نصوص أدبية

صَدَقَةُ الأرْبَعين

صحيفة المثقفجلس يفكر في ما يمكن أن يسمعه من أبناء عمومته مساء اليوم،    تواردت عليه  مواقفُ الماضي البعيد، وصور طفولته القاسية، وكيف كان يُعامل معاملة العبد الحقير مدة خمس وثلاثين سنة، فاشتعلت نيران الغضب الجارف داخله، وصمم على الذهاب بعيدا في التحدي،  فهو على كل حال،  لن يخسر شيئا مادام يملك الوثيقة، وهؤلاء الذئاب لن ينالوا منه قيد أنملة  بمودتهم المصطنعة، وإن استمروا في معاكسته بأساليبهم الحقيرة، سيضرب ضربته الموجعة، ويكسر ظهورهم جميعا.

صحيح أن أباه لم ينجب أحدا كما يكرِّر القول أبناءُ عمومته كلَّ وقت وحين، لكنه ليس عبدا كما يزعمون، وهذا ما قاله فقيه الدوار نفسُه، فقد سألوه عن حكم  التبني في الشرع، فأخبرهم بأن الابن يُدعى لأبيه، لكنه  يُعامل بإحسان ولا يُظلم عند أوليائه، غير أن  الفقيه "لا يعرف حالتي الخاصة، وإلا كان سيقول إنني أستحق نسب أبي، فأنا لا أعرف  أبا غير أبي، منذ فتحت عيني وأنا أمامه، يرعاني ويدعوني (ولدي)، وأنا أدعوه (أبي)، أذهب معه إلى السوق والحفلات والجنائز، ويقدمني للجيران وأبناء القرية كلهم  بقوله (إنه ابني )، وفوق كل هذا، أنا لا أعرف الوالد الأصلي الذي تربطني به تلك النطفة المهينة فقط، ولا أعرف الوالدة أيضا، ولا يهمني أن أعرفهما معا، إنهما شخصان عابران، أنجباني وتراجعا إلى الوراء، أما هذه الأسرة التي ترعرعت فيها، فقد أورثتني الحب والرعاية والاهتمام، فلماذا يريد هؤلاء منعي  من إرث  المال والأرض تحت ذريعة الشرع؟  ".

أحس بضيق شديد فنادى زوجته، وطلب منها أن تُعِدَّ براد شاي وبعض "الزميطة"، وتأتي لتجلس معه، ويسمع منها بعض الكلام، فقد تعود على الاستماع إلى رأيها في أموره العويصة.

قالت الزوجة:

- كلْ يا هذا الرَّجل. هؤلاء أعداؤك من زمان. أفسدوا عليك حياتك صغيرا وكبيرا .. كُلْ.

_ أولاد الكلب يزعمون أنهم يحبون عمَّهم الراحل، لذلك سبقوني إلى الإعلان بأنهم سيقيمون له  صدقة  الأربعين بدلا مني ، لكن خطتهم واضحة، إنهم يريدون أن يفضحوني أمام الملأ، ويقيموا عليَّ الحجة بحضور أربعة أو خمسة من فقهاء الدواوير المجاورة.. جماعة الحرام..  لا بأس.. إذا أرادوا الشرع أنا مع الشرع.. الراحل استعد لهذه اللحظة أكثر مني، وأغلق جميع الثقب التي يمكن أن تتسلل منها الريح المسمومة.

لم تُرِد زوجته أن تجاري غضبه الهادر، وشرعت تكوِّر  له " زميطة " البلد بخفة ورشاقة:  "خذ.. إنها لذيذة.. ضمختها بزيت الزيتون جيدا.. هل أضيف السكر إلى الشاي؟ ".

