نصوص أدبية

آسيا رحاحلية: قضية شرف

asya rahahliaصرخاته بلا صدى .. تتبخّر في جو الزنزانة الضيّقة. أحشاؤه تتقطّع والدماء تسيل من أنفه وفمه. لحمه يتمزّق، وعظامه تتكسّر كسلّة بيض تحت قدم فيل .

بالكاد كانت أنفاسه تغادر رئتيه وكأنّ الهواء نفد منها.

تقاذفوا جسده مثل كرة.. كانوا ثلاثة.. غلاظٌ شدادٌ كأنهم من حراس جهنّم .. طحنوه تحت نعالهم طحنا.

استل أحدهم سيفا يكاد يصل طوله إلى المتر، لمع نصله في ظلمة الزنزانة . همّ بأن يهوي به على عنق مسعود ..لكن صوتا أوقفه "لا..لا تفعل !..اتركه .. ليس لدينا أمرا بقتله ."

فكّر مسعود لوهلة بأن ينهض ويقبّل رأس صاحب الصوت إلاّ أنّ قواه انهارت تماما .

 بدأ كابوس مسعود حامد منذ يومين ..كان الوقت صباحا حين وقف اثنان من الحرس بباب كوخه،ارتعب مسعود . الملك يريدك في أمر هام .. قال له أحدهم ... حاصرته الوساوس .ترى ماذا يريد مني الملك؟ .. هل سمع بإنجازاتي في الشعر فأراد سماعي؟ أو علم بمهارتي في صنع السّلال فأحبّ مكافأتي؟ فكّر مسعود مستهزئا، فهو يعرف،والجميع يعرف،بأنّ كلمة مكافأة لم تكن أبدا في قاموس الرئيس،فكل ما يدبّ على أرض المملكة أو يطير في سمائها هو له، يأخذه وقتما يشاء، طوعا أو كرها .

قال الملك " ارموا به في الزنزانة ..سأنظر في أمره لاحقا . ولا تنسوا أن تكافئوه ".

و كم كانوا كراما في المكافأة !.

صرخاته ترتطم بجدران الزنزانة الضيقة، إحدى دهاليز الموت، كما شاع في البلاد كم رويت عن تلك الزنزانات من قصص يشيب لها الولدان..

لكن ماذا كان يريد الملك من مسعود؟ رجل بائس في العقد الرابع من العمر.. يقاسم والدته بيتا من طين، يقضي نهاره في صنع سلال من سعف النخيل يبيعها في سوق القرية يعيش من ثمنها ..و في الليل تحوط به شياطين الشعر فيكتب القصائد الطويلة .

أفاق من غيبوبة الألم على صوت يسأله:

- ما مشكلتك؟

فكّر أنها هلوسات حمى أو أنّه ربما يكون قد مات وانتهى وهو الآن مُسجى في القبر، وهذا صوت أحد الملكين يسأله " ما دينك؟ "

- ما مشكلتك؟ هل أخذها منك؟

تكرّر السؤال بشكل أقوى هذه المرة .

تحامل مسعود على وجعه، فتح عينيه، رأى يدا سوداء خشنة تتقدّم نحو فمه بكوب ماء .. وأحسّ بأخرى تسند رأسه . التفت صوب الرجل .

- من يحدّثني؟ من أنت؟ ومن أخذ من؟

- زوجتك؟ هل ضمّ الملك زوجتك إلى حريمه؟

قال مهمهما بصوت ضعيف :

- زوجتي ليست جميلة ولا بناتي ..

ثم استطرد :

- بناتي؟ ما بالي أهذي؟ أنا لست متزوّجا أصلا ! لست متزوّجا يا هذا .

- قطعة الأرض إذا أو بساتينك؟

- لا أملك شبرا واحدا على هذا الكوكب .

- وماذا يريد ملك الملوك من معدم مثلك؟

- إنه يساومني في شرفي و.. الشرف أغلى من الروح كما تعلم .

- شرف؟ هل تهزأ بي؟ ألم تقل بأنك غير متزوّج والأمر لا علاقة له بعائلتك؟

- وهل الشرف يتحدّد؟..شرف زوجتك أو ابنتك أو أختك أو كلمتك أو فكرتك أو قضيتك .إنّه الأمر نفسه .

