نصوص أدبية

فرات المحسن: أرواح للشجر (1)

الفقرات الأخيرة من الرسالة مطوّلة جداً ومتعبة، لا بل جافة وقاسية. رّبما ظنّوها تفي بالغرض كمقدمة لإنهاء الأمر الذي رأوا فيه، وحسب ما حوته الرسالة، مشكلة كبيرة بالنسبة لهم. ومن جانبي أعدّه مسألة مصير، ولا يمكنني التخلي عنه بسهولة مثلما يظنـّون. رسالتهم احتلت وجه الورقة بالكامل ولم تترك فراغاً منها. تتزاحم في سطورها مبّررات وجدوها مهمة ومقنعة بالنسبة لهم، وتلك الجمل الباردة من الجائز أن تضغط على المرء لتضعه عند حافة الهاوية وتدفعه لحالة من اليأس والقنوط، حيث يكون في أقصى حالات التشويش والإرباك، فيستسلم لرأيهم ويقرّ لهم بما يريدون. لا شكّ أن بينهم أطباء خبراء، بعضهم نفسانيين، من الذين يعرفون المسالك المؤدية لتهشيم عناد البعض من أمثالي، وكيف يوقعون بهم. ويعرفون أيضاً كيف يكسبون الجولات التي يكون الخاسر فيها دائماً خصومهم. ولكن هيهات فأنا أكثر منهم تماسكاً، ولن أخضع لرغباتهم. هذا الشعور هو ذاته الذي انتابني في المرات السابقة حين تسلمت رسالتهم الأولى، ومثله يراودني اليوم. ولكني لا أنكر حالات أجد فيها القنوط والغثيان وصداعا شديدا ينتابني، وتكرر ذلك معي منذ الساعات الأول التي اطلعت فيها على رسائل مصلحة الضرائب، واستمر معي منذ أكثر من الأسبوعين ولحد الآن.

كان رأسي معبأً بأفكار مشّوشة، وعندما ألقيت نظرة عبر زجاج النافذة، لم أجد في الجوار ما يبعد الكدر عني،وكالمعتاد وكما في كل صباح، هدوءٌ يلف بحيرة نورفيكن المجاورة للحديقة الخلفية لدار العجزة الذي أسكن فيه منذ بضعة شهور، البحيرة تقع مباشرة أسفل نافذة غرفتي. ثمة زوارق تصطف عند الشاطئ الأخر للبحيرة، وريح الخريف تهزّ بعنف أغصان الشجر في الغابة الكثيفة الصاعدة بخضرتها الداكنة نحو أعلى الجبل المقابل. كان رأسي ثقيلاً يعجّ بالأفكار، ولكن هناك، في روحي، يقين بأني سوف أحصل على ما أريد. عليَّ العناد والإلحاح وهذا ما فعلته وسوف أفعله. لن أدع فحوى الرسالة يقلل من عزيمتي أو يدفعني للاستسلام. وها هي الأيام تفلت سراعاً، وسوف أجدهم يلبّون طلبي صاغرين.

