نصوص أدبية

شمعة الحياة

محسن الاكرمينإيثري يوم انطفاء شمعة حياة الثدي وصعود دخانها لاحتلال علو الغرفة المظلمة مع فتحة نور ضيقة، إيثري كان حينها مغلفا بالوخز النفسي، فلم يفارق غرفة أمه الطريحة الفراش، كان يقعد موضعا قريبا عند يدها اليمنى، كان يمرر لمسات يده مرارا يتحسس جبينها وهي تشده برؤية رحلة فراق حزينة، و لمرات عديدة تبتسم في وجهه رغم ما تعانيه من ألم متلاحق.

 إيثري الصغير لا يتوقف على استعمال البسمة والفرح حين تفتح الأم من نصف رؤية عيونها، كان يتابع باكيا عيون أمه المغمضة بدمعة مسكونة بعينيه وأخرى فائضة على الخد، يتابع سكنات وحركات أمه القليلة، يتابع آهاتها العليلة وهو من الداخل يتألم ارتجاجا ألف مرة.

في ظل اشتداد الألم توسد إيثري يد أمه، سرقه خلد نوم و حنين طفولي حين مررت الأم يدها على دمعات عينيه بالمسح، نام غفوا والحلم يطوف به بمتمنيات شفاء الأم وعودة سلطة فرحة الأم على بيت الأسرة.

 نام حتى أنه سمع وشاهد من في سماء الدنيا حماما يطوف حول رأس أمه بالبياض، سمع ترحيب الأم بهم، وهي تقف في ثوب أبيض غير مخيط ، شاهد معاملة ود ورفق في سحب روح أمه. استمع إلى أمه حين خاطبته والموت قد بلغت الحلقوم، لا يجدر بك إيثري أن تبكي بالاستدامة، أنت مشتل الحياة الباقية مني. لكن إيثري في هذا الجزء من الحلم قام فزعا مناديا (أمي...أمي...، ما بك...أمي). حينها كانت آخر كلمة تنطق بها  الأم رافعة رأسها إلى السماء (إيثري ولدي).

هي النهاية التي تأكد إيثري من اقترابها، بعد أن أكدت آخر زيارة للطبيب، أن الأم دخلت خانة غيبوبة متقطعة  ويمكن أن تصبح مستديمة. تدور الأيام بالتوالي حتى صارت ثلاثا، والأم لا تحرك ساكنا إلا زفيرا من صدرها الذي يعلو وينخفض، ولا تلفظ حركة ولا كلاما إلا تلك الزفرات المسموعة والمتلاحقة بالاشتداد والضغط على صدرها الذي كان أرحب حنانا على الجميع.

توالت الأيام حتى أصبحت  بعدد اليد الواحدة ، وإيثري لا يفارق غرفة الأم إلا لماما ، لا يفارقه البكاء رفقة. توالت الليالي الخماسية حين كان إيثري يمسح جبين أمه من عرق خفيف، ويبلل بالماء شفاهها الملتصقة، في الوقت الذي لاحظ أن أنفاسها تضيق وتشتد وتتكرر، حينها دعا من قلبه في صدر الليل بأن تلتحق أمه بالصالحين والصالحات في جنات فردوس الخلد.

كل كلماته كانت تحمل دعوات صادقة لأمه بالرحمة والمغفرة . فحين أمسك إيثري بسبابة أمه مرددا كلمات الشهادة،  كان الأمل حاضرا ببسمة قليلة الثواني، حين انفكت رموش أمه بالانفتاح الطفيف، حين عرجت الأم بنظرة مائلة نحوه، ثم كفت عن التنفس نهائيا.

حينها بدأ  إيثري  يصيح بقوة صوته،" وا أمي ...أمي...أمي... ".

إلى غرفتها حضر من في البيت ، دون ن يصدقوا أن الموت مر في لمحة بصر خاطفة و انسحب. كانت روحها تسبح خروجا عاليا من تلك الطاقة الصغيرة إلى السماء عبر دروب الدنيا الغائرة و الضيقة في ذلك الحي غير النائي بالبعد عن دوشة المدينة. كان كل من في البيت يريد إسكات إيثري عن الصياح والبكاء و لا يقدر البتة.

الفصل الرابع: صدمة الباب.

لم يكن تداول تلك الأيام الحبلى بالحزن تمر دون أن تترك أثرا مفزعا داخل علبة ذاكرة إيثري . لم يكن يوم الدفن ولا أيام العزاء بالمورد السهل الامتلاك في خانة تكرار تنويع رسومات النحت المسماري في ذاكرته السفلية. يوم الدفن وبين أرجل من حضر للتشييع بحي المقدمة، يتيه إيثري بحثا عن صوت أمه الدافئ ولمستها الآمنة، وعن صيحاتها المدوية بأرجاء البيت، يفتش عن لون ونسائم بسمتها التي كانت تسكن رحاب البيت.

