نصوص أدبية

جبة بورخيس

صحيفة المثقفإلى روح د.عبد الغفار مكاوي

ليس هناك ما يشير إلى السنة بالتحديد، لكنني أجزم، فيما يشبه البداهة، بأننا في آخر العقد الأول من الألفية الثالثة..

هواء رطب يحيل إلى بدايات الخريف، ويوقظ في العظام الخلايا النائمة لروماتيزم متربص.. أسوي البطانية على ركبتيّ، وأزداد التصاقا بالأريكة.

كأنها اليقظة

التلفزة تعرض برنامجا وثائقيا عن الفن.. يقول راوي البرنامج إن لوحات "جيروم بوش" شبيهة بدلاء تهوي إلى الجحيم، قبل أن تعود محملة بالكائنات الشوهاء والمسوخ.. أنسى ما يقوله الراوي وأنشغل بعوالمي الداخلية، أقتفي أثر حلم عن قط اسمه توماسينو يرث ثروة هائلة عن صاحبته العجوز المتوفاة، وطبعا لا يدري أنه ورث إلا حين أتجسد فيه.. أنا اللحظة القط الذي ورث، والذي يحلم بأكثر من الحليب والبسكويت.

هو الحلم إذن

حلم مزدوج.. زهري اللون (ما تزال لدي بقايا ارتسامات عن اللون الزهري الذي كان يسم ستائر منزل قديم) يقطعه جرس مرفوقا بصوت يعلو بالنداء:

- السيد بورخيس.. السيد بورخيس

- من بالباب؟

- سيدي.. لقد أتيتك بالقطة التي تبحث عنها منذ مدة

- حقا؟

- من نوع شيرازي.. صحيحة ومعافاة، ذات شعر طويل ناعم وعينين عسليتين

- الباب مفتوح، أدخلها.. هناك سمك بالثلاجة، وماء.

سمعت أكرة الباب تدار، والباب يفتح ووقع قدمين وتردد أنفاس ونية مشوبة بنزوعات شريرة.. ساورني خاطر يقارب اليقين بأن الرجل الذي يحاذيني الآن، في طريقه إلى المطبخ، ليس غريبا عني كليا، وبأن دخوله شقتي ليس لمجرد الإتيان بقطة شيرازية مفترضة. فما الذي يريد؟ وللحظة خلت أنني في مكان آخر، وأن الذي يجلس هناك ظلي فقط، الذي لا يعنيه تماما ما قد يحدث..

- أين الثلاجة؟

- هناك..

 كان الراوي يقول إن المسوخ ليست في النهاية سوى تجميع غير واقعي لعناصر واقعية، وإن ذلك ما يصنعه الفن عموما، حتى في أشكاله الأكثر تطرفا وإيغالا في الفانطاستيك.. بدا لي أن الرأي لم يكن مجانبا للصواب، لكنه مجرد مظهر واحد لحقيقة برؤوس متعددة، فما حدود الواقعي وغير الواقعي فيما أعيشه اللحظة؟

- كل شئ على ما يرام يا سيد بورخيس.. مع السلامة

- مع السلامة.. لكن أخبرني، هل للقطة اسم؟

- بالتأكيد.. اسمها "ماريا قداما".*

(2)

اسمي بورخيس

خورخي لويس بورخيس

وغير المهتمين بشؤون الأدب يلقبونني بأعمى الطابق الثالث بعمارة الحبوس.

هناك وقائع لا يتم إدراكها بالشكل الصحيح إلا ضمن نظام من الإشارات والصيرورات المتواشجة.. ولعل استعراض بعض نثار حياتي الشخصية المفتقرة إلى ذروات وأمجاد، يفسر ولو جزئيا المآل الذي صرت إليه منذ تلك السنة الفارقة.. سنة 1986، والذي بدا للبعض انقلابا حقيقيا.

كان العالم يتابع المونديال

كأنما الأرض سهت عن دورانها حول الشمس، وجعلت تدور حول كرة محملة بالهواء، والفتى الأرجنتيني يسرق الأضواء بتتالي المباريات، بينما الأرجنتيني الآخر.. الكاتب الكوني الشاهق يحتضر في غرفة بجنيف. ربما مات "ميتة لذيذة" ذاك "الساحر حتى النهاية"، كما صرخ بذلك رفيقه "هكتور بيانسوتي"، لكن الخبر نزل علي ككارثة لا تحتمل.. لبثت دهرا خارج أي يقين.. كأنما أتفرج على موتي الشخصي من خلال ثقب ما.. مصدوما مذهولا من أثر حداد غلف العالم فجأة، مثل خيمة سوداء لا نهائية وغير محتاجة إلى تبرير.

