نصوص أدبية

فرات المحسن: تلك الأيام المضنية (3)

وقفت أطالع الشارع المتعرج الممتد أمام نافذة الشقة. كان لون الزهور البرية الصفراء يغطي جوانبه ، وثمة عجوز ترعى كلبها الذي راح يقفز مرحاً ويلتف حولها بدورات مشاكسة. تذكرت كوب القهوة الذي وضعته فوق المنضدة منذ حين، وانتبهت إلى أني نسيت أن أغلق جهاز القهوة. جلست أرتشف القهوة بتلذذ. سحبت علبة السجائر فسقطت ورقة اليانصيب أمامي، شعرت ببعض الراحة فتناولتها بهدوء ووضعتها فوق المنضدة، طالعتها وأنا أسحب نفساً عميقاً من سيجارتي. تناولت الملعقة وبدأت أقشط بنهايتها العريضة مواقع الأرقام فوق وجه الورقة.

سرت في جسدي رجفة، وتوقف ذهني كلياً وأنا أشاهد العلامات الثلاث للديناري تظهر على الورقة. لقد جاء الحظ أخيراً. لم أهيئ نفسي لمثل هذا الموقف، وسعادتي عند تلك اللحظة كانت أكبر من أن أحتملها. نفسي أشرقت أيما إشراق، فرحت أصرخ وأضحك وأبكي، أهذي وأنا أحلق فرحاً مثل فراشة، لم تلامس قدماي الأرض. لا لم تلامساها. تأكدت أن العالم يحتجزني في رقعة صغيرة منه، يغلق منافذ الهواء ويسد في وجهي نظـّارة النور. كان جسدي يلتهب حماساً وهياج أعصابي دون حدود. تدحرجت على الأرض ورحت أضربها وأبكي. تبعثرت قواي وشعرت بالإنهاك الشديد وبألم موجع يحرق يدي المتيبسة العليلة. سحبت ورقة وقلماً وحاولت احتساب ما سوف احصل عليه من مبالغ. ذهني المشتت المرتبك لم يستطع السيطرة على الأرقام، وعجزت كلياً حتى عن إدراج ما عرفته من أرقام بسيطة. كانت إشراقة قلبي لا يحتملها صدري وروحي فكانت لحظة تتقافز فيها شرارات من نار وحديد مصهور تحاصر ذهني وتعتصره عصراً، فسقطت وجسدي ينتفض مثل عصفور تتقاذفه الريح دون رحمة. اضطجعت على ظهري ورحت أصفق بيدي. غنيت معها أغنية تذكرتها ولكن وجدتني لم أكملها فصرخت بقوة، لقد أصبحت الآن غنياً، نعم سأكون غنياً مفرط الغنى، سوف أختار مرافقاً أخر وحسب رغبتي وبالمواصفات التي أريدها. سوف أطلب من رشما أن تساعدني وربما أناشدها لتكون بجانبي كمرافقة، سوف أدفع لها ما تريد. أشتري سيارة فارهة، لا..لا أحب ذلك ولا أحبذه..سوف أنجز الكثير من رغباتي دون تقتير. عليَّ الآن أن أدوّن ما أريد بوضوح ودقة. لقد تغير الحال فجأة وعليَّ أن أستعد لذلك. كانت الحياة تحوم حولي مثل ذبابة، تستفزني بأزيزها وطنينها الذي يذكرني دائماً بفقر أهلي وعوزهم.

