نصوص أدبية

أَرْبَعُونَ نهاراً والمَوْصِلُ الأُفُق‏

من القمحِ كانَتْ تَجيءُ‏

مُعبأةً بشذَى الخُبْزِ واللبنِ القُرَويِّ‏

amjad mohamadsaeed

أَرْبَعُونَ نهاراً والمَوْصِلُ الأُفُق‏

أمجد محمد سعيد

 

بَيْنَ قَوْسَيْنِ مِنْ مَرْمَرٍ ودُمُوعٍ‏

أُسَرِّبُ ظِلّي إلى الآسِ‏

والطُرُقات العَتيقةِ‏

أُطْلِقُ شَمْساً شِتائيَّةَ الثَّوْبِ‏

ملفوفَةً بالمنازِلِ والمتعبينَ‏

أُسَمِّي الطَريقَ إليها هَوايَ‏

وأَمنحُ للسنواتِ رُجوعي،‏

سَأعبُرُ جِسْرَ المدينةِ‏

مِنْها- إليْها‏

ألُفُ الأزقّةَ في الفَجْرِ‏

غُصْناً فَغُصْناً‏

وَجُرْحاً فَجُرْحاً‏

أَدورُ على العَتَباتِ النَّظيفةِ‏

رُكْناً فَرُكْناً‏

وَقَلْباً فَقَلْباً...‏

... عَلى جانِبٍ مِنْ سَماءٍ‏

شَماليّةِ الريحِ‏

قُرْبَ المخاوِفِ والأمنياتِ‏

تَفَيّأ ذاكَ الفَتى نَجْمةً في السطوحِ‏

احْتوى قَمَراً حَطّ في كَفّهِ ذاتَ حُزْنٍ‏

وَهَيَّأَ مِنْ حُلْمِهِ قارِباً‏

يَعْبُرُ الليْلَ‏

والجوعَ‏

يَكشِفُ أعجوبةَ الجَسَدِ الأنثَويِّ‏

يُقبِلُ تحتَ مصابيحَ واهنةٍ‏

كَنْزَهُ المُستنيرَ‏

يُسافِرُ في شَفَقٍ قُرمِزيٍّ‏

وَيَدْخُلُ بَسْمَلَةَ الاخضِرارْ.‏

كانَ الجَسَدُ الطِفْلُ النابضُ‏

بَيْنَ يديكَ لَهيباً‏

فَصْلانِ رَبيعيّانِ‏

وَعَشْرةُ أقْمارٍ‏

وشموسٌ أرْبَعُ‏

تَنسابُ عَلى النَهدَيْن.‏

خَدّانِ مِنَ القُطْنِ الأبيضِ‏

كَفّانِ مِنَ العَسَل الجبليّ‏

وخُضرةُ عَينيْها حَقْلٌ ساطِعُ‏

طَيَّ ذُهولِكَ‏

أوّلُ أسْرارِ الأنثى يَفْتَحُ باباً‏

خَلْفَ جِدارِ البَيْتِ الجُصيَّ‏

جِوارَ الخَوْفِ‏

وَبَيْنَ حَريقِ التُفّاحِ‏

عَرَفْتَ طريقَ البستانِ‏

زُقاقٌ يصبحُ مَمْلَكةً‏

وَمَساءٌ أطيبُ مِنْ كُمّثرى‏

وظَلامٌ أدْفأُ مِنْ مِعْطَفِ صوفْ.‏

.......

في حِوارِ الأزقَّةِ والنَّهْرِ‏

يَمْضي الفَتى سادِراً‏

فَوْقَ طينٍ وخَوْفْ.‏

يَتَملّى غُيومَ المدينةِ،‏

أعوامَ أزْهارِها‏

زَهْرةً زَهْرةً‏

وأَوانَ الربيعِ‏

رَبيعاً ربيعاً

مَآتِمَ شُطآنِها‏

وشواهِدَ أبنائها‏

شاهِداً‏

شاهِداً‏

يَعبُرونْ.‏

يَجْلِسُ اليومَ مُبْتَسِماً‏

بينَ قوسينِ‏

من حَجَرٍ وبُكاءٍ‏

عَلى مِسْطَباتِ الحَدائِقِ‏

مُنْفَرِداً‏

مَعَهُ أربعونَ نَهاراً‏

على دَكّةٍ مِنْ رُخامٍ وعُشْبٍ‏

يُراجِعُ أشعارَهُ‏

وَيسوّي جَدائِلَ دَجلةَ‏

إثْرَ الحَريقِ الأخيرِ‏

يُصَفّي حِسابَ الشبابيكِ..‏

خارطةٌ مِنْ مصابيحَ‏

طَيْرٌ‏

سَتائِرُ‏ تَدخُلُ شيئاً فشيئاً‏

إلى ظُلمةٍ ورَمادٍ‏

مَناديلُ أتلَفَها الدمعُ‏

نافذةٌ أطفأَ الثلجُ شمعَتَها‏

شارعٌ تاهَ..‏

بيتٌ يصيرُ إلى حَجَرٍ وتُرابٍ‏

ظِلالٌ أضاعَتْ طريقَ الرُّجوعِ إلى الدارِ‏

غزلانُ تبكي‏

من القمحِ كانَتْ تَجيءُ‏

مُعبأةً بشذَى الخُبْزِ واللبنِ القُرَويِّ‏

انْتهتْ في أغاني المحبّينَ‏

مَرْثيَّةً من بنفسجِ ما يحمِلُ الحقلُ والغيمُ..

..........

