر المنبعث منك فتنني بك.

 

وقف الجميع في وجه حبي لك. صادروا حقي في عشقك. قال أبي بأنّ الموسيقى مزمار الشيطان، وقال أخي بأنّ آخر ما يريد أن يسمعه مني هو أن أدرس الموسيقى..أخي! كم طرأت عليه تغييرات في تلك الفترة !.. أطلق اللحية وقطّب الجبين. لم يعد يبتسم لي أو يلاعبني، الغريب أنّه وهو الذي لم يكن يفوّت الصلاة في المسجد، كنت أراه، حين أمر بدكّانه، يخلط الفاكهة الجيّدة بالفاسدة ثم يبيعها للزبائن!

 

والدتي كانت تردّد كلاما كثيرا عن واجبات البنت، وكيف عليها أن تتقن جميع مسائل البيت لكي تكون زوجة صالحة و ربّة بيت ممتازة.

 

وكم كان صعبا على عقلي المتوثّب الحرون أن يعي كل ذلك. كم كنت لا أفهم كيف يفكّرون، ولا أستوعب أبدا كيف تكون الموسيقى رجسا من عمل الشيطان وأنا أسمع الطبيعة تدوزن الوجود من حولي، كيف وفي الطبيعة لحن الحياة الخالد؟ كيف و لو أنّ الوجود يندثر ولا تبقى سوى نوتة واحدة لأعادت تشكيله؟

 

 كنت أصرخ فيهم بصمتٍ مدوٍّ.. أيها الطُرش، أيها العميان، صمّوا آذانكم إذا استطعتم عن زقزقة الطير، و هدير الموج، وهزيم الرعد وحفيف الأوراق وخرير الماء في الجداول.

 

لم يكن ممكنا أن أقتنع بأفكارهم، وكنت أحسّ بأنّي كلما اقتربت من الموسيقى؛ اقتربت أكثر من الشفافية والجمال، وكلما تغلغلت الموسيقى في وجداني؛ ارتقيت واقتربت من القداسة ومن الكمال؟

 

لعلّ البشر قبل وجود اللغة كانوا يتواصلون بالموسيقى... لعلها لغة أهل الجنة.

 

ولم تفلح أفكارهم المسمومة، ولا تهديداتهم بحرماني من الدراسة لو أبصروك في حضني أو لمحوا على شفتي ظل ترنيمة... لم تفلح في ابعادي عنك، ولم تستطع نظراتهم المشبعة بالاحتقار، المدجّجة بالتهديد والوعيد أن تجعلني أتوقّف عن عشقي لك، وولعي بالموسيقى، بذلك الرباط القوي، العروة المتينة بين الموسيقى والسماء، بين الموسيقى والنقاء، بينك يا رفيقي وبين المحبة والسلام والحرية.

 

ولأنّ المآسي لا تأتي فُرادى؛ فقد شاء القدر أن يخطف الموت أبي وأمي في وقت واحد. حادث سيارة رهيب حرمني من أحبّ الناس إلى قلبي. أصبحت في العراء، وحيدة بلا سند.

 

كانت الصدمة عنيفة، وكان الألم أكبر من أن أتحمّله. استنفدت رصيدي من الدموع، ثم ركنت للانزواء والوحدة والصمت، وكنت مع مرور الأيام أتحدّث أقل، وأعزف أكثر.

 

أوحشني الغياب، وآنستني الموسيقى، قتلني الحزن، وأحيتني السكتة الموسيقية.

 

كنت قد انتقلت للعيش في بيت عمي / لم يزد ذلك زوجة أخي إلا سرورا /. وحين سألني عمي ماذا أريد كهدية لتفوّقي في اجتياز شهادة البكالوريا، قلت على الفور "أريد التخصص في الموسيقى."

 

ووافق عمي. كان واضحا أنّه أشفق عليّ... وأحبّ أن يرضيني، أن يعوّضني عن حزني وألمي لفقدان والديّ. كان عمي مختلفا بعض الشيء عن أبي، وعن رجال كثيرين في عائلتي الكبيرة... لم يرزق سوى بالذكور فكان يبدي اهتماما خاصا بي.

 

أعود إلى البيت.

أفتح باب غرفتي بهدوء مخافة أن يصلك غبار الثرثرة الهاطل من الشارع المجنون.

 

خشيت دائما أن تتأثّر حبالك الصوتية بصخب الحياة، وسخف البشر خلف الجدران...

أتقدّم نحوك بخفة فراشة وشوق عاشقة. أبتسم. أمسح بكفّي على ظهرك الأملس الناعم. احتضنك بحب و شوق... أجد في حضنك حضن أمي فتنهمر دموعي.

 

ولساعات أظل هناك منفردة بعزفي. منفردة بنزفي.

 

آسيا رحاحليه

 

في نصوص اليوم