سرقني منظر طائر النورس وهو يصارع الريح الخريفية العاتية، لذا لم أسمع بادئ الأمر الطرق الخفيف المتكرر على باب الغرفة، وكان جهاز التنبيه جوار السرير يبعث رنيناً خافتاً لم أنتبه له أيضاً. وأنا،  وفي كل مرة، كنت أضغط على الزر ليفتح الباب أو أطلب من الطارق الدخول. ضغطت على الزرّ ففُتحَ الباب بصرير مكتوم ليدخل الممرّض رياض، وهو شابّ في مقتبل العمر، حنطي البشرة عراقي الأصل من أهالي البصرة مسيحي الديانة، ودود ضخم الجسد، دون إفراط بالسمنة، وجبهته عريضة، رأسه حليق بالموسى. حيوي وذكي، ويتمتع بروح النكتة وله اهتمامات ثقافية. كان يمشي دائماً مطرقاً وجهه نحو الأرض، والسبب في ذلك محاولته إخفاء جرح غائر تحت حنكه من الجهة اليسرى وهو جرح واضح  يمتد نحو الرقبة. ومثلما أخبرني فالجرح كان اثر إصابة تعرض لها أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وكان يرفض الحديث بالتفصيل عن أحداثها، ودائماً ما يسمي تلك الحرب، الجريمة التي لا تغتفر. وحين أردت منه أن يروي لي بعض وقائعها، سألني بدماثة أن لا أنكأ جراحه، فقد فقدَ فيها من الأحبة الكثير، وهو موجوع بقدر الألم الذي يحتضنه قلبي من فقداني حبيبي أولف. ورغم الحزن البادي في نظراته فرياض مستمع جيّد وإنسان مدهش في حكاياته، لا بل مسلّ جداً يجعلني أتمتع بأوقات من السعادة الغامرة، وبالذات حين يبدأ رواياته المشوقة عن بلاد ما بين النهرين. يجعل عقلي يطوف هناك في تلك الشعاب والوديان والسهوب التي يصفها لي بدقة عجيبة، وكأنه يشمّ ضوعها حين يتحدث ، لينقلني أحياناً عبر عصور غابرة، شارحاً لي تأريخ وطنه منذ ما قبل التأريخ. أحياناً يدغدغ رياض الجانب العاطفي في شخصيتي، حين يحدثني عن شعراء بلاده، ويترجم لي بعض المقاطع من قصائدهم التي يعشق قراءتها. إن لكل منا، رياض وأنا شخصيا، آراء مختلفة تماماً عن الكثير من مجريات التأريخ ووقائعه، والاختلاف هذا، حسب اعتقادي، يأتي نتيجة إفراط رياض في نزعته العاطفية إزاء ماضي بلاده. وأخاله  يعيش دائماً في نشوة حين يبدأ بتضخيم الأحداث والاستغراق في سرد سيرة أبطاله التاريخيين، وتأكيده على أن التأريخ بدأ من أرض العراق وليس من غيرها.

ـ إنه موعد تناول الدواء يا سّيدتي العزيزة.

ـ لقد نسيت هذا.. ما أكرم الرب حين أرسلك الساعة! أنا في لجّة من أفكار لا أستطيع طردها بعيداً، تعبت معها كثيراً.

ـ ما الذي يجعلك تضعين نفسك في مثل هذه الدوامة المتعبة..

ـ ليس أنا من يريد هذا.. الأمر يتعلق بزوجي أولف بيورن والرسالة التي وصلتني من مصلحة الضرائب، أعتقد أنك اطلعت على مثيلاتها سابقاً،  هي التي وضعتني في هذه الحالة النفسية المتعبة .. كذلك طلبي الذي قدمته إلى تلك الدائرة .. تذكره أنت جيداً.. أليس كذلك ؟...ها قد مضى وقت طويل دون أن يردني من مصلحة الضرائب جواب شافٍ على طلبي.

ـ نعم أذكر كل تلك التفاصيل يا سيدتي الجميلة، وأنا على يقين بأنهم سوف يردّون على طلبك. أعتقد أن إجابتهم سوف تأتي بعد أيام قليلة، فرسالتهم كانت إخطاراً يسبق الرد النهائي.

ـ لا أدري ما أفعله بالضبط ...لو أنهم أجابوا طلبي ؟ إني أفكر بنقل جسد حبيبي أولف إلى مكان آخر، ربما يكون لي بعد ذلك شأن، لحين إقرار قانون الدفن البيئي من قبل البرلمان.

ـ ولكنّ القانون واحد يا سيدتي، سواء في يونشوبينغ أو في أي مدينة سويدية أخرى ..وهي أيضاً ذاتها مصلحة الضرائب السويدية التي بعثت لك رسالة الإخطار عن قرب موعد انتهاء حالة الاحتفاظ بجسد زوجك في الثلاّجة.

ـ إذن ما الذي أفعله؟ فها هو الوقت يمضي دون أن تحسم مصلحة الضرائب رأيها وتوافق على طلبي بإبقاء جسد حبيبي أولف لفترة أخرى. ما أتعس تلك القوانين وما أخبثها! ... تثلم أحلام الناس وأمانيهم بقسوة وبرودة وحشيّتين.

شعرت برغبة في البكاء، ووجدت نفسي مدفوعة للعودة جوار النافذة والنظر إلى لون الشمس الخريفي الغارب، الساقط فوق مياه البحيرة الرجراج. لا أعتقد أن رياض يفهم ما أعانيه، ولم أجد منه اللحظة ما يساعدني على استعادة الهدوء لروحي.

