نصوص أدبية

المنعرج الغائب

محسن الاكرميناختفى نصف ظل الحبيبة تيللي ضمن منعرجات منغلقة الرؤية في ذلك المنحدر الجبلي، عيون إيثري كانت تتابع تناوب الخطى المستعجلة بخفة جسد تيللي النحيف على وقع الأرض. كان يتابعها مثل متابعته سماء سرب حمام عاد خماصا يحمل فقط قبلة جبين يتيمة. ورغم شح رسم شفاه القبلة الخاطفة، فلازال إيثري يشد على حلاوة شذاها شدا، لازالت زوبعة موقد حرارتها تفتك بمشاعر إيثري الداخلية وهجا. حتى أن ظل تيللي لم يسلم من شده برؤية ماسحة لمساراته المتموجة، حتى أن خيط نسائم رائحة عطرها المميز بين نساء العالم لازال يسكن المكان بالتفرد. تسلح إيثري بكلمات تسكن دواخله العاطفية دائما نحو الحبيبة تيللي، تسلح بقيمة تاريخ وده الوفي وسفره الزمني بالصعود في ملاقاة عيون تيللي الزرقاويتن.

ابتسم إيثري وقرر الرحيل عن نقطة قبلة الجبين، قرر التحرك وترك هالة الحبيبة كمرساة قائمة ومضيئة برباط منارة ليست بالبعد الفسيح عن شط الأمان. تحرك قليلا عن مكان المنحدر المنعرج والغابر بتموج صعود الجبل. لحظتها افتكر مرحلة الصغر. تذكر حنين إطناب كلامه الجميل عند اللقاء اليومي بتيللي. تذكر يوم صارحها بسر حب لها علانية في ذلك الحي غير النائي بالبعد عن دوشة حياة المدينة. استحضر خلفية المسجد الضيقة والخفية عن عيون المارة وهو يشد على يدي تيللي كميثاق وفاء ممتد باعتراف حب. تذكر شجرة الخروب الوارفة الظل حين شد على يدي تيللي وأمرها بإغماض عيونها وهي تختمر منديلا ملونا بزرقة سماء فاتحة. تذكر كم كان يتردد عند البوح بحرف الحاء والباء بالاتصال في الرسم الكتابي، لكنه كان يعلم علم اليقين أن ما يملكه من دنيا حياته سوى عيون تيللي الوافدة عنده بصدق مشاعر القلب. تذكر حين همس في أذنها (تنبغيك تيللي، تنبغيك أبنت الناس... تنحبك تيللي...) ثم فك يده وراح ركدا دون أن يلتفت خلفه. تذكر أنها بقيت واقفة متجمدة لا تخطو أماما ولا تسدل يديها نزولا كما تركها لمدة تزيد عن سرعة دقات قلب عاشق في الدقيقة الواحدة. تمثل له حينها أن شجرة الخروب تحركت غصونها بريح بحرية خفيفة إلى حد سماع تصفيقات أوراقها الخضراء غير النافضة معلنة بداية حب الأمل. تذكر أن وجود تيللي بجانبه كان يمده بالشغب والركض خلف جنون حب الوله. كان إيثري متيما بالعشق وقلبه محمولا بين يدي تيللي ليس للبيع ولا للإستهلاك الموضعي، وإنما بالامتلاك الطيب المخمول بعطر المودة وصدق الرحمة.

ابتسم قليلا حين شعر بأنه كان قد تخطى كل لباقة الأدب البدوي، وتجاوز معاناة الضمير الداخلي الحارق حين اعترف بحب تيللي علانية وبدون تردد. بعدها كان يتجنب لقاء تيللي لمدة أيام زادت عن عد أصابع اليد الواحدة. ابتسم حين شده الشوق والخوف من أن يصبح حب تيللي رمز عذابه الدائم ووجعه الخفي عن أطباء القلب. لكنه توقف من المشي حين علم منها أنها كانت تتسلى من اعترافه خلف ستار النافذة العليا لمنزل أبيها، حين علم أنها كانت تتابع اعتكافه بالمنزل تصوفا حلوليا بحمل روح حب للذات الإنسية الفاتنة.

بلغ إيثري علو متسع الإطلالة الواضحة على مياه بحر تلك المدينة الصغيرة بالمقدمة، لحظتها توقف واستعاد استحضارا قفز تيللي على ظهره الصغير وقولها، توحشتك إيثري ، مالك وليتي حاجب في الدار مثل النسوة.... حينها استدار ولم يرفع عينه إلا بنصف رؤية مائلة بدرجة شعاع الثلث، كان يخاف من عتاب تيللي يومها عليه ومن اعترافاته بحبه لها، كان صدره يترفع حركة خوفا من أن تطلب منه ألا يكرر كلام الغزل. لكن تيللي كانت مثل ساعة الإعصار الذي لا يكسر مشروعية العواطف العذرية، كانت تلعب بمشاعر إيثري مثل البحر الدوار أمامه من شدة هبوب ريح شمالية.

هي تيللي التي رغم اعتراف إيثري بحبه لها في رشد الصغر، فهي قد زادت تعلقا به وأصبح حضوره مثل الهواء والنور في ذلك الحي غير النائي بالبعد عن دوشة حياة المدينة. هي تيللي ابتسمت يومها أمامه مشبكة يدها بيده بعهد صامت على مواجهة مورد الحياة سويا.

بين الماضي الصغير، الكبير بالأحداث المتوالية استوى إيثري جلوسا على أحب متسع عال، متسع كان حاضرا بدوام الجلوس وبناء القصر السعيد بينه وبين الحبيبة تيللي. تأمل صدمة أصوات أمواج البحر بصخر تلك الزوايا الناتئة بالمدينة الصغيرة. فقد كانت فرحة إيثري بقصص الماضي المرن بالذكريات العائدة قد أنسته لقاء موعد الحاج مبارك. حين تذكر، هب مسرعا وقوفا نحو المرسى، وكانت كل المنعرجات النازلة تحمل بقايا نفحات عطر تيللي وبه استأنس نزولا حالما.

 

محسن الأكرمين / مكناس / المغرب.

..................

فصل من رواية ويلات ذاكرة منسية

 

في نصوص اليوم