كانت تتراءى لي صور البيوت المؤثثة ولذة الطعام الفاخر المتنوع كحلم طري، أحلم بساحة فسيحة لبيت فاره يتراقص في باحته إخوتي الصغار وصيحاتهم ترددها جدرانه الرخامية السامقة وأبوابه بزخرفتها المغربية. لم تكن تلك سوى أحلام فتى أرهقه الفقر وبات مقتنعاً بأن اللامحال هو سيرته اليومية، كان ولن يكون حاله غير ما هو عليه. أنا ذلك المسلوب من متع الدنيا والمبهور بمنظر أبناء المترفين لا بل الحاسد لهم، كنت كالمضيّع الذي يبحث عن طريق للهداية. حتى تطوعي في الجيش كان ضرباً من غواية استدرجتني نحو معسكرات البؤس والشقاء، وسارت شؤوني في تلك المعسكرات المهملة المجدبة لا بل القاتلة دون هداية أو قرار. كنا جميعاً مزروعين في متاهة لا حدود لها، مجهول لا متناهٍ. نعلف كالبهائم ونجتر حديث السفاسف المبتورة ونترقب أملاً يقال إنه قادم. جميعنا متشابهون متشابكون بسحنات مصفرة وأرواح كابية. بدأ لغز الحياة ومجونها يتوضحان لي منذ الأيام الأول بالرغم من أننا كنا في وهدة موحشة وكانت هناك جملة واحدة توصفنا دون عناية، عبيد ..عبيد، نهرب من الجحيم والخوف والابتذال إلى الجحيم والخوف والاحتقار. مع كل ذلك فلم أجلب معي حين هروبي وقدومي إلى السويد ندوباً وجروحاً من معارك دفعت إليها عنوة ولم أكن فيها مغواراً، ولم أكن لأسميها معارك، فهي عندي رنين لابتذال يتكرر صداه يومياً وكنت أسمعه بقدر ما بلغته جروح روحي التي كانت تلوكه وتتلمسه أشد وطئاً وأبعد وأقسى وقعا. ولكن هاهي اللحظة قد جاءت.

ولكن الآن ما عساي أن أفعل مع مرافقي البولوني الغدار. إن أخبرته بأمر ورقة اليانصيب فسوف يحاول سرقتها دون شك، أو ربما يسارع لقتلي غدراً. ألم يحاول رميي في البحيرة، أما كان ولازال يتلصص على أشيائي. لو عرف بأمر ورقة سعادتي هذه فالظن كل الظن أنه سيسارع ويدس لي السم أو يقذفني من الشرفة ويدّعي بأني انتحرت. سوف تكون شهادته مقبولة عند الشرطة فقد لفقت لي سابقاً تلك السماجة، وحذرني من تكرارها جميع من قابلتهم عند السلطات المحلية. سوف تكون عملية قتلي سهلة جداً عند مرافقي البولوني وليس هناك من بد منها. لا داعي لإضاعة الوقت، فعليَّ أن أعيد ترتيب الأوراق التي دونت بها حادث البحيرة وكيف أراد مرافقي قتلي عنوة وأمام الناس. ليس هناك من مفرّ للخلاص منه غير تقديم شكواي إلى مجلس البلدية، حيث أثبت لهم بالدليل القاطع أن مرافقي يريد قتلي وهو يسرق الكثير من أشيائي، ويتلصص على حاجياتي وأوراقي. سوف تتعاطف معي السيدة كاترينا.حتماً تتعاطف معي بعد أن أضع بين يديها الدليل الوافي على أساليب مرافقي الخسيسة. بعد أن تطلع وتشاهد صدق ما أقوله، لن تبخل بمساعدتها. حتما سيكون ردها ودوداً مفرحاً، وستقول ياله من بولوني خبيث، لقد أسأنا التقدير، وما حاول فعله جريمة لا تغتفر يستحق عليها العقاب الشديد. وحين أظفر برضاها وتعاطفها سوف أخبرها عن ورقة اليانصيب. كلا ليس في ذلك الوقت. ففي البداية عليَّ أن أتأكد من مسألة الاستغناء عن خدمات المرافق بشكل كامل، عندها أخبر السيدة كاترينا بالأمر وأطلب منها مساعدتي على تهيئة أمر الحصول على المبالغ التي سوف أنالها من ورقتي الذهبية. ولكن العجوز كاترينا كانت عدائية وحادة الطبع في المرة الأخيرة، وقابلتني بجفاء وغلظة، واعتقدت أن خيالي، وحسب ما قالته، قد شط ّ كثيراً وصنع معارك وهمية وتحديات وحقداً وسماجات مع جميع من عمل معي كمرافقين، وأني أرى بخيالي ما لا حقيقة لوجوده، وأني غضوب فزع، تصوراتي شكوك وأوهام غير واقعية لا طائل منها، لا بل ثرثرات ليس إلا. إنها تبغضني خاصة حين تأخذ بإلقاء مواعظها الغاضبة كنمرة مكشرة عن أنيابها تريد افتراسي. كيف أضمن أنها لن تثور بوجهي إن طالبتها بالاستغناء عن خدمة مرافقي البولوني. إنها عجوز، ولكنها صلبة العود مكفهرة الوجه عابسة، تتملق الناس بضحكة شاحبة ملساء مجردة من الطراوة والعاطفة. أفسد بشرتها العمل الطويل بين الملفات والأوراق، وربما دارت بين أروقة مصالح حكومية سويدية عديدة واستقرت أخيراً كمساعدة للمهاجرين في سلطة بلدية منطقة سولونتونا التي أنا واحد من سكانها، وهي الآن في سنواتها الوظيفية الأخيرة، وقد أورثها العمل الطويل تلك السحنة العجفاء واللسان الذرب وعيوناً لا تتكلم دون أن تتحدى ما يقابلها من عيون كسيرة. نعم منذ البداية شعرت بأنها تكرهني، بالرغم من أنها وفي كل مرة تودّعني بابتسامة وتهز يدي بحرارة. وفي رأس السنة الماضية ضمّتني إلى صدرها، وتمنـّت لي سنة جديدة جميلة. لكنها كانت، وفي أغلب المرات، تزجرني على أبسط الأمور وأتفهها، وتحسبني شخصاً مهملاً قلقاً ومقلقاً. لا أشك في كرهها لي وأنا بدوري ما كنت لأستلطفها. وفي أكثر المرات كنت أخرج من عندها مهموماً غاضباً مشتـّت العقل لا أدري أو أعرف ما أريده.