في المساء  لبس جلبابه العيدي  الأبيض، ووضع على رأسه طربوشا بنيا، وأخرج بعناية ورقتين من خزانته السرية، ثم طواهما برفق، ووضعهما في جيبه، وخرج إلى منزل أبناء عمه المجاور، وفي الطريق تساءل هل يكون أبوه يرى ما يجري الآن، " إنه يراقبني الآن بدون شك، إنهم يقولون إن الميت لا يغادر مكانه في الدنيا إلا بعد مرور أربعين يوما على موته، وأبي لم تمر على موته هذه المدة، هناك أيام متبقية سيراقبني فيها، ويعلم إلى ما سينتهي إليه هذا الأمر، لكن عليه أن يعرف ما سيجري اليوم بتركيز أكبر.. ها أنت يا أبي..  أنت ترى أني  أخرج إليهم.. أنفذ وصيتك".

خلال الصدقة، تلذّذ الجميع بأكل  الكسكس، وقرؤوا القرآن، وأنشدوا قصائد المديح النبوي، ورفعوا أكفهم إلى الله يدعونه أن يرحم المرحوم، ويرزقه الجنة.. ثم تكلم أحد أبناء العمومة :

- نرجوكم يا جماعة أن تبقوا معنا لحضور أمر مهم يخص المرحوم. هؤلاء فقهاء دواوير البلدة سيخبروننا ماذا يرى الشرع في أموال عمّنا تغمده الله. ونحن ما علينا إلا العمل بشرع الله وأنتم شاهدون.

عم المجلسَ الصمتُ بعد هذه الكلمة، وصوَّب الحاضرون عيونهم إليه، حتى أحسَّ بقلق مضاعف، دفعه إلى ترتيب طربوشه وتعديل جلسته... نطق أحد الفقهاء محاولا تكسير الصمت والحرج:

- الحمد لله أن الشرع وضع لنا منهاجا واضحا في كل شيء... على الإنسان أن يبحث ليتفقه في أمور دينه.

حاول ابن عم آخر يلبس نظارتين طبيتين  أن يقدّم ما يشبه تقريرا عن أموال المرحوم وخصوصيته العائلية، وقد ركز في ذلك على إحصاء الأراضي وتعيين حدودها، ثم ختم كلامه بالقول " وقد  ترك عمي رحمه الله في الحياة الدنيا الفانية زوجةً  دون أبناء "، ونظر إلى فقيه كبير في السن مستفسرا بعينيه.

مسح الفقيه وجهه واستعد للكلام، لكن صوتا هادئا قاطعه:

- وترك أيضا خادمه الحقير.. لماذا نسيتموه؟ لا تقلقوا. هو خادم فقط. لن يرث شيئا.

في هذه اللحظة أخرج وثيقتين وسلمهما للفقيه الكبير، الوثيقة الأولى فيها وصية موقعة بيد المرحوم، يوصي فيها بإعطاء خادمه ثلث أمواله، أما الثانية فهي عقد بيع، باع بموجبه الهالكُ أغلب أراضيه لخادمه. نظر الفقيه إلى الورقتين، وطالع الحاضرين بوجه أحمر " ليس هناك ما يُقسم. لقد باع كل شيء ".

عمت المجلسُ محادثات جانبية صاخبة، ولم يبدو أن الحاضرين قد رضوا  بهذه المفاجأة،  وسُمعت كلمات من هنا وهناك تقول إن الأمر يتعلق بتزوير مفضوح، لكن ابن العم صاحب النظارتين، هدَّأ الأجواء، والتمس أن تُسلَّم الوثيقة لرجل نحيل كان يجلس في طرف المجلس ليتأكد من صحتها، وينتهي الأمر.. " أعطوه أياها ليقول لنا ما فيها.. الفقيه ما يُكتب على اللَّوح فقط ".

ما إن تسلم الرجل النحيل  الورقتين، حتى سمع أصواتا كثيرة من هنا وهنا " كُلها.. كُلها.. أسرع "، وذلك ما لم يتردد فيه، فقد كوَّر الورقتين، على غِرار ما يُفعل ب " الزميطة "، وقذفهما في فمه، وبلعهما بسرعة...

***

حسن الطويل

 

 

 

 

في نصوص اليوم