وحين أفقت من ذهولي، كنت قد اتخذت القرار

قرار أن أصير بورخيس.

(3)

إن التاريخ المعاد، سواء كان تاريخ أشخاص أو دول أو مذاهب وأفكار، لا يعاد أبدا بنفس السيرورة.. ونسخة ثانية من بورخيس لن تحاكي الأصل إلا كما يحاكي الواقع حلما

لذلك

حين تعذر علي العمل – مثل بورخيس- بالمكتبة الوطنية، رغم المساعي العديدة التي قاربت العصاب، أنشأت "مكتبتي الوطنية" على الأنترنيت.. ذاك الكيس الذي لا قعر له والقادر على استيعاب عدد لا نهائي من الكتب والتطلعات.

روابط دون حصر

تحيل إلى روابط أخرى وكتب وعوالم ومتاهات.. كان الأنترنيت يعرف انبثاقته الأولى كقارة جديدة مهداة لأهل الأرض من قبل جبابرة لا مرئيين وشديدي الدهاء، فانسحبت بشكل شبه نهائي من العالم، لأصير مجرد كائن افتراضي يدبر أمر مكتبة افتراضية هائلة، ويعمل ما بوسعه من أجل الغرق التدريجي، لكن المحتم في الظلام..

من أجل أن يصير –مثل بورخيس- أعمى.

(4)

كثيرا ما فكرت بأن بورخيس صار أعمى إراديا، وبدافع رئيس: دافع الخوف من المرآة.

ولعلي أكثر الناس قابلية لتفهم ذلك

فأنا مثله أخاف المرآة.

(5)

كانت مرآة دائرية صغيرة

انكسرت في كفي، فرأيت وجهي مشطورا.. موزعا على شطري المرآة مثل فلق غير قابل للحم.. تحسست وجهي بيدي، وأنا أشيح به عن المرآة المكسورة والفلق القابع في الداخل، وأصيح في فزع ظاهر:

- أبعدوا عني هذا المسخ

انتزعت أمي المرآة من يدي، ووضعتها مقلوبة على الطاولة ، ثم أقبلت علي ضاحكة، وفاهت بكلمة واحدة لم أفقه معناها:

- بورخيس

وفي المساء

لدى عودتها من الجامعة، حيث تشتغل أستاذة آداب حديثة، قرأت علي "كتاب الرمل"، فكأنما قذفت بي إلى ربكة مدوخة لم أفق منها بعد.. فما زلت أبحث عن صفحة مستحيلة في متاهة من ورق أو رمل أو وهم حتى..

(6)

غريب

أن الشخص الذي أتى بماريا قداما لم يطلب شيئا كمقابل

لذلك فكرت في أنه لم يغادر شقتي كما حاول الإيهام بذلك.. كان هناك فتح للباب فإغلاق، ووقع قدمين يرتطمان بالأرضية، لكن الشقة ظلت مسكونة بأنفاس الرجل  وظلال نواياه.. هل يراقبني الآن، يكمل ترتيبات جريمة محتملة بدأ نسج خيوطها بمواء قطة شيرازية اسمها ماريا قداما، ولن ينهيها إلا بالإجهاز علي؟

انتهى البرنامج الوثائقي عن الفن ، وبدأ بث برنامج للواقع، حيث يعرض مجموعة من شبان  وشابات بقايا خلوة حميمية لأعين الكاميرا، موزعين بين النزوع الاستعرائي وإرادة التخفي. (هل كان ذلك في نفس القناة أو قناة أخرى؟)

أعين الكاميرا تتابع الشبان

والعينان المفترضتان للشخص القابع هناك (في زاوية خرساء للشقة) تتابعانني دون شك، تتحينان لحظة إغفائي..

ماريا أقبلت تهر على ذراعي..

أمسح على ظهرها فتقوسه قليلا، ثم تعود إلى هدأتها..

إنها نائمة الآن

وجفناي مثقلان

من يحلم منا بالآخر؟

 ***

حسن البقالي

........................

*ماريا قداما زوجة الكاتب الأرجنتيني بورخيس

 

        

 

في نصوص اليوم