استيقظت فزعاً وأنا أسمع صوت باب الشقة يوارب بقوة. وصوت مرافقي يلقي تحية الصباح بالرغم من أنه لم يشاهدني، فقد كان جسدي ممدداً فوق الأرض بموازاة السرير من الجهة القريبة للنافذة. كنت منهكاً لذا غفوت مكاني. شعرت بتقلصات شديدة في قدمي ويدي المعاقتين وكأن أشهر العلاج الطبيعي وتناول الدواء قد ذهبت أدراج الرياح. حاولت أن أنهض فوجدتني أعجز عن هذا وكانت يدي تضغط بشدة على ورقة اليانصيب فخفت من أن يكون قد أصابها ضرر أو تمزقت فأخسر كل شيء. أمسكتها ومسحت عليها ثم وضعتها بسرعة في حافظة النقود وحاولت أن أخفف عن قدمي رعشة انتابتها وهذا يحدث لي للمرة الأولى وبهذا الشكل.

كرر مرافقي نداءه دون أن أفكر بالإجابة عليه، ورغبت أن أستمر في رقدتي دون أن أدلـّه على مكاني، ولكني وجدته يقف فوق رأسي بابتسامة بلهاء.

ـ ما الذي تفعله تحت السرير يا صديقي ؟

ـ لا شيء ... لا شيء. فقط أردت أن أستريح..لا علاقة لك بشؤوني هذه. دعني لوحدي لا حاجة لي بمساعدة اليوم. تستطيع أن تنصرف، فلا وجود لغسيل وعندي من الطعام ما يكفي.

ـ ولكن واجبي يحتـّم أن ..

ـ أعرف ذلك ولكني أشعر اليوم بتحسن شديد وقد استيقظت مبكراً وتناولت الدواء، وسوف أتناول الفطور والشاي بعد حين.