تبا لكم وأنتم تحصرون الشرف في حيّز ماديّ معيّن عند كل كائن في الأرض أو في السماء ينتهي اسمه بالتاء المربوطة !

- الملك يريد الاستيلاء على أشعاري وكتاباتي ونسبها لنفسه ..يريد أن يشارك بها في جائزة " عكاظ ملوك الأرض " .

- هذا أمر هيّن. ليت مشكلتي كانت كمشكلتك .طاوع الملك وسوف يكافئك وتحظى عنده بمكانة عالية .

- لاااا ... مستحيل . إلا كتبي وأشعاري . إنها روحي ودمي وشرفي ولا أحد يفرّط في شرفه .

- أنا نصحتك وأنت حر . ستكون ميّتا قريبا ولن تنفعك كتبك .

ثم اقترب الرجل من مسعود أكثر حتى كاد يلتصق به وقال بصوت يكاد يكون همسا :

- اسمعني . سأخبرك بما سيحدث إذا لم تذعن له . سيدخل أحدهم بعد قليل ويضع أمامك هاتفا نقالا وسكينا حادة، ثم يطلب منك أن تظل هادئا مكانك إلى أن يرن الهاتف ويتصلون بك .

- من .. من سيتصل بي؟

- لا أدري . أحد هم سيطلب منك أمرا وتنفّذه بحذافيره وإلاّ الويل لك، لا أريد أن أثير فيك الرعب أكثر مما أنت فيه ولكن صدّقني منذ يومين كان معي هنا في هذه الزنزانة شخص يدعى أبا ريشة،، يبدو أنّه صحفي .اتّصلوا به بالهاتف وطلبوا منه أن يمسك بالسكين ويقطع لسانه . وفعل المسكين . كان مشهدا رهيبا . امتلأت الزنزانة بالدماء . وبعد ساعات وبعد أن نزف آخر قطرة حبر مات .

- يا للهول !

- نعم . الأمر رهيب فعلا . بالنسبة لك أعتقد سيطلبون منك قطع أصابع يديك العشرة .

- يا الهي ! قطع لسانه بيديه ..لماذا؟

- لأنه حين تحدّث عن الملك في مكان عام لم يرفق كلمة " ملك " بلفظ " جلالة الملك ".

كان العرق يصبّب من كل جسد مسعود وفرائسه ترتعد وكان الرعب قد ملك عليه كل حواسه . وانهار تماما حين فتح باب الزنزانة ودخل حارس ضخم الجثة بشع السحنة ودون أن ينطق بحرف وضع الهاتف والسكين أمام مسعود وانصرف .

 بعد لحظات رنّ الهاتف .انتفض مسعود كمن لدغته أفعى . التقط الهاتف من فوق الطاولة وبيد محمومة مرتعشة قرّبّه من أذنه .

- ألو ألو ..

- ..............

- ألووو؟

- ألوو ..نـ، نــ، نعم ..

- ألو ..الأستاذ مسعود حامد؟ صباح الخير . معك الدكتور محمد رزق رئيس دار القلم للنشر .أريد إخبارك أنه تمّت الموافقة على طبع ديوانك " قضية شرف " وقد تقرّر الدار المشاركة به في جائزة رئيس الجمهورية لهذا الموسم .

- ..........

- ألووو؟

- نــ نـــ نعم ..الأستاذ مسعود معك . شكرا .

وضع مسعود الموبايل جانبا . قام من سريره بصعوبة، أحس بوهن شديد، مسّد جبينه بكفّه، زفر بارتياح ثم راح يتأمل هيئته،و يمرر كفيه على كامل جسده كأنّما ليتأكّد من حقيقة وجوده .لحيته التي لا يذكر منذ متى لم يحلقها نبتت، بيجامته المكرمشة تفوح منها رائحة العرق .كم من الوقت مرّ وهو نائم؟ جرّ قدميه باتجاه الحمام وفي الرواق الضيّق لمح سحنته في صفحة المرآة الصغيرة المثبّتة على الجدار . وقف يحملق في وجهه .

كان خيط رفيع من الدم يسيل من أنفه .

 

في نصوص اليوم