نصوص أدبية

شرفاتٌ على البحرِ

اسماء شلاش(متلازمةُ التَّشابه)   

كلُّ تلكَ الشرفاتِ تتشابهُ، لونُها، طولُها، عرضُها، سياجها الخشبي، بلور نوافذها،

الطول والارتفاع واحدٌ، الفرق قد يكونُ عدة "سنتيمترات"..

لستُ أنا المصمم الهندسي لها، لكنها متشابهة..

متشابهة على كل حالٍ وفي كل حالٍ..

حتى النساء اللواتي يقفن لتعليق الغسيل على الحبال يتشابهن..

"الكاميرا" كانت بحوزتي، حاولتُ أن ألتقط تلك اللحظة وأحنّطها كي أثبتَ للعالم

درجةَ التشابه الكبيرة بين تلك الشرفات المتتابعة القريبة من البحر..

 وأنا متأكّد أنَّ لا أحدَ سيعثرُ على الفوارق العشرة بين الصور، ولا حتى على فارق واحد..

الصورة كانت معي..

وهي الدليل الوحيد على براءتي مما يصفون من عدم التشابه..

لا أعرف أيُّ قدر حكيم ساقني إليكِ وأنا أحاولُ أن أثبتَ تهمة عدم التشابه،

 لعلي كنتُ بحاجة إليكِ كي أخبركِ كم هي  مؤلمة درجاتُ التشابه، وأنكِ أنت الوحيدة المختلفةُ، لكنّك هربتِ من الصّورة فجأة..

 ولو دقّقنا أكثر عند البحثِ عن الفوارق، فإن تلك التفاصيل سترهقنا.

وجدت سؤالك على الشرفة رقم6 معلّقاً كما لو أنّه إشادة بالهجران.

"هل أخطأتَ يوماً وناديتها باسمي بدل اسمها بحكم التشابه الذي وثَّقَتْهُ الكاميرا،

هل فعلتَ ذلك"؟

تابعتِ..

إن كنتَ أخطأتَ وناديتها باسمي فأنتَ تعلنُ أنَّ لا تشابه على شرفات البحر.

أنا كنتُ أنتظرُ الجواب..

كنت أنتظر جواباً لا يشبه شيئاً..

جوابٌ مختلفٌ تماماً عن تلك الصور

**

الشرفة الأولى

(هل أخطأتَ يوماً وناديتها باسمي بدل اسمها بحكم التشابه الذي وثقته الكاميرا،

هل فعلتَ ذلك؟)

هذا سؤالُكِ..

لم يحدثْ أني  قد أخطأتُ وناديتُها باسمكِ أنت..

حدثَ تشابهٌ بسيطٌ مرةً واحدة فقط..

التشابه هو بالحرف الأول من الاسم..

أنتِ وهي، وأنا كنت "المتشابه" بينكما حتى لحظة إعلان الفوارق بين الصور.

في ذلكَ اليوم تحديداً هي كانت تسقي الورد المعلَّق على الشّرفة..

أخذ ذلك من وقتها حيزاً لابأس به حتى أنّها نسيت فناجين القهوة ممتلئة، فلا هي

شربت فنجانها ولا تذكَّرتْ أن توقظني حتى أشاركها قهوة الصّباح..

ربّما السّبب هو تأثير الشرفة، فتأثير الشّرفات هنا متشابه، لها السحر ذاته، الجاذبية

ذاتها، إن وقفت عليها فكأنك تقف متأملاً العالم كله. فالإطلالة مغرية كأنّك تطل على

أنثى فاتنة لا تقاوم فتنتها.. إنها فتنة البحر لا الأنثى..

(البحر والأنثى يتشابهان في الفتنة)

هذه الشرفة كانت من المفترض أن تكون شرفة بيتي وبيتكِ، فلا تتهمي امرأة سواكِ

أنها أخذتْ مكانك لأنّها كما تعتقدين تشبهك وأنت ترين أنك لا تشبهين امرأة أخرى،

وأنا أرى ذلك وأقدر ثقتك العالية بنفسك بأنك لا تشبهين إحداهن، وأنا عندما جعلتها

مكانك فليس لأنها تشبهك.. فأنت التي تنازلت عن هذا المكان كي تملأه امرأة سواك..