ـ أي دواء تناولته ؟

ـ لقد حضرت راشما وعملت كل شيء.

ـ أي راشما ومتى جاءت ؟

ـ لقد كانت هنا مع أمي، وسوف تعودان بعد قليل لتأخذاني معهما في رحلة خارج ستوكهولم. هذا قد تقرر قبل عدة أيام مضت. ربما تعتقد أن هذه الرحلة سوف تفقدك وظيفتك، ولكني أعدك بالعودة السريعة وسوف أكلم السيدة كاترينا لتبحث لك عن عمل جديد. لا تفكر كثيرا. لا تهتم، أنا وحدي من يستطيع إيجاد مخرج لمشكلتك. ولكن دعني أقول، إنك تستطيع أن تجد أفضل من هذا العمل. أقصد أنك قادر على العمل في أماكن أخرى مثل شركات ومصانع، وليس من المناسب أن تعمل مثل هذه الأعمال التي تبخس قوتك الجسدية وروحك الفضولية. فالجسد القوي صنع للعمل الجبار، وأنت تبدو مزارعاً قوي البنية، تحب الحديث مع الحيوانات والطيور، وتستطيع أيضاً البحث عن حبيبات في وارشو تقضي معهن وقتاً سعيداً، وربما استطعن إقناعك بالمكوث في وطنك بولونيا، دون الحاجة لوجودك في السويد. وراشما، لا بل حتى أمي، قالت إني لم أعد بحاجة لمساعدتك، وهما ستتكفّلان العناية بي وتسيير أموري. وإن جسدي لم يعد منهكا مثل قبل. تعرف أن راشما تقدر مثل هذا الأمر أكثر من غيرها وقد كانت في المستشفى خير مرافق لي.. ليكن السّر بيني وبينك ولو أني لم أفاتحها بعد، ولكني نويت الزواج منها. قبل ساعة من الآن لمّحت لي، ولو بشكل بسيط، عن إعجابها. والأكثر من هذا كانت تتهامس مع أمي وتتبسمان وهما تطالعانني، وحين سألت أمي عن الأمر قالت إن راشما  تودني  كثيراً وهي معجبة بشخصيتي. لقد غسلت ملابسي وطوتها ورتبتها بعناية. آه لو أنك شاهدت وجه أمي، كان يطفح بابتسامة الرضا والموّدة. أعرف رغباتها وأعرفها حين تكون ضجرة وكدرة، ولكنها كانت اليوم شديدة الفرح مبتهجة مسرورة. ومع كل ذلك كنت أود لو تتركني لبعض الوقت أنفرد براشما لأبثها شجوني وتفصح هي عن رغباتها. قل لي أواجهت مثل هذا الموقف مع إحداهن. لا أعتقد ذلك، فعلاقتي براشما تختلف كلياً عن علاقات الآخرين. سوف نسافر اليوم سوية وأفاجئها بالأمر، سوف تصعق من الفرح وربما ترتبك، ولكن أمي تستطيع أن تكون خير معين. إن أمي تتحدث أحياناً كلاما يثير الإعجاب والقناعة في نفوس الآخرين. أنت واحد من البائسين إذا لم تتعرف على أمي ولم تسمع حديثها. لقد نبهتني لأمرك عدة مرات، وأبدت عدم رضاها عن رفقتك لي، وقالت إني أتعس الناس حظاً لأني قبلت وجودك واستمرارك معي. أعتقد أن أمي على صواب وهذا رأي راشما أيضاً. تستطيع الذهاب الآن فأنا لست بحاجة لك اليوم. وأيضاً فإن عودتهما بعد قليل سوف تثير مشاكل لا أجدني أحتملها. أعترف لك أن أمي وراشما لهما المكانة الأولى في نفسي، وسوف أقف معهما بالضد منك، ويحدث ما لا أريد أن يزعج حبيبتي وأمي، ويعكر صفو فرحي بلقائهما. اذهب وأعتنِ بدجاجاتك في القرية أو سافر إلى وارشو وابحث عمّا يسلي قلبك.لا تدع الوقت يمر ..أرجوك لا تحرجني فأنا لا أحتمل غضب أمي وبكاءها. وإن غضبها وبكاءها سوف يجعلاني أقوم برد فعل لن يرضيك وربما يؤلمك جداً، وهذا ما يجعلني أقول، يجب علينا أن لا ندع هذا الأمر يحدث. لقد تناولت الدواء وراشما من ساعدني على ذلك، في حين كانت أمي تجلس عند حافة السرير تطالعني بفرح وروح منتشية، وهي من قالت إن رقودي بجانب السرير على الأرض سوف يقوي عظامي، فوافقتها الرأي وجلست راشما جواري تمسد شعري فغفوت. اذهب الآن قبل قدومهما. إذهب ولا تظن أني بحاجة إليك بعد الآن.