 الأماني، الرغبات، مشاعر خاصة وغريزية.. أحاسيس لا يمكن ترجمتها أو شرحها للآخرين، وليس بمقدورهم إدراكها بسهولة. أعتقد أن من الصعب على العقل الآخر الوصول إلى خصوصيتها عند المقابل. تلك مشكلة رياض ومثله الآخرون، ومنهم مصلحة الضرائب، وحتى أعضاء البرلمان الذين يغلقون الباب بوجه إقرار لائحة المشروع الجديد الخاص بالدفن البيئي، ويبقى الوضع مسمراً على حاله لتكون جميع أجساد الناس نهشاً للديدان.

ـ لقد أخبرني أولف بأمنيته قبل الحادث بفترة طويلة. وأعددنا كل شيء ..ودفعنا مبلغ التأمين كاملاً.

ـ أعرف هذا سيدتي، فقد تحدثنا عنه سابقاً..تناولي حبّات الدواء وسوف تشعرين بالراحة. سوف أعاودك في الصباح . نوبتي اليوم مليئة بأعمال كثيرة . مساء سعيد سيّدتي الجميلة.أترغبين بمشاهدة التلفزيون ؟

ـ لا .. لا.. اعتقدت أنك ستبقى جواري لبعض الوقت..هناك تفاصيل لم أحدثك عنها سابقاً...

ـ آسف سيدتي.. اعذريني،  وددت هذا ولكن ما باليد حيلة، فاليوم يوم عمل شاقّ وكثير.. ليس فقط مع السيدات والسادة الرائعين من أمثالك، وإنما هناك عمل في مخازن الدار والمطبخ.مع السلامة سيّدتي وتصبحين على خير.

ـ مع السلامة.. تمنيّت أن تصغي لي كما في كل مرة ..لا أعتقد أن هناك شيئاً يستحقّ التفكير والجهد مثل حالة جسد حبيبي أولف.

همست بذلك حين كان رياض يدفع دفـّة الباب بهدوء، ويمنحني ابتسامته الهادئة الودودة. تناولت حبّات الدواء. وعلى الرغم من أن الساعة لم تبلغ بعد السادسة مساء، فقد فـّضلت إلقاء جسدي فوق السرير في محاولة للحصول على إغفاءة، وبالأحرى تمنيت ألاّ أظل يقظة ومشغولة التفكير في أمر هذه الرسالة لوقت طويل، ولكن وجدتني لم أنل من محاولاتي شيئاً يذكر.واليوم أجلس وحيدة ولم يعد أولف الحبيب جواري، يا لتعاستي .

كان ذلك في زمان صعب كاد يطيح بكل شيء. ففي ذاك اليوم الشتائي البارد جاءني أولف وابتسامة كبيرة تعلو محّياه. كان يحمل بيده جريدة داكنز نهيتر التي كنا على خلاف دائم حول اقتنائها وقراءتها، فأولف يعشق مواضيعها، وبالذات مقالات وتحليلات السيدة ليندا أليكسون، تلك المرأة المتصابية بصورتها الموحية باللؤم، وكنت بدوري لا أسيطر على مشاعري حين يحاول أولف الإشادة بما تكتبه.

