نصوص أدبية

زگاغ.. كلب القرية

حمزة الشافعيفي طريقهم إلى المدرسة، لمح أطفال القرية زگاغ بالقرب من شجرة لوز وسط القرية، فاجتمعوا حوله، ليمتلئ المكان بالضجيج والشجار والمرح. حاول زگاغ أن يحتضن كل طفل من أطفال القرية على انفراد، لكن كثرتهم وضجيجهم وتهافتهم عليه حرمه من التعبير عن حبه لهم بطريقته الخاصة. لمحت الطفلة الصغيرة جرحا غائرا بعض الشيء في عنق زگاغ وهي تمرر يدها الرقيقة على شعره مرددة عبارتها البريئة المعروفة: " زگاغ، يا صاحب الشعر الكثيف... أنت تشبه الأسد !". أحس زگاغ بطمأنينة كبيرة لوقع الكلمات الجميلة والرقيقة التي جاد بها قلب الطفلة الصغيرة وهي تمدحه، فلم يعر أي اهتمام لجرحه... ازداد ايقاع مداعبته لأطفال القرية وتعال صوت حبه لهم، وتعلقه بأجسادهم النحيفة المكسوة بملابس اختفت ألوانها الأصلية، ليقوم مقامها لون التراب المبلل بماء الساقية الكبيرة التي تخترق حقول القرية. اقترب طفل ضخم الحجم من زگاغ، وأمسك أذني الكلب اللطيف وحاول امتطاءه بعدما تذكر جده التسعيني وهو يمتطي بغل المنزل وقت حصاد الفول والزيتون. كان الطفل ضخم الحجم، ثقيل الوزن رغم صغر سنه، لكن زگاغ ظل يردد في نسفه أن كل حمل بريء  سيهون في سبيل إسعاد أطفال القرية...

وقبيل لحظة إعلان زگاغ انهياره واستسلامه من شدة ثقل الكابوس الأدمي الحقيقي الذي استقر على ظهره، صرخت الطفلة منبهة الطفل الضخم أن زگاغ يعاني في صمت من جرح غائر في عنقه، رغم ما أبداه من تحمل ومقاومة وشجاعة. ما إن اتممت الطفلة حديثها حتى انطلق الطفل الضخم حافي القدمين كالصاروخ باكيا صارخا بعدما تأكد أن يده اليمنى ملطخة بدماء زگاغ الصبور. لم يحس بوقع وخز الأحجار والشوك الكثيف وهو يجري صوب منزل عمته ليخبرها بما حل بكلب القرية. وصل الطفل وارتمى في أحضان عمته مرتعدا وباكيا، حتى تملكها خوف رهيب ظنا منها أن الدماء التي تراها تسيل من جسد الصبي... ماذا تقول لأخيها القاطن بقرية بعيدة من قريتها وهي التي عاهدته على الانتباه للصبي وحمايته من كل مكروه، مقابل بقاءه في كنفها لينسيها جزءا من وحدتها المؤلمة. استجمعت قواها وسألت الصبي ماذا جرى وأين موضع الجرح...توقف الصبي عن البكاء ولم ينقطع تعاطفه مع زگاغ، ثم أجاب بروح ممزقة وصوت متقطع: "جرحي أنا في عنق زكاغ. عمتي العزيزة، جرحت يوم جرح كلب القرية!". حاولت العمة استيعاب ما يقوله الصبي، لكن دون أن تنفذ لعمق كلماته. ظلت تردد في تعجب وحيرة كيف أن جرح عنق الكلب هو جرح الصبي. سألت الصبي إن كان يحس بالألم فصاح بقوة:" نعم عمتي. الألم كبير كبر مكانة زگاغ. كل ذلك الألم الذي يتجرعه كلب القرية الآن ينتابني ويتخلل كل أطراف روحي". عندها، فهمت العمة العجوز أن جسد الطفل لم يصب بأي جرح. ولتتأكد من الأمر تحسست ذراعيه وكتفيه بيدها ولم تجد شيئا يدعوا للقلق. تنفست العجوز بعمق، واحضرت سطل ماء صغير فغسلت آثار الدماء في ملابس وأطراف الطفل. وعندما انتهت من ذلك، صرخ الصبي قائلا:" عمتي، وإن قمت بغسل أثر الدماء في جسدي، إلا أن الدمع سيظل يغلب روحي  حتى ينتصر زگاغ على جراحه. إنه كلب لطيف وجميل." أجابت العمة العجوز بنبرة حبلى بالحب والرغبة في إسعاد الصبي قائلة: "لا تخف على ذلك الكلب، سأذهب معك لنجلبه إلى المنزل حتى يكون بخير. لا تحزن، فسأعتني به." طار الصبي فرحا واستردت روحه حيويتها وقوتها بعدما سمع كلمات عمته...

انطلقا معا مسرعين نحو مكان وجود زگاغ. ما إن وصلا حتى سمعا أطفال القرية يرددون بشكل جماعي عبارات باللغة الأمازيغية المحلية تستنهض همم زگاغ وتشجعه على مرافقتهم لمنزل المرأة العجوز:

A3ri nnk, a3ri nnk a zggwav,

Trit taddart, waxxa ur tgit amlwav.