كان إيثري يتحرك باتجاه نعش أمه ويناديها، "وا مي... وا مي ..."، يحاورها برفق الهدوء كأنها نائمة، "مالك فيقي آمي...راه الناس جاو لعندك". سلوكه الفطري هذا،  كان يزيد من حضر بمنزل العزاء ألما و نحيبا. كان الكل يعيش مراسيم فتح ألم موت الرحيل عند إيثري الصغير عدة مرات، كانت كل كلمة أنين تصدر منه إلا وزادت من علو أصوات البكاء.

صبيحة يوم الدفن، حين استفاق إيثري من غفوة نوم خاطف، وجد رأسه يستند على ركبة أمه الباردة من حركة حرارة الحياة. ومن سوء تمثلاته استيقظ وظن أنه كان حبيس كوابيس موت مفزع، لكن هيهات... هيهات ! فملاك الموت مر من الغرفة على حين غرة.

وبالرغم من صغر عمره يوم الدفن،  فقد آثر أن يشارك في إنزال نعش أمه إلى مثواه الأخير، آثر أن تكون آخر نظرة من إنسي لأمه لزوما أن تحمل ملمحه وحيدا معها دون غيره من الأهل والإخوة. إنها صورة بنوة صادقة لحزن يرج قلبه رجا.

كان هو آخر من غادر مقبرة الدفن، إذ بقي جاثيا على مستند رأس قبر أمه يبكي بلا دموع جارية حين جف ماء نبع الجفون، كان يعرف أن أمه تخاف من لون الظلام، ومن صمت الأمكنة الموحشة، فقرر الجلوس بجانب قبرها ليؤنسها من شدة فزع الوحدة، كان يردد في قرارة نفسه أن أمه ستعود يوما، وتفرح به بقبلة وضمة صدر حنان عند كل عودة له من المدرسة.

مرت الأيام وجرح إيثري مستيقظ ولم يندمل، ولسان حاله يردد: "أحن إلى خبز أمي ...وقهوة أمي...ولمسة أمي ...وتكبر في الطفولة يوما على صدر يوم...أمي ...أمي". تتوافد الأيام بالتراكم العددي، وإيثري يبحث عن وجه أمه البشوش في مواضع عديدة من زوايا البيت وغرفتها، بل حتى داخل ملامح صورتها المعلقة بالأبيض والأسود، وحيدة بغرفة نومها الماضية. كان يناجي الصورة ويعاتبها على غيابها وعدم العودة مجددا. يبحث عن حنان حمله القوم عليا إلى بقيع الدفن وانفضوا رجوعا، يبحث عن يد يستند إليها ويحكي ما فعله الزمان بجروح أيامه المستجدة.

رياح السفن يعاكسها دائما تقدير مسار الاتجاه غير السليم، لم تسلم منها حتى دفة حياة إيثري بدوره. ففي يوم عودته من المدرسة، دق الباب بخفة مرات عديدة، حينها فتحت امرأة تضع من مساحيق التجميل بتنوع الألوان غير المنسقة، حيث كان وجهها يحمل كل ألوان الزينة العشوائية.

 تفحص إيثري رموز و علامات موضع الباب، عله يكون قد فقد البوصلة الموصلة إلى  بوابة منزل العائلة، ورغم جواب السيدة البدينة فلم يفلح في إخماد حيرته بإجابة شافية. حينها تلقى ردا باردا من السيدة التي كانت تسد منافذ الباب من شدة حجم جسمها المكتنز قائلة، مرحبا صغيري، اسمك إيثري، على سلامتك، كيف كان يومك بالمدرسة، "واش أنت مجتهد بعدا، و لا كسول !!!" ،  ثم أرفقت كلامها بابتسامة نصف مائلة يسارا، وهي تمرر يدها الثقيلة على هامة شعره الرقيق وغير المرتب بالمشط. حينها اعتبر إيثري كل استفسارات المرأة استنكارية، ولا تستدعي إجابات أصلا مادام أنه لا يعرفها ، متسائلا عن سر وجودها بالمنزل أصلا.

هي مواقف مستجدة أثثت لتدوينات قصيرة و لاصقة في علبة ذاكرته الخفية. قالت السيدة المكتنزة الجسم مخاطبة إيثري: ادخل لا تقف مثل المسمار عند الباب، حينها وقف مشدودا وسأل ، من أنت؟. لحظتها حضر صوت الأب من الخلف القريب، وأزاح السيدة عن موضع سد تسرب المرور الذي كانت تضعه على بوابة المنزل قائلا: "يا الله زيد أولدي، ادخل".

بهذه الكلمات سيدخل إيثري مرحلة ثانية من تاريخ عمره الذي سينحصر بين معقوفتي ماضي الأم وحاضر زوجة الأب، سيدخل إلى بيت زوجة أبيه و التي تحمل طبعا حادا وعنيفا، وسيعيش زمن ثنائية الأحداث الماكرة المعلنة والمضمرة . تلك المتغيرات غير السوية شوشت على تفكير إيثري بمشكلات المنزل الواخزة ، والتي لم يتسع لها زمن جرح فراق أمه أكثر من حول هجري.

***

الكاتب محسن الأكرمين.

 

 

في نصوص اليوم