 حين دفع الجريدة نحوي أردت أن أسحبها من يده وأرميها بعيداً، فقد اعتقدت أن أولف بعد كل تلك المشاحنات حول الموقف من السيدة ليندا، يتجاسر ليعرض عليَّ قراءة مقال صاحبته ليندا أليكسون، نعم صاحبته؛ فقد سمعته يحادثها بالهاتف. صحيح أن الحديث كان يدور حول مقالاتها وشؤون السياسة التي يود أولف دائماً الحديث حولها، ولكن ذلك قد يكون بداية لتطور العلاقة وتصبح في النهاية شكلاً أخر،هكذا فكرت وقتذاك. وكنت حينها أظن بالكامل بأن الرجال دائماً هم أصحاب مزاج متقلب، وسرعان ما يصيبهم العطب أمام الغنج والعواطف النسائية. في ذلك الوقت لم أكن أعرف، لا بل لم أرغب، أن أكتشف كون أولف يخونني أم لا، ولكني فوجئت ذات يوم وأنا أبحث عن ورق للرسائل، حين عثرت في أحد دواليب مكتبه على حزمة صغيرة من قصاصات جريدة داكنز نهيتر، تلك القصاصات كانت جميعها لمواضيع السيدة ليندا. انتابني تأثير مؤلم اعتصر قلبي، وشعرت بالوحشة تملآ جوانحي. كان مجرد الإحساس بأن أولف يخفي عنّي تلك القصاصات يوحي لي تماماً بوجود علاقة من نوع خاص بينه وبين تلك  الليندا، وكنت خائفة أشد الخوف من معرفة مدى ما وصلت إليه تلك العلاقة، وكان ذلك بذات القدر من الشعور بالعذاب والألم، اللذين استحوذا على كياني بالكامل. كنت خائفة وممزقة المشاعر والتفكير. أنكر أولف كل ما تحدثت عنه، وبابتسامة رضية كان يرد على كلماتي المتوترة المتسارعة، وبرر عملية جمع بحوث ومقالات السيدة أليكسون لأهميتها السياسية والاجتماعية وطرحها الجريء، وأنه أراد الاحتفاظ بها للمراجعة ليس إلا.

كانت أياماً صعبة وعصيبة ثقيلة على حياة كلّ منّا، فكلما نظرت نحو أولف شعرت بالخذلان والخيبة، فلم يكن يخطر على بالي أن يمارس حبيبي أولف الخيانة، أية خيانة كانت، وهو الذي اعتاد أن يكون معي، كما هو معروف عن الأطباء، أكثر صراحة ومباشرة، وهذا ما عوّدني عليه طيلة حياتي معه. بعد مضي أقل من شهر على حادث اكتشافي القصاصات الورقية فاجأني أولف بالقول إن علينا تلبية دعوة عشاء في نهاية الأسبوع. حينذاك كان مزاجي عكراً والنار تتقد في أحشائي، ولا أستطيع أن أركز نظري نحو وجهه، مثلما كنت أفعل دائماً. أعتقد أنه كان يشعر بذلك، فقد اعتاد طيلة حياتنا الزوجية أن يراني أدع عينيّ تغوران وسط عينيه الزرقاوين، وأتملى وجهه الطفولي الحبيب وشفتيه وهما تتحركان وتنفرجان بين الحين والآخر عن ابتسامة ودودة صافية. بعد ثلاثة أيام سألني أولف بصورة مفاجئة إن كنت بعد لم أصدق ما قاله لي حول موضوع السيدة ليندا أليكسون، أجبته بنعم قوية ودون تردد، فقال أعرف هذا، فأنا لم أعد أرى عينيك بذلك الصفاء الذي يجعلني أفرح وأتلذّذ بحديثي، أتعذب وأنا أراك تشيحين وجهك عني، ثقي أنك تسيئين الظن، ولكن دعيني أقول إنّ علينا تلبية دعوة العشاء مساء السبت، فربما نكتشف هناك بعضنا البعض مرة أخرى ، امنحي حياتنا فرصة التجديد.. أرجوك. ما زالت تلك الكلمات تتردد في خاطري وكأني أسمعها الآن، وبقيت حية مشعة في ذهني. لقد منحتني حفلة العشاء تلك فرصة ذهبية لأستعيد بها جمال حياتي الطبيعي مع حبيبي أولف.

