تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

كلام موظفين لاغير

احمد بلقاسمرأيته في محطة الطاكسيات يتأبط أكياسا مقعيا على الرصيف، ملامح وجهه المكدود تشي؛ أنه أحد اثنين: إما مزارع صغير، وإما عون فلاحي. كان يبدو متوترا أو قلقا، لعله يخشى أن تشرق الشمس عليه، وهو ما يزال مقعيا على رصيف المحطة متأبطا بعض الأكياس ومفترشا بعضها والتي يجب أن تكون فاغرة أفواهها تحت أشجار تزدرد حبات الزيتون حفنة حفنة، بدل أن تكون مفروشة على الرصيف، تقاوم البرد عن مؤخرته.

حدث أن عبر عن قلقه هذا بسؤاله السائق:

- هل من ركاب آخرين غيري؟

كان رد السائق أبرد من الرصيف:

- لا أحد سواكما، وهو يشيح بوجهه عنه ملتفتا إلي. كلما لمح شخصا وافدا إلى المحطة انبسطت أساريره، وما إن يرى أنه ماض إلى وجهة غير وجهته، عاد وجهه إلى العبوس والانكماش، كوجه قنفذ توارى فزعا رويدا رويدا خلف جلده الشائك.

مع مرور الوقت؛ يئس من الفرج الذي يأتي من زوار المحطة، فما عاد رأسه يظهر ويختفي ولا عادت تقاسيم محياه تنبسط وتنكمش. فرج بين ركبتيه ثم أحكم بهما على رأسه، و ظل واجما مستسلما لرتابة الانتظار؛ إلى أن أيقظه من شروده صوت السائق وهو ينادي هيا: اركبوا لقد اكتمل النصاب بوصول سادسكم.

و لأن في الطريق لابد من أن يحمل أحد أحدا، فقد حملنا ذو الأكياس طيلة العشرين كيلومترا، استهل حمله هذا مهندسا، فأشار بسبابته إلى حافة الطريق محذرا من خطورتها على راكبي الدراجات الهوائية والنارية: كان على وزارة التجهيز أن تعبد حافتي الطريق، وعند مرورنا بمنشأة قيد البناء تحول إلى مسؤول في وزارة الشباب والرياضة فأشار بسبابته إلى المنشأة: هذا الذي ترونه هو مشروع بناء مدرسة لكرة القدم، أرى أن المكان غير مناسب كان عليهم أن يبنوها هناك هناك، فكاد يطيح بنظارتي، فقلت له مازحا: أتريدهم أن يبنوها فوق أرنبة أنفي؟ أجاب لا بل هناك فوق تلك التلة. ولما تراءت لنا من بعيد بضع رافعات البناء حول سبابته نحوها حتى اصطدمت بزجاج السيارة: أما هذا الذي كاد يشرف بناؤه على النهاية فهو السجن المدني، ثم التفت إلى السائق من خلف رقبتي، ليقول له: السجن أيضا ليس هذا هو مكانه المناسب، كان على المسؤولين أن يشيدوه في مكان آخر غير هذا، سألته: أين تريدهم تشييده؟ حدّجني بنظرة ارتياب فقال: تحت الأرض. تدخل واحد من الجالسين في الخلف: ماكان عليهم أن يفكروا في بنائه أصلا لو كانوا يريدون بهذا الشعب خيرا. قاطعه حاملنا الذي غير جلده مرة أحرى ليصبح مندوبا عاما لإدارة السجون: السجن مدرسة إذا أعددتها.. وقبل أن يكمل كلامه، صححت له زلته، لكنه أصر على اعتبار السجن مدرسة وليست الأم رغم أنوفنا وأنف حافظ إبراهيم. قاطعه شخص آخر غاضبا: الشعب يريد مستشفيات، ومدارس، ومعامل، وخبز، يكفيه سجنا البطالة التي تعيق حركته حتى داخل حومته، بل حتى داخل ثيابه، يكفيه لعبا، بأن صار كرة تتقاذفها أرجل المخزن!

لما أحس مني ميلا لصاحب الرأي الصادر من الخلف، نظر إلي شزرا  قائلا: الحكومة أدرى بمصلحة الشعب، أما ما تقولونه أنتم مجرد كلام، كلام موظفين لا غير..

***

قصة قصيرة

أحمد بلقاسم

 

 

في نصوص اليوم