درجة التشابه بين الحرفين كبيرة لدرجة أن لا تفاصيل للبحث في هذا التفصيل، ولا

فراغ فيه أبداً يسمح لي بأن أجد فرقاً واحداً...

لازالت هي واقفةً على الشرفة تسقي القرنفل..

انها أخرى ولستِ أنتِ..

أما فنجانا القهوة فقد بقيا متشابهين جداً حتى لحظة رشفتكِ الأولى..

ثم رشفتُ أنا رشفتي الأولى..

لم يتغيّر البحر في فترة احتسائي للقهوة معها..

البحر كان يتغيّر كثيراً عندما كنتُ معكِ..

أكملتُ ارتشاف القهوة حتى أنهيتها..

أنتِ لم تكملي فنجانك..

لم يتشابها..

**

الشرفة الثانية

ملاحظة: (مكتبة وليست شرفة..)

دخلتِ غرفة المكتبة..

قلتِ:

-آه.. لديكَ مكتبة..! فهل تسمح لي بإلقاء نظرة؟!

قلتُ لكِ مازحاَ:

-بدل النظرة الواحدة.. نظرتان والثالثة مجاناً..

 ضحك الجميع ضحكات متشابهة، وضحكتِ أنتِ أيضاً لكني ميزتُ ضحكتكِ لأنها

لا تشبهُ بقية الضحكات، إنها مختلفة. ثم تابعتِ الطريق إلى المكتبة. قال لك أحدُ

الضيوف مازحاً، نحن هنا  تلبية لوليمة الغداء من صديقنا، لا وقت لدينا للكتب، فهل

يعقل كلما دخلتِ مكاناً لا تنتبهين إلا للكتب والورق..

قلتِ:

 -لا شيء يغريني إلا الكتب، فكلما رأيت مكتبة أو كتاباً انجذبت "أوتوماتيكياً" إليه.

حسدتُ الكتبَ وقلتُ في نفسي

(ألم تجدي رجلاً يغريكِ، هل تعلنين من خلال إغراء الكتب أن كلّ الرّجال

متشابهون)؟!

أخذتِ كتاباً واحداً، سحبْتهِ من بين عشرات الكتب، لم ألمح عنوانه جيداً، تركتِ

الحاضرين كلهم، ثم اتجهت مع الكتاب إلى الشرفة.

غرفة المكتبة كانت لها شرفة تطل على الشارع الذي يفصلها عن البحر..

جلستِ.. لعل الكتاب بالفعل أغراك..

**

الشرفة الثالثة

إنَّها الشرفةُ الأخيرة في تلك الشّرفات التي اصطفت أمام عدسة الكاميرا.

كيف لم ألحظ ذلك الاختلاف؟ كيف لم ألمح أنكِ كنت تقرئين كتاباً على الشرفة؟

كيف لم ألمحك؟ وكيف خدعتِ الكاميرا؟

لكنّي حتّى اللحظة لم ألمح عنوانَ الكتاب الذي كنتِ قد اطلعتِ عليه في تلك الليلة.

هل كان لعنوان الكتاب علاقة بموضوع التشابه؟

هل كان الكتاب سبباً لعدم رؤيتك، وأني لم ألمحكِ بين النساء في تلك الصّور..

**

الشرفة الأخيرة

(مرحلة انتقالية)

عدتُ إلى تصفّح الصور مرة أخرى، كنتُ أمحصّها جيداً لعلي ألمحك أو أستطيع

إيجادك، لكني دققت كثيراً  لكنّي لم أجدك على تلك الشّرفة..

ما الذي خانني هذه المرة هل هي الكاميرا أم العقل؟

ظهرتْ أمامي كلُّ النسوة اللواتي وقفْنَ في اللحظة ذاتها.

كلُّ النسوة بما فيهن أولئك النسوة التي انتظرن أزواجهن بعد الحرب.

كلُّهن تشابهن في الانتظار..

وكلُّ الجنود تشابهوا بالموت..

***

أسماء شلاش

 

 

في نصوص اليوم