كانت دعوة العشاء في بيت السيدة ليندا أليكسون ذاتها التي ملأت بمقالاتها التي تعلوها صورها المتعددة الوجوه والابتسامات، مكتب زوجي. استقبلنا عند الباب رجل بوجه باسم متورّد وجسد نحيل وشعر أشيب كثيف. كان أنيقاً معطراً يرتدي سترة كحلية وبنطالاً أبيض مائلاً للصفرة. رحّب بنا بحرارة وسحب يدي وقبّلها. وقبل أن يأخذ من أولف باقة الزهور سحبه من يده بعجالة وضمّه نحو صدره وقبله على وجنتيه، استغربت فعلته تلك، فالرجل السويدي قطعاً لا يفعل مثل هذا مع ضيوفه، والرجل لا يبدو أنه شرقي أو من أمريكا الجنوبية، فكل شيء فيه يوحي بسويديته. بعد لحظات أسرّ  لي زوجي أولف بعد أن لاحظ حيرتي، بأن السيد إدغار سرفاتكس، وهو السيد الذي استقبلنا قبل لحظات، من أصل يوناني. ولجنا الرواق الواسع المفضي إلى الصالة. وضعت على جانبي الباب من الداخل آنيتان زجاجيتان كبيرتان بألوان ونقوش شرقية، وعند الجدار الأيمن وُضعت لوحة لملاك بجناحين يمدّ يده عبر الغيوم. وردت في خاطري رسوم دافنشي، ولولا ألوان اللوحة الباردة وحركة جسد الملاك الهادئة الرخوة لرسخ في بالي ذلك الاعتقاد.عرفت بعد ذلك  أنها واحدة من لوحات السيد إدغار نفسه. توقفت للحظات أنظر إلى طاولة صغيرة وضعت عند نهاية الممر، فوقها جهاز هاتف ودفتر بغلاف جلدي يبدو أنه سجلّ لأرقام الهواتف كما بدا لي. كانت زخرفة المنضدة ذات شكل خلاّب يوحي بأنها صناعة صينية، فالعاج المحاط بخيط ذهبي يشكل جسداً لتنّين يلتف حول محيط الطاولة. كم من مّرة تمنّيت أن أحصل على مثل تلك التحف الجميلة التي شاهدت مثلها سابقا في الحي الصيني في لندن، ولكن لم أقتنِها وقتذاك بعد أن وعدني أولف أن يصحبني معه في سفرته القادمة إلى اليابان، لأشتري من هناك ما يعجبني، ولكّن تلك الأمنية بقيت عالقة في خاطري دون أن تتحقق.

حين انعطفنا نحو غرفة الضيوف الفارهة، كانت هناك مجموعتان من النساء والرجال. وقف الرجال لتحيّتنا والترحاب بنا، ومن ثم جلسوا ليتابعوا أحاديثهم التي كانوا يتداولونها قبل قدومنا. جلست قرب امرأة بدت وكأنها جاوزت الخمسين، ولكنها كانت تحافظ على بشرة نضرة وألق ظاهر في عينيها الخضراوين، تبادلنا الابتسامات لا غير. وكانت هناك مجموعة من أربعة أشخاص تتحلق حول طاولة صغيرة وُضعت فوقها كؤوس النبيذ، وفي الجانب الأيسر جلست ثلاث نسوة يتهامسن ويطلقن ضحكات خافتة خجولة. جلس أولف بجانبي وأحاط كتفي بساعده وراح يجول بنظره وجوه الباقين مبتسماً  لهم ويحيّيهم بحركة انحناء خفيفة من رأسه شعرت معها أنها المرة الأولى التي يلتقيهم  بها. ثم ركـّز نظره نحو الباب الذي ولج منه السيد إدغار نحو الداخل.

لوحة كبيرة الحجم عُلـّقت على الجدار خلف مجموعة النسوة، وكانت ألوانها دهنية فاقعة يطغى فيها اللون الأخضر الميال للزرقة، ويظهر بشكل واضح أنها مستوحاة من طبيعة الحياة في أحراش أفريقيا. دققت النظر جيداً وقرأت الاسم الموجود أسفل اللوحة، كان اسم السيد إدغار سرفاتكس أيضاً. مع دقة وتناسق الخطوط مع مساقط الضوء وتوافق الأبعاد وتمازج الألوان، تيقنت أن السيد سرفاتكس كان رساماً محترفاً. فأنا كنت هاوية رسم، وفي بداية حياتي مارست تلك الهواية خلال الدراسة المتوسطة والثانوية، وتلقيت الكثير من الثناء والإطراء على أعمالي، ولكن لم أكن راغبة في إكمال الشوط، لذا عفت الألوان والرسم بالرغم من إلحاح أولف عليَّ للعودة وممارسته.

