نصوص أدبية

العودة إلى الجدار

بشير عمريتمدد على كراكيب أشيائه المرزمة، واضعا رأسه على محفظة أدواته، مثبتا نظره خلف سقف الغرفة المحدودب كظهر حمار هرم، اختلطت عليه الأوهام باليقين، أيبتدئ من صعود القارب أم من نزوله، فتساءل أي مخرج للبحر وأي مدخل له، والضفتان تشقهما هوة من الماء والحوت الأزرق يسبح في القيعان البيضاء في صمت، سأل عن حركة الريح وحال البحر لمدة أسبوع، هو عمر سير القارب الخشبي على الموج المتقلب المتوالي، فكر أن يترك رسالة على هاتفه الأول يدق رنينها بعد نهاية مسافة العوم على الخشب البالي، ساعتها سيدرك الجميع في ذلك البيت المتوقف عن حركة دوران الأرض والزمان، أنه انزلق من تلك التربة المالحة المغطاة بالصبار الحاد، والكرموس الهندي إلى حيث الشواطئ البيضاء المضيئة، ستبكي أمه التي فقدت شقيقه في ليلة ألغى الإنسان فيها ضوء القمر، تحت دخان كثيف تخترقه سيول من الدم والموع لم يزله باق من عشرين سنة في مدارج الإدارات وقصور العدل الكسيح يخنق بأعمدته الملفات، سيحترق خاطره من دموع أمه وهو ينهال عليه كالرصاص المذاب، ستحزن أخته التي أعدت جهاز عرسها وهو الذي وعدها ليلة خطبتها بلوحة زيتية كبيرة أكبر من صورة الأمير التي رسمها من خلف الدخان في أول أيام اعتلاء عرشه، وارتعش حين تذكر حزن أبيه في القبر يوم مات من النكد بسبب رحلة أخيه إلى الشارع الصادح بالحق، فلا الحق تجلى ولا شقيقه عاد، وكيف سيحزن من تركه لأمه وأخته بلا راع والسفر إلى الأراضي البيضاء بلا رجعة!

هل ثقلت الأحزان بخاطره حتى تمنعه من النهوض ورنين الهاتف الحامل لشريحة أخرى يدق؟ تنهد وهو يهم بالاستقامة قاعدا، تحسسه جيبه الأيمن فتلمس اللعبة الصغيرة التي سكنت السترة الرمادية لعام كامل، ضغط عليها حتى كاد يحطمها وما فيها، ثم استدار إلى الجيب الأيسر سحب النقود، عدَّ يوروهاتها عدا، فتح حقيبته الجلدية الناعمة ذات الجيوب الداخلية الصغيرة، بدت له أدواته غارقة في صمت ظلمة الحقيبة، فرشاة رسم كبيرة، لوحة الألوان، تحسس بأرنبة أنفه مرهم اللون الأحمر والأخضر اللذين تعفرت بهما زوايا ذاكرته وكل دروب خياله الواسع مذ أدرك أنه خلق ليرسم الوجوه المتربة، المبللة بعرق الأرض، ابتسم بسخرية محتجة، كيف تصدق بهذين اللونين في زمن مضى على السياسة، ربما كان يأمل في أن يشتري بهما أخاه المخطوف، أن يهدي بهما أخاه لأمه المكلومة التي لا تزال تنادي باسمه في غفلة من الحين كلما غلبها الشوق والحنين، أربع صور كبرى وأربع أصوات في الصناديق قدمها كل خمسة سنوات للأمير عربون لعودة أخيه، فإذا بها تشله عن الرزق وتفقده خطيبته، بل وستفقده ذاته، حين تقذف به على اللوح المتهرئ إلى البحر للعبور إلى هناك حيث قيل أن الآمال كالعرائس المضيئة تنتظره وفحول الهاربين من الشمس معه.

هل يجهر بالوداع لأمه، وهي التي ستظنه إذ تراه محملا بحقيبة أدواته، مبتغيا شغلا بالمدينة المكبلة بالقيود؟ ما أقسى الوداع الصامت، لا يطيقه مع الجدران الخرساء والنافورة البالية القابعة دون ماء بوسط المدينة المهمشة، فكيف الحال مع وجه أمه الناضح بأسئلة الألم، لبس حذاءه الرياضي ذي الخطوط البيضاء الثلاثة، تفقد هاتفه النقال القديم، راح يضرب جيوبه، نسي أين وضعه، أطل على سطح الخزانة الخشبية القديمة التي كان يقتسمها هي والغرفة مع أخيه الضائع في طويا وزوايا الوطن، عسى أن يكون قد وضعه هناك، فتح الخزانة في الجهة المخصصة لأغراض أخيه، تشمم عطر الزمن من على ملابسه التي لم يراها عليه منذ عشرين سنة والتي رفضت أمه أن يطالها أحد، ولو بإعادة ترتيب والتصفيف، اجتاحه الشوق والفراغ الأبدي، فخضب بعضها بالدمع الحار، دخلت أخته لتريه آخر ما جلبه لها خطيبها وتذكره بأن يفي بوعده ويرسمها بذات حجم صورة الأمير الكبيرة التي عُلقت بدار البلدية، قبل خمس سنين، ودونما أن يلتفت إليها، وافق على الطلب وكلامها يزيد من تمزيق خاطره المشتعل، كيف سيكون موقفه وهو يخذلها إذ يمضي بعد لحظات فقط إلى الأقاصي الباردة، على قارب لا رسم من عليه والخيال كله ذائب في زرقة البحر الأبيض؟ كانت تقول له في كل مناسبة:

