نصوص أدبية

أيامي العجاف..

asya rahahliaيقتلني هذا الفراغ.. يفتّتني، يحيلني أشلاءً . أحسّه بداخلي .. يثقل كاهل أيامي ..يغتال أنوثتي.. يفقدني الإحساس بنفسي وبالعالم . يد الزمن تجلدني بسياط الحرمان والقنوط، فتحيلني كائنا من حزن..امرأة من خواء.. بلا غد، بلا هوية، ولا تاريخ، ولا عنوان .

أرض بور أنا ..نخلة تطرح عراجين الدمع، قمر هجره الضياء ...سماء خاصمتها النجوم ..حديقة ضربها الجدب ونسيها الربيع، صحراء قاحلة لا تنبت شيئا، ولا حتى الصبار .

هذا صباح آخر .اليوم أيضا سأرتدي وجها غير وجهي..سأستعير ملامح امرأة ليست أنا، امرأة مستسلمة، راضية، لا تكترث أبدا، أو ربما تكترث قليلا..قليلا فقط .

- صباح الخير .هل نمت جيدا؟ .

- صباح الخير .نعم . شكرا .

صباح الفراغ الذي يملأني ولا أعرف كيف أملأه . هل نمتُ جيدا؟ طبعا نمت، بعد أن راجعت دفتر حرماني .. بعد أن تأكدت كم يلزمني من الصبر والإيمان لكي أستطيع أن أستمر.

أنت تبدو بحالة جيدة . هل أصدق أنك لا تكترث؟ أيمكن أن لا يقلقك فعلا؟ " هوني عليك حبيبتي .أحبك أنت ولا يهمّني أي شيء آخر " . قد تكون صادقا، ولكن ألا تشعر بالملل، ألا يعتريك اليأس وأنت طيلة سنوات تزرع بذورك في البحر؟ وماذا بعد سنة أخرى، أو سنتين، أو خمس؟ هل ستسألني نفس السؤال، إذا نمت جيدا؟ هل سيعوّضك حبي، دائما، عن رغبة تعتمل في أعماقك؟ تحاول إخفاءها فتخونك نظراتك وتنهّداتك .

هل تعتقد أنها تفوتني تلك التعاسة التي أقرؤها في عينيك كلما سمعتَ بكاء طفل أو ضحكه؟

نتقابل على مائدة الفطور . نحتسي قهوتنا . نحتسي معها حلما جميلا رأى النور في ليلة العمر، ثم ظل يتأرجح بين الحياة والموت، إلى أن لفظ آخر نفس، ذات صباح حزين، بسقوط الحكم النهائي " عقم ناتج عن تشوّه خلقي " .

نتجاذب أطراف الصمت .ثم أخيرا، نتبادل بضع كلمات ونغادر . كل إلى عمله .

يتلقّفني الشارع . الشمس ترسل ابتسامة خجول، دافئة، في انتظار أن تكشّر عن لهيبها الحارق . ظلي المشوّه يرافقني . ترى من منا ظل الآخر؟

أسرع صوب المستشفى، يدعوني الواجب، اليوم أيضا سأضع آخر لمسات الفرحة في حياة نساء أخريات . يسابق خطواتي شعور بالضآلة والدونية، والغربة، عنّي، عن كل ما حولي، عن جسدي .

آه يا جسدي اللّدود، يا أعضائي الخائنة !

ألمح وجهي في واجهة محل.. من أنا؟ امرأة؟ رجل؟ نصف امرأة؟ أقهقه في سري، ضحك هستيري يدغدغ ضلوعي ..أتحسسّ جسدي بأنامل خيالي،أتلمّس مواطن أنوثتي ..لست رجلا، ليتني كنت رجلا، ولو غبيا بما يكفي ليجد القدرة على أن يكون سعيدا .

تمر بقربي امرأة، مزهوّة كطاووس . تتأبّط ذراع رجل ليس أقل منها زهوا . بطنها المكوّر يسبقها بخطوات .تنظر إلي . هل تعرفني؟ هل تعرف أني لا أشبهها؟

أنا لست رجلا، ولست امرأة أيضا.

المستشفى مكتظ كعلبة سردين، كأن المدينة كلها تصب هنا . في الرواق المؤدي إلى غرفة التوليد بضع نساء يتمشّين، يتلوّين من الوجع .

يا لحظي التعس ! ما أسهل ما تحبل النساء !

أدخل غرفتي . أغيّر ملابسي . يستدعونني بسرعة . امرأة تعاني المخاض .

أمدّدها على الطاولة . صراخها يشتد . يتقارب . يعلو . ألمها يتضاعف . يصبّب العرق منها . يتشنّج جسدها . تستنجد بي  نظرتها ودموعها .

أم لخمسة أطفال، والآن يأتي السادس .

يتدفّق الدم . وأمد يديّ، أنا، أنا التي يستوطن الفناء رحمي منذ سنين، أمد يديّ، وبقوة، ومن رحم المرأة أنتشل الحياة، من ظلمات ثلاث أسحب النور .

- إنه صبي ." مبروك " .

المرأة تبكي،ثم تبتسم .نصف ابتسامة، واهنة . أحملق في حبّات العرق فوق وجهها وعنقها .إنها ترتفع . تدور . تستحيل بلورات ماسية . تتجمّع فوق رأسها . تشكّل تاجا من نور . يتلألأ . يكاد يعمي بصري .

المرأة تبتسم في ضعف . الوليد يصرخ بحدة . وفي أعماقي يتصاعد رجع الحرمان . يغلي عطشي للأمومة، لأن أعيش اللحظة، ولو مرّة واحدة .. واحدة فقط .

أهتم بالوليد . أنظّفه . ألفّه في ثياب بيضاء .أحمله بين ذراعي . أشدّه إلى صدري . برفق ثم بقوّة . حضني يغدق عليه فيضا من الحنان، بينما بضع كريات سوداء، مسمومة، تحاول التسلل إلى قلبي لتلوّث دماءه .

أحمل الوليد إلى أمه . أضعه على السرير إلى جانبها . تشكرني وتدعو لي . أركض إلى غرفة القابلات . أوصد الباب خلفي . وأبكي ..أبكي..أبكي..و أستجدي مزيدا من الدموع علّها تغسل ما علق بروحي من أدران الحسد .

أرفع رأسي إلى السماء :

- ساعدني يا رب .

أدخل في صلاة وجدانية، يتضرّع فيها قلبي وروحي هربا من شرنقة الحسد والغيرة والكره .

أسمع طرقا عنيفا متواصلا على الباب .

زميلتي تصرخ :

- نوال . أسرعي .امرأة أخرى على وشك أن تلد الآن.

 

أسيا رحاحلية

من مجموعة / ليلة تكلم فيها البحر / 2010

 

في نصوص اليوم