فجأة ظهرت السيدة ليندا أليكسون من فتحة الباب حيث كان ينظر أولف. كانت تسحب بيدها اليسرى كفّ السيد إدغار الذي دفع يده اليمنى ليحيط خصرها. وقفت عند الباب وسط الصالة فأصبح السيد إدغار لصقها محتضناً إياها. حينذاك قالت السيدة ليندا: أيها الأصدقاء حفلتنا الصغيرة هذه مناسبة لها طعم خاص، لا بل معنىً آخر غير الذي تعودنا عليه.. حفلتنا اليوم نستقبل فيها للمرة الأولى صديقنا العزيز الدكتور أولف بيورن وزوجته الطيبة، وكان بودنا أن يكونا ضمن مجموعتنا منذ وقت بعيد، ولكن ظروف عمل الدكتور أولف وعملنا أيضاً لم يتوافقا أبداً، مثلما كنا نتوافق معه في الكثير من الآراء التي كنا نتحاور حولها. على أية حال، إنها فرصة سعيدة أن نراهما بيننا اليوم، ولأقدم شكري الخاص للدكتور بيورن على ملاحظاته السديدة القيمة التي أفادتنا دائماً في ما نطرحه من أفكار في الصحف والمؤتمرات. استدارت الوجوه نحونا وحّيتنا ببشاشة وتودّد. ثم أكملت السيدة أليكسون قائلة، المناسبة لدعوتنا اليوم هي أخباركم أيضا بقرارنا المصيري، ولكن قبل هذا أجد من المناسب القول، إنكم اليوم ستتذوقون وجبة عشاء يونانية خالصة من ألفها إلى يائها، وأنا لا دخل لي فيها سوى تحضير الصحون ووضعها فوق المائدة. وعذراً منكم إن لم نستطع جلب ماء الشرب من اليونان، زوجي الحبيب آدو هو من هيأ وأعد كل شيء. وأردنا من كل ذلك أن نجعلكم تتذكروننا كلما اشتقتم للطعام اليوناني، فقد قررنا أنا ليندا أليكسون وزوجي إدغار سرفاتكس أن نقضي بقية العمر في جزيرة إيدرا اليونانية، حيث مسقط رأس آدو الحبيب، هناك حيث تعيش بقية من أسرته، وربما لا يعرف البعض منكم بأن من هذه الجزيرة البديعة التي يجب أن تزورونا فيها، انطلقت حرب التحرير ضد الدولة العثمانية، وهناك سوف نطلق لحبّنا العنان ونحمله نجوب معه البراري والوديان. ثم التفتت ليندا نحو زوجها وضمّته إلى صدرها، وراحت معه بقبلة طويلة استقبلناها نحن الضيوف بالتصفيق والبعض بالصفير.

في طريق عودتنا إلى البيت، لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة رغم مداعبات وقفشات أولف، ولم ألتفت نحوه غير مرة واحدة، شعرت وقتذاك بالخجل يغطيني بالكامل، وكان وضعي النفسي سيئاً رغم مشاعر الفرح والطمأنينة التي تجتاح كياني، خليط من وجل، من سعادة، من توتر، وجدت نفسي في موقف حرج، ولكني كنت في الوقت ذاته راضية أقصى الرضا عن هذا الذي حدث، وتيقنت أنّه لولا أناة وحكمة أولف، لكان الأمر قد تطور وصار أكثر إيلاماً وتعاسة لكلينا. ما رأيته وسمعته في حفل العشاء جعلني أشعر بفيض من سعادة كان يغمرني بالكامل، شيء يستحقّ تسميته بالإحساس المفرط بالراحة والبهجة.

عند باب بيتنا، همست باسمه فالتفت نحوي، لم استطع السيطرة على مشاعري فرحت أجهش بالبكاء وبدوره ضمني إلى صدره، فشعرت وكأنها المرة الأولى التي أحسّ فيها مقدار الدفء والطيبة والطمأنينة التي يغمرني بها أولف. قد يكون أولف قد فعل ما يعيب، ولكني على يقين بأن ذلك لا يثلم من حبه لي شيئا، حتى وإن حدث مثل هذا فإني لم أعد أهتم بغير قدرتي على التعلق به، وبسيرة تلك السنوات المريحة الجميلة التي عشتها وحققت فيها أمنيات كثيرة، وإني لأشعر اليوم بقدرتي وجاهزيتي للحاق به وبأقرب وقت.

يتبع

***

فرات المحسن

في نصوص اليوم