نصوص أدبية

شعيب

صحيفة المثقفجميل الشكل، مرح، بشوش، لا يبالي. يتحرك بلا قيود. لا يؤمن بالحواجز والممنوعات ولا ينضبط للسلوك العام.

يضحك لكل كلمة سمعها أو التقطتها أذنه من بين آلاف الكلمات المتناثرة في الفضاء و المدفوعة دفعا من أفواه ثائرة أو ضاحكة أو غاضبة أو حزينة ..يرفع أصبعه ليقول شيئا ثم يصمت و يجلس الى طاولته مزهوا بما قام به و هو يشعر بكل النظرات تتوجه اليه. شغبه مستمر ليس له نهاية لكنه لا يؤذي أحدا. شغب طفولي كأنه امتداد لمرحلة الطفولة التي يرفض أن يخرج منها.

خفيف كورقة يوم خريفي بارد. لباسه واسع يستوطن جسده النحيل. شعره أشعث وفوضوي مثله.

جلس الى طاولته في ذاك الصباح البارد، يتجول بعينيه في كل اتجاه. حركته دائمة كدوام صراخ رضيع جائع. طلبت منه أخد دفتره وقلمه. نظر الي بكل براءة وقال لي مع ابتسامة عريضة:

- لا أتوفر على قلم أو دفتر.

شعرت بالدم يغلي في عروقي، قلت له بصوت مرتفع وأنا أعلم أنه لا يهاب الصوت المرتفع:

- ما هذا الاستهتار يا شعيب؟

اسمه شعيب. أشعر أحيانا أنني أتعاطف معه فقط لجمال اسمه. لم أفكر يوما أن أعاقبه حتى لما يحضر متأخرا بعض الشيء. يستقبلني بابتسامته العريضة التي تلون وجهه ويستحيل الى بدر يتلألأ. أصمت وأشيح عنه وجهي. لكن الابتسامة تسلل الى ملامحي و تكاد تفضحني. وأطلب منه ألا يتأخر مرة أخرى.

سألت نفسي مرارا لماذا أتعاطف معه لهذه الدرجة؟ هل لبراءته الطفولية دخل في احساسي؟ أم كما يقال هو شعور لا يفسر لما نحب أحدا.

حاول أن يصطنع الخوف ببراءة طفل كسر لعبة أخته ويحاول أن يتصالح معها حتى لا يعاقب. جلس الى طاولته ورأسه منحني وقال لي بصوت خافت وهادئ:

-أنا أسكن بعيدا عن المدرسة. ولدي ساعة لكي أصل وأحيانا أخرج متأخرا وأنسى ما يجب على أخذه من لوازم مدرسية ولا أفكر ساعتها سوى في الجري حتى لا أتأخر.

وهنا بدأت بلبلة تخيم على الفصل. وحديث جماعي لا ينبض. سألتهم عن سبب هذا الضجيج. وقف أحدهم وقال لي:

- أستاذة، انه يكذب. انه يسكن قريب من المدرسة.

- وتعالت أصوات أخرى تؤكد كلامه كأننا في محكمة والكل يطالب بإنزال أقصى العقوبة عليه.

- لم أكن أتوقع هذا الكم من التحامل عليه من طرف زملاءه. هل لأنه يكتسب جرأة في الكلام أكثر منهم؟ حاولت تهدئة الوضع وخلال حديثي معهم وقف شعيب وضرب الأرض برجليه، تصلب جسمه وسكنت كل حركاته حتى ملامحه الضاحكة، تحول الى بركان غاضب سينفجر في أية لحظة. لم أره يوما غاضبا. وقال بكل ما اوتي بقوة:

- أنا لا أكذب. لقد أخذني خالي الى دار الأطفال.

وجلس ورأسه منحي وقلبه يرتعش ومفاصله تكاد تنهار. كأنه كان يحمل سرا واضطر الى فضحه. صمت مرعب استولى على الفصل. ربما كانت مفاجأة للجميع وهو الطفل الوديع الذي لا يبكي ولا يغضب ولا يحزن.

سمعت صوتا مندفعا من آخر الفصل يقول بسخرية:

-اسمها الخيرية. وتوالت الضحكات.

شعرت بالحزن من اجله ووبخت من سخر منه. ظل منحي الرأس كأنه مذنب وينتظر حكما. همس من بين أسنانه وهو يفرك يديه بشكل عشوائي:

- اسمها دار الأطفال.

لم يبك. غريب، طفل في سنه يتأرجح بين الطفولة والبلوغ، يرفض الخروج الى عالم الكبار وفي نفس الآن يسيطر عليه أحيانا سلوك النضج ويرفض البكاء. التزم الصمت ونام بين أحضانه كمحراب يحتمي به من نظرات وتعليقات الآخرين. شعرت ساعتها بكمية الفقر والحاجة التي يحملهما جسد صغير مثل جسده. ولعنت في سري كل المواثيق الدولية التي تطالب بحقوق الأطفال ولا تطبق على أرض الواقع. امتلكني حوار داخلي يسأل عن أهمية هذه المواثيق ان كانت تظل حبرا على ورق؟ من له يد في أن تظل طفولتنا مبتورة وحزينة؟ مسحت دمعة فرت من مقلتي. وعاد الهدوء للفصل لكن هدوءه الداخلي ظل متوترا وعاجزا عن امتلاك بزمام اللحظة. رفض أن يرفع رأسه. هل هو خجل من أنه ينتمي الى دار الأطفال؟ هل لأنه الوحيد بين زملاءه الذي يعيش بدار الأطفال؟ حاولت الاقتراب منه والتخفيف عنه بلمسة على شعره الثائر وإعادة الأمان الى روحه المنكسرة. أعطيته قلما وورقة وطلبت منه أن يكتب. وما هي الا لحظات حتى عاد الى شغبه وابتسامته العريضة وكلامه الذي لا ينبض. دق جرس نهاية الحصة، اقترب مني وهو يحمل خجل المذنب بين أضلاعه الصغيرة وقال لي وهو يبتسم: أستاذة، هل سأعاقب؟ تعجبت من السؤال. لأنني لم أفكر يوما ان أعاقبه ولو أنني أحيانا أنزعج من ضجيجه المستمر. قلت له بكل هدوء: شعيب، أنت تلميذ نبيه ينقصك فقط التركيز ولن أعاقبك أبدا. طار من الفرح كمن يستقبل هدية يوم عيد ميلاده. وأخذ أدرع الفصل ذهابا وإيابا يريد أن يقول شيئا لكنه يتردد. اقترب مني أكثر كأنه سيعلن عن كارثة ستقع وقال لي: لقد وعدني خالي بأنه سيأخذني عنده إذا نجحت ولن أظل في دار الأطفال.

رن ساعتها جرس الحصة الموالية، انطلق كما أتى لا يلوي على شيء. يحمل فرحا ربما سينقذه من حياته بدار الأطفال. انه شعيب.

 

أمينة شرادي - المغرب

 

في نصوص اليوم