قَوْسانِ‏

من مَطَرٍ وغصُونْ.‏

لِنَهارٍ بحجمِ المحبّةِ‏

ليلٍ بحجمِ الظُّنونْ...‏

أإلى غابةِ السنديانِ تريدُ..‏

الطريقُ إليها معبدةٌ‏

فَتَمَشَّ إليْها‏

صِلِ النَّهْرَ بالذاكرةْ‏

والأماني بفُقْدانِها‏

والنَّدى بالخريفْ.‏

وتَعَلّقْ برمْلِ الشَّواطِئِ‏

بالساحِلِ الأبديّ الذي لَنْ يَخونْ.‏

أربعونْ‏

أربعونْ.‏

أربعونَ نَهاراً مَضَى‏

لَسْتَ تملِكُ شَمْساً‏

ولكنّها أربعون مَداراً مِنَ الوَهَجِ المَوْصِّليِّ‏

وَلَيْسَ لدجلةَ إسْمٌ وحيدٌ‏

ولكنّهُ أربعونَ وَريداً مِنَ الرئتينْ.‏

أربعونَ نبياً‏

عَلى خَطْوِهِمْ.‏

وَضَبابِ منائِرهمْ‏

فَتَحَ القلبُ شُبّاكَهُ‏

اشتَعَلَ الصُّبْحُ‏

- يا زورَقاً فوقَ دجلَةَ يَسْري-‏

على مَهَلٍ‏

نَقِفُ الآنَ جِوارَ القلعةِ‏

عندَ السورِ الحَجريّ قليلاً‏

نشرَبُ مِنْ عَيْنِ الكبريتِ هَوىً‏

وَنَمُرُّ عَلى الجِسْرِ الأولِ‏

بالمقهى الغائبِ في قَعْرِ النَّهْرِ‏

وبالسوقِ الشّعبي الغابرِ‏

آهٍ‏

لا تملِكُ شيئاً‏

لكنّكَ تملِكُ كُلَّ المَوْصِلِ‏

أرصفةً‏

وحدائقْ.‏

غَيْماً‏

وحَرَائقْ.

..........

... بَيْنَ قَوْسَيْنِ‏

مِنْ شَجَرٍ وَسَحابٍ‏

يَعودُ المَساءُ إلى البيتِ..‏

قنطرةٌ تُغلِقُ البابَ‏

خَلْفَ نوافذِكَ الخَشَبيّة‏

تَغْزو الحِكاياتُ وَهْمَ الصغارِ‏

أمامَ المواقِدِ‏

تَنْعَسُ‏

تَأكُلُ جَوْزاً وتيناً‏

تَنامُ‏

أتنامُ الآنَ..؟‏

بَدا الصُّبْحُ‏

ارتفعَ التكبيرُ مِنَ المسجدِ‏

والثلجُ علَى الأبوابْ.‏

العرباتُ ستركُضُ قُرْبَ النَّهْرِ‏

تعودُ الخَيْلُ وحيدةْ.‏

الزورَقُ يمشيْ‏

والشاطئُ مفتوحٌ‏

والدُّنيا مَطَرٌ‏

.. أفتحُ نافذةَ الفَجْرِ‏

أُخَلّيها تتنفسُ مِثْلَ الأشجارِ‏

سأغرِسُ في الغاباتِ غَداً‏

جَذْراً آخَرَ‏

أغرسُ عِنْدَ الشَطِّ غداً‏

بَيْتاً آخَرَ‏

أكتُبُ فوقَ الجُدرانِ الجصيّةِ‏

أغنيةً أخرى‏

عَنْ قافلةٍ مِنْ قَوْسِ قُزَحْ.‏

شَرِبَتْ كَأْساً‏

مِنْ خَمْرِ الرُّمّانْ.‏

وأضاعَتْ في مَطَرِ البُستانْ.‏

أسْراراً وقَدحْ.‏

........

جِسْرٌ ثالثُ‏

جِسْرٌ رابعُ‏

جِسْرٌ خامِسُ‏

تَخْطو قَدَماكَ عَلى الجِسْرِ الأوّلِ‏

يبتعِدُ المصباحُ عن المصباحْ.‏

ينكسِرُ الحُلْمُ على الأقداحْ.‏

الفَتى..‏

عِنْدَ بابِ الحديقةِ‏

يَقرأُ شيئاً‏

على العُشْبِ‏

مُتَّخِذاً هيئةَ الأربعينْ‏

بِقليلٍ مِنَ الخَمْرِ في شفتيهِ‏

قليلٍ من الشَّيْبِ في فودِهِ‏

وقليلٍ من الياسَمينْ.‏

يَتَغنى بِصَوْتٍ خَفيضٍ..‏

-لَقَدْ كانَ يمشي على العُشْبِ‏

دونَ حذاءٍ‏

يصيدُ العصافيرَ‏

مِشيَتُهُ الآنَ أهدأ‏

عيناهُ مُتعبتانِ‏

ويَخشى مِنَ البردِ‏

كسلانُ لا يتمشّى كثيراً‏

تَهونُ‏

تَهونْ.‏

الأرضُ والدةٌ وأنتَ تحوطُها‏

أرجاؤُها‏

يَمشي إليكَ تُرابها.‏

على جبَلِ الأربعينَ‏

تقومْ.‏

على دِجلةَ الأربعينَ‏

تعومْ.‏

على شَمْسِها الأربعينَ‏

تُغنيّ.‏

وفي يَوْمِها الأربعينَ،‏

تُصلي.‏

 

شعر: أمجد محمد سعيد

 

في نصوص اليوم