Tehnnat g inivan,

yari-k Rbbi i izmuln

Nna-d issngayn idamnn...

(ترجمة : يا لسعادتك وحظك الجميل يا زگاغ

ستذهب إلى المنزل، وإن كنت شرسا (لا يعتاد تلك الأماكن)

لقد أعفيت من القتال (والحراسة)

وأنجاك الله من الجروح

التي تفيض الدماء...)

أحس زگاغ بالفخر وهو يتوسط مجموعة أطفال يتجهون صوب منزل العجوز التي فضلت أن تسرع في خطاها لتعد طعاما ومكانا دافئا لكلب القرية. بعد الوصول دخل الأطفال بعفوية ودون طرق الباب إلى المنزل، لكن زگاغ فضل التريث والانتظار خارج المنزل حتى يتلقى إشارة الدخول. كم كانت دهشة العجوز وهي تقف بنفسها على موقف نبيل من كلب القرية، إذ كيف يعقل أن يتخلف عن الدخول وينتظر إشارة منها، في حين أن كل سكان القرية قلما يطرقون الباب وأخذ الإذن بالدخول إلى منزلها الطيني القديم. لم تتمالك العجوز نفسها من جراء تأثرها برقي أسلوب وتصرف كلب القرية فهرولت إليه، واستجمعت كل قواها، وأخذته بين ذراعيها رغم سنها الكبير، ورغم ثقل وقوة زگاغ. حاول أن يشكرها بدوره من خلال إصدار صوت رقيق متقطع، بعدما حاول أن ينسى للحظة، ذلك النباح الشديد الذي اعتاد على إصداره وقت استشعاره لخطر محدق بالقرية. بعدما وضعته العجوز في أحسن غرفة مفروشة بزربية  أمازيغية تقليدية، وغطاء من صوف أبيض لامع، ذرفت عيون زگاغ دموع امتنان وشكر على الإكرام الآدمي عليه في لحظة إصابته وهوانه. جاء الأطفال بدورهم والتفوا بكلب القرية وهو ملفوف بغطاء من صوف، وبدؤوا يقدمون له قطع لحم عيد الاضحى التي قامت العجوز بتخزينها  بعدما أضافت الملح إليها وتركتها تيبس تحت أشعة الشمس لشهور. أكل زكاغ ما يكفيه لسد جوعه فقط، ولم يسرف أو يعبث في الأكل كما تفعل الكلاب الأخرى الكثيرة، المنتشرة في القرى والمدن. بعد لحظة قام واتجه خارج الغرفة. حاولت العجوز والأطفال ثنيه عن مغادرة الفراش، لكن نظرة عينه أوحت لهم بإصراره على المغادرة. تيقن الجميع بضرورة  افساح الطريق لزگاغ ليتجه حيث يريد. التفت يمنة ويسرة في كل أرجاء البيت، حتى استقرت رغبته على غرفة صغيرة ومظلمة، أشبه بكوخ مهجور، كانت العجوز قد خصصته لتربية الأرانب تارة، والدجاج تارة أخرى، أيام شبابها الغابر. دخل زگاغ إلى الكوخ ومدد أطرافه الأمامية أولا، وبعدها الخلفية،  ثم كامل جسده، بلطف وبدأ بتمرير لسانه الطويل اللاهث على أجزاء جسده التي يمكنه الوصول إليها. جاءت العجوز ولم تجد كلب القرية في أفضل غرفة تملكها، وفهمت رسالته، ونادت على الأطفال وقالت لهم أن من فرط أدب هذا ، فإنه لم يشأ أن ينام في غرفتها الوحيدة المجهزة لكي لا يلطخها ببقايا الطين والشعر المتساقط، وأنه فضل أن ينام في مكان مهجور من أن يزعجها بصوته عند حلول الظلام... أحس الأطفال بالذنب، وطلبوا من العجوز أن تسامحهم لأنهم لم يفعلوا كما فعل زگاغ عندما فضل البقاء  خارج المنزل حتى تعطيه العجوز إشارة بالدخول، وأنهم  دخلوا  بيتها الوحيد المجهز دون التخلص من بقايا  الغبار  ومن الأشواك العالقة  بهم،  ودون نزع أحذيتهم الملطخة بالطين والتراب...