ـ أعرف ذلك جيداً، لقد اخّبرت به ..رغم كل هذا، ما عليك الآن غير النهوض والذهاب إلى الحمام ثم تناول الدواء. يبدو أنك سهرت البارحة لوقت متأخر ؟

قال ذلك وتقدم نحوي يحاول إنهاضي.أمسك بيدي ورفعني عن الأرض. ما كنت أستطيع تحريك جسدي، وشعرت بثقله مثلما شعر البولوني بذلك. كنت منهكاً وجسدي متيبسا، ولكني طاوعت يديه ورفعت جسدي، وفي الوقت ذاته كنت أحاول جاهداً أن لا يمد يده نحو جيبي، فقد أمسكت جيب بنطالي بشدة. فعليَّ أن آخذ الحذر، وأن لا أترك له فرصة لخطف الورقة مني. لا أحد يعرف ما يدور في ذهن الآخر، وأنا على يقين بأن هذا الشيطان لن يترك الأمر يمر بسلام. آه لو أن راشما وأمي تصلان الآن وتمنعانه من الاستيلاء على ورقتي الحبيبة. لقد تأخرتا كثيراً، وأنا أتهيب اقتراب لحظة اعتدائه عليّ وسلبي ورقتي. إنه قوي بجسد ضخم وعضلات مفتولة، وهو قادر على خنقي ورميي من الشرفة. عليَّ أن أكون لطيفاً مهذباً معه كي أجعله يبعد عن باله فكرة قتلي، أو على الأقل أسايره لحين قدومهما وإبعاد أمر الجريمة بما يكفي من الزمن. ولكن يا ترى ما سبب تأخرهما كل هذا الوقت. لقد أخبرتني راشما أنها تتحرق شوقاً لرؤيتي والعناية بي، وأمي أيضاً كانت كثيرة الدعاء وتطلب من ربها أن يتفضل ويمنحها العمر الطويل كي تعتني بي وترعى أطفالي.أعرف ذلك، فهي سوف تجلس ابني في حضنها وتداعبه.إنها تتشوق لهذا وأنا وعدتها بذلك وأخبرتها بموافقة راشما.

بادرني مرافقي البولوني قائلاً بأني لست في حاجة إلى الإلحاح في الحكاية، واستهلاك نفسي المتعبة بسرد كل تلك التفاصيل، علينا الخروج للتنزه جوار البحيرة لاستنشاق الهواء، والتخلص من الكوابيس المزعجة، وناولني كأس الماء ومسح على رأسي بيده الثقيلة، ثم جلس جواري مطالعاً وجهي بعينيه العصفوريتين. لم تكن لدي رغبة في تلبية طلبه، ولكن خطر في رأسي خاطر، أن أذهب إلى السوق فهناك أستطيع أن أبعد عن نفسي الخطر، وأقضي الوقت لحين قدومهما وفي الوقت ذاته أتأكد من قيمة الجائزة.