- لن آخذ اللوحة الكبيرة معي إلى بيت زوجي، سأتركها هنا عندكم لتظل أمام أمي ماكثة وتنسيها فراقي وفراق أخي المخطوف!

ما هذا العذاب! بالكاد هدأ صراخ خطيبته عبر الهاتف في أذنه وهي تلومه على مدة الخطبة التي طالت كثيرا، وهو قابع طوال النهار تحت الجدار العالي للمدينة، حيث ترسم الأمطار خرائط سيلها القديمة، وشروخ غطائه الإسمنتي كما التجاعيد في وجه الكهل تتبدى وتتمدد، يرقب شيئا غير محدد:

ـ مذ رسمت صورة الأمير الكبرى واشتريت لي بقيمة صكها خاتم الخطوبة الذي لم أره بعد، لم تعمل شيئا..

ـ لقد قلتها، مذ رسمت الأمير، لكن أين هو الأمير الآن؟

ـ وهل خلا خيالك من سوى صورة الأمير؟

ـ ومن غيره يدفع ثمن صوره وألواحه، إلا إذا كان الأمير لديك بمنزلة الفقير؟

ـ أقصد..

ـ لا تقصدي شيئا، الفقراء لا يرون وجوههم على المرآة حتى وهم يخرجون من بيوتهم صباحا ويعودون إليها فيلا، فكيف يرونها على ألواح الزيت..

ـ إذن عُد فرسمه مرة أخرى واقبض عن رسمك المزيد..

ـ ما عدت أذكره، مذ اختفى في قصره، ملثما اختفى أخي قبل عشرين عاما، لا أدري كيف استحالت ملامحه الآن..

ـ ملامح الأمير أم ملامح شقيقك؟

ـ ملامح أخي متوقفة في داخلي حتى لو كانت في القبر، وملامح الأمير تتلاشى لدي وهو في ظلمة القصر..

ما إن انقطع عن الذاكرة وهو يتخبط في برنامج رحلة الماء التي دنى موعد دقائقها الأولى، حتى ارتج البيت لدوي، ظنه سقوط الجدار العالي الذي كان يتربع طوال زمن رحلة الشمس بالمدينة على رأسه، خرج مسرعا، كان السيل أمامه جارفا، وصوت الهدير يرعد في فضاء المدينة التي استحالت شوارعها لسواق ممتدة جارية بالبشر بلا توقف، الأعلام تحجب الأفق أو تكاد، والحناجر تسكت بِدوي هتافها أجراس البواخر الراسية بالميناء وزهو الأعراس الجامحة في رأس الربيع، وروائح القنابل المسيلة للدموع صارت عطرا في وسط الحشود الهادرة، الكل يبتسم، الكل يبكي والكل يفرح، سلَّمه صديقه ثلاث علب من الصباغة، حمراء بيضاء وخضراء، تسلق مدارج السلم سلَّ فرشاته الكبيرة من عمدها بالحقيبة، بعدما نظف الجدار بالمقشة، استدار إلى الجمع وبعد نصف ساعة أشعت ساحة المدينة من جدارها البالي العالي، الذي استحال إلى مرآة لوجوه الفقراء، وفي فرحة اللحظة، حين نزل من السلم كانت بوجهها المتألق بنسيم المساء قد وضعت يدها على كتفه:

ـ وأين أنا في هاته اللوحة من رؤوس الفقراء؟

تبسم وهو يهم بالرد عليها، دق منبه الهاتف المحمول القديم الذي بحث عنه قبل الخروج إلى البحر معلنا عن أوان الرحلة عبر القارب الأبيض، رفع رأسه باتجاه الزقاق المؤدي إلى منحدر الشاطئ فكان صاحب القارب الخشبي يسوق جمع من الشباب المتظاهرين، يحمل على بعض ألواحه شعارات سقوط الليل الطويل، تبسم، أمسك بيد خطيبته بعدما أخرج من جيبه العلبة التي كاد من لحظات أن يسحقها من الضغط، فتح خيوطها أخرج فتلألأ منها خاتم الخطوبة وضعه على أصبعها الرقيق، فتفاجآ سويا بهتاف الجموع لهما وهما يغطسان معا في السيل البشري وسط موج الزغاريد لمتظاهرات يهنئنها هي خاصة:

ـ مبروك عليك يا حورية. 

***

بشير عمري

قاص وكاتب صحفي جزائري

 

في نصوص اليوم