نصوص أدبية

علامات وشم على لحاء شجرة

محسن الاكرمينحين نظرت تيللي إلى الشجرة الوارفة الظلال، تأكدت أن في حياتها الماضية قد نحتت وشما على لحائها بامتداد طول يدها الصغيرة. انطلقت مسرعة الخطى دون تفكير سبقي نحو ماضي الذكريات التي تفرح و قد تبكي. لم تتمم خطواتها بتلك اللهفة الاستكشافية، بل فجأة توقفت خطاها، ولم تقدر على ملامسة أقرب ورقة غصن متدلي بالقرب من قامتها الهيفاء. حين تنظر في متسع العرض العيني الأوسط، تجدها مثل مسلاط سينما تحرك الأجساد جيئة وذهابا بأحداث ماضية بعيدة وقريبة.

تيللي تشد تربة الأرض حفنة باتحاد أصابعها، ولا تلوي على ملامستها باستحسان مكوناتها الرملية، تيللي من شدة نبع عيون الدمع، كانت تحس بأن رأسها يكاد ينفجر من ثقل أحداث مضت ولم تستطع بدا من التخلص منها بالرفق والتناسي، لكنها تعود. حينها رآها إيثري تفيض ألما داخليا من إحساسات تتكاثف بالتدفق آتية من فقدان أخيها أنير بمرض الموت. أحست أن شجرة فسحة المسجد الخلفية تحمل هوس الماضي المفزع والمفرح، وحتى دوشة لعب طفولة ومطالب شباب الكرامة والعدل. تقدم إيثري برفق وكأنه يتحسس الأرض لطفا واحتراما، حتى أنه كان لا يقدر عن إحداث رجة تخرج الذكريات الواقفة بالتدفق، تقدم نحو تيللي وهوى على ركبتيه أمام العيون الباكيات واستحضار صور أنير الحية والمتحركة، شد على تربة ذلك الحي غير القصي بالبعد عن دوشة المدينة وقبلها وفاء. تسربت حبات التربة الرملية أرضا من بين الأنامل المشتركة، ولم تحدث ردة انفعال الغبار المتناثر من الأعلى، بل سكنت الأرض الطيبة بهدوء وبلا زوبعة ريح دائرية.

كانت وقفتهما بتساوي تراخي القيام والتقارب الجسدي، وكأن الزمن يعلن جهرا من هذه تلك الفسحة نمو عشق وتعلق قلوب بالحب. استوت الوقفة بتقابل العيون واختلطت البسمة مع دمع الذكريات التي تؤدي.  بين الأيدي يتساقط ما تبقى من تراب رمل، حملته تيللي أمانة من أرض حي المقدمة ، تراب تسمع منه صياحا علويا بمطالب الحرية. لم يعد هنالك بعد بينهما وبين وشم لحاء شجرة فسحة المسجد الخلفية. حين اقتربا من شجرة الخروب، كانت شجرة موغلة من زمن سلف الأجداد، كانت تحمل جاذبية وقوة غريبة، وتتحدى الزمن و المكان. كانت توثق لأحداث حراك منطقة، ومطالب عدل وكرامة. من كرم الشجرة حين لامساها بحنو الكبر الزمان، تذكرت صغرهم وعبتهم بأغصانها، لكنها فاضت حركة بريح رفق، تحمل عبق رذاذ ماء بحر هادئ. حينها أحسا أن خطاب حركة أوراق الشجرة قد سامحتهم، وفرحت بقدومهم لرؤية وشم الذكريات. من صدق مسامحتها أن جرح الوشم رغم أنين الخدش الذي نالته من الأيدي الصغيرة الأربعة فقد تجبر بلحاء سميك وصار مثل الأطلال التي تلوح.

ابتسمت تيللي وقالت: صدق أبي حين حكي لي أن  بذرة هذه الشجرة شرقية من البقاع المطهرة أتى بها حاج صوفي وسكن الفسحة. حين أكد أن البذرة تموت لكي تنبت برعما أخضرا وهي سنة الحياة ولن تجد لها تبديلا. كان الوشم توقيعا بالحروف الأولى لأربع صداقات ترعرعت ونمت ولعبت في هذا المتسع الخفي لمسجد حي المقدمة.

عند ملامسة الحروف، توقفت يد تيللي على وشم حرف (إ) الأولي، توقفت وكأن الزمان يسحبها ماضيا، وكأن روح أنير حضرت لتشارك الحبيبين الجمع بين الفرحة والبكاء. قالت: انظر إيثري هنا تسكن الذكريات، هنا التاريخ ممكن أن نسترجع فواصله الصغرى والكبرى. لكن إيثري شد على يدها اليمنى على قلبه، وقال: قلبي يحمل فرحي، قلبي يحمل كل آهاتي وأحزاني، قلبي يحمل سجل ذكريات الباقية، قلبي يحملك أنت تيللي بالحب، لن أفزع نفسي باستحضار مقاطع متقطعة عن حياتي، ولكن قلبي قادر على أن يجالسك أياما ويحكي لك ماذا فعلت به الوقائع الحياتية، لا ننظر تيللي إلى مقاطع المشكلة دون تصفيف حلول بالإيجابية، بل لا بد من إماطة اللثام عن فرص التمكين التي نرى بها الحياة بعيون حلم المستقبل.

على ملمس حروف اللحاء التي أصبحت سميكة وبادية في وشمها. تحركت الأرجل دون أن تقف رؤية وراء، فيما كانت يد تيللي تحمل أوراقا رباعية تنفضها أرضا وكأنها في حقل ترمي بذور شتاء ممطر، كانت كل ورقة تحمل اسما في دواخلها قبل أن تصل الأرض في ذلك الحي غير البعيد عن دوشة المدينة. 

***

محسن الأكرمين

فصل من رواية: ويلات ذاكرة حالة

 

 

في نصوص اليوم