حدقت في المرآة، وطالعت وجهي الشاحب ولحيتي التي نمت بإهمال. كان رأسي يرهقه صداع ثقيل وعيناي كانتا كابيتين ناعستين. شعرت بالقرف والاشمئزاز وأنا أشاهد شعر رأسي المشعث. فكرت جيداً، ووجدت أن من الخطر أن لا أرى في نفسي غير المرض، وأن أمحض روحي كل هذا الإهمال بعد أن نلت تلك الورقة الذهبية، مصدر سعادتي القادمة. ولكن يا ويلي فإن ما ترسب في نفسي يبدو أكثر ثقلاً من أن يتركني طليقاً. ولكن ما دام الحال هكذا ولا منفذ للخلاص منه، فليكن ما يكون وسيان إن فرحت أو حزنت؛  فأنا أشعر دائماً بأني لست بقادر على تغيير الأشياء. حتى هذا البولوني أصبح جزءً من كياني، فهو الذي يداري عوقي وعيونه تغلّ فضولها الخبيث في روحي دون توقف، وأنا من الضعف بحيث لا أستطيع أن أبعد أذاه عني. لا أدري ما مبعث كل هذا التشويش. كنت فرحاً طوال ليلة أمس، ولكني الآن أشعر وكأنها امتدت مثل كابوس مقيت. تغير كل شيء بعجالة وبتّ أسير في لحظة قاتمة لا بل شديدة السواد.

بكل تمهّل، ارتديت ملابسي. وحين أراد البولوني مساعدتي على ارتداء القميص دفعت يده بقوة. نوبة من كراهية حادة شعرتها تسيطر على مشاعري، ليس فقط  اتجاهه وإنما تجاه كل ما يحيط بي. واجه خشونتي تلك بابتسامة بلهاء قائلا:

ـ سوف يكون الحال على ما يرام حين نكون وسط الناس..أنت تحتاج إلى هواء منشّط...ربما نلتقي بعض المعارف فيتغير المزاج.

كانت جملته مبطنة ومقلقة بعثت في روحي الكثير من التوجس، ولكني لم أشأ الرد عليه، ورحت أطالع هندامي في المرآة الكبيرة المجاورة لباب الشقة الخارجي، وانتبهت إلى صورته ورائي وكيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة زادت من رعبي.

دفع الباب بهدوء، ووقف ينتظر خروجي. مشيت بتثاقل أخط بقدمي المعلولة فوق بلاط الممر الطويل المؤدي إلى كابينة المصعد.امتدت أمامي فسحة الحديقة الواسعة التي تتوسط العمارات السكنية الثلاث والمغلقة من الجانب الأيسر بأشجار الصنوبر العالية التي تشكل وجه الغابة الأمامي. نظرت نحو نهاية طرف الحديقة عند امتداد الغابة، حيث ينفرج من وسط الأشجار الكثيفة طريق ترابي ضيق. كانت أمي واقفة هناك عند بدايته تنظر نحوي بعينين جاحظتين، وتمسك بيدها طفلاً صغيراً. ناديت عليها ولكنها سحبت الطفل وولجت بين الأشجار عند الطريق الترابي.صرخت بأعلى صوتي، لوّحت بيدي..ناديتها إن تقفِ ..إلى أين تذهبين....انتظريني ...انتظري... ولكنها اختفت..أردت اللحاق بها. كان جسدي مضطرباً يهتز دون أن أستطيع التماسك ..رأيتها تظهر بالقرب من أشجار الصنوبر. كانت ابتسامتها شاحبة وشفتاها متيبستان، وثمة لوم تريد الإفصاح عنه. نعم شاهدتها. لا تريد المجيء اليوم. ربما تركتها راشما وضاع عليها الطريق. ولكنها كانت قريبة وشاهدتني، فما الذي جعلها تبتعد.

***

فرات المحسن

في نصوص اليوم