نصوص أدبية

عقيل العبود: المعلمة فرناندس

انقضى من العمر سيل من السنين، تاركا خلفه ركاما بقيت خيوطه تتدلى، تتغنى بآثار ماض لم يزل ينثر ورود محبته.

كبرت الطفلة كما نبتة نمت سيقانها، لتقص فيما بعد أحداث عمرها لابنتيها التوأم.

شرع المخاض برفقة طقوس تحدها ثقافة تتصارع مسالكها مع زوايا بقيت شاخصة في العقل.

غادرت ذات يوم لتحط بأجنحة عمرها الذي لم يتجاوز الست سنوات.

راح المنظر يحكي عن ابتسامة تغلفها مسحة حزن يساور أفكار صبية ما انفكت تتطلع صوب موضوعات تتلازم إيقاعاتها مع رحلة بقيت تحتضن روحها، تمد ذراعيها لتعانق أسوار براءتها وفقا لتوالي سيناريوهات يسوقها الأمل، ورحلة المصير.

أحاطت لغة الغربة بكيانها مذ أول لحظة نزلت بقاع تلك الأرض، متجاوزة تقاطعات هذه العقارب التي تندك الثواني فيها بسريان لا نقدر أن نمسك به- تزحف ثم تمشي رويدا رويدا، تطوف بنا جميعا لتبلغ أقصاها، تنحدر متزامنة مع مصادفات تلج، تغيب، ثم تحضر، كأنها أمواج بحر تتماسك مع بعضها، ترتفع تارة، وتهبط أخرى عند منحدرات دهاليزها الصماء، لتحل محلها بعد حين حزمة تيارات قادمة- هكذا نحن- تعبث بنا الدروب، تشدنا إليها، تبهرنا، ثم ترحل دون وداع، نفارق الأهل، والأحباب، يبتعد الأصدقاء، وعلى غرار ذلك تفارقنا الأوطان، والمسافات كما الرؤى تغيب عنا، يأخذنا الحنين، يحتجب العمر خلف حواجز الهجرة، نفترق، نلتقي، وربما تغيب أرواحنا إلى الأبد، نبكي ونحن يجمعنا الشوق بعد انقضاء الأعوام مع نبض ذاكرة تشدها الأوجاع، والخوف، والغربة، والألم.

انصرمت أيام الطفولة لتلميذة ترعرعت حياتها أسوة بزميلاتها، ونأت معلمتها التي عانقت لحظات بكائها يوم لم تكن تشعر بالألفة مع زميلاتها اللواتي كن يتعاملن معها بلا مبالاة، وباستخفاف وهي ترتدي الحجاب، عقب أحداث من التاريخ  أوقعت الخوف في نفوس الناس.

صار للبنت شأنا مع بداية أعلنت عن نفسها مع أشواط تعلمت فيها معنى الوفاء لمعلمتها التي أفلت.

ترافقت رحلة الأزمنة مع المشهد، بما في ذلك ملامح الطفولة التي اكتست ببصمات أمومة أغار الزمان عليها لترتبط بتحديات تختلف تماما عن عالمها القديم.

أصبحت الصغيرة مديرة مصرف، وأم لطفلتين، وتلك مساحة بها تسترجع الأمكنة شروط صحبتها القديمة، رسمت المصادفات نفسها عبر لقاءات، ولحظات غير ومرتقبة.

لم تتكهن البنت الخجولة بمصادفة أعادت إلى روحها نبضات صيف خجول من أيام حياتها الأولى في سان دييغو، لحظة إيصالها طفلتيها التوأم إلى الصف.

أجالت بمعالم ذلك الوجه، متسائلة دون تردد لتسري بروحها مع سيماء المشهد القديم.

استفاقت ذاكرتها من أجداث صورة غابت، لتعود مثل مفقود يرجع إلى وطنه، وأهله، وذويه، استيقظت دموع الشوق، سرى ذلك الشعور مع اهتزاز وجداني أعاد إليها صباها معلنا توقه لقلب سرعان ما أجهش بالبكاء مع تجلي لحظة مباغتة.

***

عقيل العبود

في نصوص اليوم