فجأة، سمع صوت قوي لأمغار (شيخ القرية) القرية. كان الصوت قريبا جدا منهم لأن الأمغار لم يستأذن بالدخول كما فعل زگاغ قبله بلحظات....إلتفت  الجميع فإذا بالأمغار ينتصب  أمامهم كقطعة رعد مكفهرة، ومعه معلم مدرسة القرية. كانت علامات التوتر والغضب بادية على وجه الرجلين. توثر وغضب  ممزوج بالحيرة والدهشة وهما يصادفان جميع أطفال القرية داخل منزل العجوز ومعهم الكلب ذو الملاحم والبطولات الكثيرة التي لا يستطيع الأمغار إنكارها، رغم محاولاته المتكررة للنيل منها، خاصة عندما فضح زكاغ أمر الأمغار الذي حاول تربية ذئب صغير مدعيا أنه جرو أرومي (أجنبي) مختلف استقدمه من الخارج (فرنسا). لم ينبس المعلم ببنت شفة، بل ظل يتأمل المشهد بعمق وكأنه في حصة تقويم مكتسبات التلاميذ، لكن هذه المرة باستعمال طريقة "الصمت التأملي". انفجر الأمغار في وجه الأطفال قائلا بالأمازيغية المحلية:

“Mav allig ur tddim sr sskula ? Tvalm id is tga lhdrt mid. Tavrct ad awn igan xs bllati.”

(ترجمة: لماذا لم تذهبوا إلى المدرسة؟ هل تعتقدون أنها مسالة لعب/ استهتار؟ أنتم تستحقون العصا/ العقوبة، فقط انتظروا...).

أحس زگاغ بالحنق مع رغبة شديدة في البكاء، بعدما سمع تهديدات الأمغار، خوفا على مستقبل وسلامة الأطفال، لكنه فضل التريث والصمت حتى يسمع رأي المعلم. حاولت العجوز أن توضح الأمور لكن الشيخ قام بثنيها عن ذلك مبررا أن مسألة تمدرس أطفال القرية خط أحمر، لا يجب أن يخوض فيه عموم الناس. عندها تكلم المعلم بلطف ولباقة عجيبين، طالبا من الأمغار ترك العجوز والأطفال ليشرحوا الأمر. لم يستسغ الأمغار طلب المعلم وظل يتمتم:

Yak. Yak. Awd kyyin zziv tllit g tsga nnsn. Waxxa dvi nannay.

(ترجمة: هذا إذن. هذا إذن. حتى أنت أصبحت في صفهم/حلفهم. سنرى إذن...)

 

تكلمت العجوز بعبارات تراثية، كلها حكم وأمثال، عن العلاقة الوطيدة بين الإنسان والحيوان منذ القدم، وعن ضرورة الرفق بالإنسان والحيوان من طرف الجميع دون تعال أو استكبار. كما أثنت على أخلاق الأطفال الذين أبدوا تآزرا عظيما مع كلب القرية وهو في محنته، مؤكدة أن زكاغ كغيره من المخلوقات، لديه حقوق يجب أن تضمن له، مادام يقوم بواجباته في الحراسة ولا يخل بها، ولكونه يحترم أهل القرية.

أخذ معلم القرية بيد العجوز  وقبله، وانحنى لرأسها وقبله أيضا، احتراما وتقديرا لها. اندهش الأطفال الصغار بعدما رأوا معلمهم ينحني تواضعا أمام العجوز واستسلموا للبكاء، وطلبوا الصفح منه مقبلين يده واحدا تلو الآخر، كما التفوا بالعجوز وقبلوا رأسها اقتداء بمعلمهم وتوقيرا لها. ذهبت علامات الحيرة من وجه المعلم، وابتسم قائلا باللغة العربية الفصحى التي اعتاد التدريس بها، رغم أنه ابن قرية أمازيغية مجاورة:" يا صغار، درس اليوم درس عظيم للجميع. إنه درس في الأخلاق والقيم التي يجب على الكل التحلي بها. راق لي أنكم فضلتم مساعدة الكلب في محنته وتعاطفتم معه ببراءة وإنسانية، ولم تتخلوا عنه حتى وصل في أمان إلى منزل خالتي العجوز الموقرة، لذلك، فإن حصة اليوم التي لم تحضروها في قسم المدرسة والتي كان عنوانها "الأخلاق الحسنة والقيم الفضلى"، قد قمتم بإنجازها وتطبيقها قرب شجرة اللوز وفي هذا المنزل، بمعية كلب القرية وخالتي العجوز الموقرة. خالتي العجوز يا أطفال، مدرسة شامخة وشاهدة على القيم التراثية الإنسانية الفاضلة التي يجب أن تنهلوا منها الكثير كل يوم." استولى صمت رهيب على المنزل بعدما أكمل المعلم حديثه. بعد لحظة، تحمل زكاغ الألم الذي يقاسيه وقاوم حتى استقر وسط الحاضرين. نظر في وجه معلم القرية بعيون ملئها الرضى على كلماته الجميلة، التفت  بكل ثقة إلى العجوز الجالسة ووضع رأسه فوق قدميها ليذرف دمعة شكر وامتنان لها. وما إن ذرف زكاغ دمعة ثانية فثالثة وهو ينظر إلى وجوه أطفال القرية الصغار واحدا واحدا، حتى انصرف الأمغار بخطى مسرعة دون أن يعرف أحد الحاضرين وجهته، وماذا يجول في خاطره...

v= / غc= / ش x=خ  /3=ع

***

حمزة الشافعي

تنغير- المغرب

 

 

في نصوص اليوم