نصوص أدبية

ألو.. هل تسمعني؟

خالد جمعةمسرحية

مكان مظلم، تلفون مرمي على الأرض يرن، ضوؤه أثناء الرنين يومض بشكل متقطع ليظهر يداً يسرى ممدودةً نحوه، اليد تزحف باتجاه التلفون، و هنالك صوت جسد يحتك بالأرض، أصابع الكف الممدودة ملطخة بالدم وملتمّة بعضها على بعضها الآخر، وميض التلفون المتقطع يكشف وجه امرأة بشكل خاطف وسريع، وجهها سيبدو بشعر مبعثر وعليه آثار التراب والدماء، تحاول المرأة امساك التلفون ورفعه عن الارض بكفها المرتجفة والمدماة فتخفق، التلفون يسقط من يدها، الرنين والوميض مازالا مستمرين، التلفون على الأرض يبقى ملقى بينما ستحاول المرأة فتح الحاكية الخارجية بيدها المرتجفة، ستحاول بصعوبة فتح حاكيته بواحدة من أصابع يدها، تضغط على مفتاح الحاكية، صوت وشوشة وصفير يخرج من التلفون، بقعة ضوء زرقاء دائرية باهتة ستحيط بالمرأة، بعدها بلحظات ينبثق صوت خشن وصارم من الحاكية.

صوت من التلفون: ألو، ألو هل تسمعيني سيدتي؟

المرأة: ( بصوت واهن مخنوق) نعم أسمعك.

صوت من التلفون: هل أنتِ بخير سيدتي؟

المرأة: نعم أسمعك، أسمعك (تحدّق بشاشة التلفون وهو على الأرض) المكالمة من مجهول، من أنت؟! كيف حصلت على رقمي؟!، صوتك غريب، ماذا حدث؟ منْ أنتَ؟ هل قرأتُ اسمك بشاشة التلفون صحيح؟ أ أنت مجهول حقاً أم كانت قراءتي لاسمك خطأ؟، هل أخطأتُ بقراءة أسمك؟ من أنت؟ أنا لا أستطيع أن أرى ما مكتوب بشاشة التلفون بشكل واضح، بصعوبة أفتح عيني، لا أستطيع أن أرى جيداً، الحروف غير واضحة، من أنتَ؟

صوت من التلفون: إهدئي سيدتي، إهدئي.. سأخبرك بكل شيء، أريد أن اطمئن عليك قبل كل شيء.

المرأة: (تنظر للتلفون ثانية وتسأل) من أنتَ؟

صوت من التلفون: أنا هنا لمساعدتك، إهدئي وستعرفين كل شيء، هل أنتِ بخير سيدتي؟.

المرأة: ما الذي حدث؟ .

صوت من التلفون: سيدتي عليك أن تتماسكي، كوني هادئة، أنتِ الآن مشوشة، إهدئي كي أستطيع أن أتحدث معكِ وأجيب على سؤالك، هل أنتِ بخير؟ ..

المرأة: (بألم) قلْ لي أرجوك ما الذي حدث؟..

صوت من التلفون: سيدتي جزء من بيتكم انهار، لقد قصفوه..

المرأة: (تقف المرأة بجسد يرتجف، يداها المصابتان مضمومتان على صدرها، تتلفت حولها لتستطلع ما حدث في المكان الذي يحيطها، بعدها تتحرك في أرجائه، مع نفسها تتحدث) لقد انهار جزءٌ من البيت، لقد انهار جزء من البيت.. والذين معي أين هم؟ الذين معي أين هم الآن؟ ( تقترب من التلفون، وهي وافقة والتلفون على الارض تصرخ بصوت مخنوق) والذين معي أين هم الآن؟ ..

صوت من التلفون: صوتك بعيد سيدتي وبالكاد أميّز الكلمات، اقتربي من التلفون أكثر، وأرجو منكِ أن تهدئي، هل سألتِ سيدتي عن الذين كانوا معك؟ أنا أيضاً أسأل عنهم، يبدو ان آثار الصدمة كبيرة عليك، نعم، وهذا شيء طبيعي أن يحدث، أقدّر تماماً ما أنتِ فيه سيدتي، لكن لا وسيلة لدينا غيرك، فعذراً، الوقت ليس بصالحنا، أنتِ يدنا الوحيدة التي يمكنها إيصال رسائلنا للناس الذين كانوا معك، الناس الذين نريد أن ننتشلهم، الناس الذين نريد أن يبقوا أحياء، أنا آسف سيدتي للضغط عليك وأنتِ بهذه الحال.

المرأة: (تقترب من التلفون جداً، تجثو على ركبتيها وتحني رأسها عليه حتى يختفي وجهها) أعدْ ما قلته أرجوك، صوتُك كان بعيداً، أنا الآن قريبة.

صوت من التلفون: إسمعيني جيداً سيدتي، إسمعيني فقط، نريد منك أن تخبرينا عن الأحياء، كوني قوية، وتماسكي، الضعف والانهيار ليسا في صالحنا..

المرأة: (بصوت مكسور) لقد فهمت.. لقد اتضح كل شيء الآن ( تقف، تضع المرأة يديها المصابتين على رأسها وتولول بصوتها المخنوق، تتحرك بحثاً عن صوت يُسمع، بين مسافة قصيرة وأخرى تقف لتتنصت على الأنقاض المتهدمة من البيت بوضع رأسها على حجرٍ، تتحرك المرأة في أرجاء المكان وتصيح بألم كلما وضعت أذنها على حجر) ألوو .. هل تسمعني؟..

(تبقى المرأة تكرّر حركتها وصيحتها بينما الصوت من التلفون مازال يتحدث عبر الحاكية الخارجية)

صوت من التلفون: لا تبتعدي عن التلفون، صوتك بعيد، سيدتي نحن بحاجة الآن لأي دقيقة.. أريدك أن تصغي الى إرشاداتي وملاحظاتي، أريدك متيقظة.. لا تجعلي مشاعرك هي المسيطرة بهذه المهمة.. لا أقول تخلّي عنها (تتوقف المرأة عن الحركة والصياح، بينما الصوت الصادر من التلفون يملي عليها توجيهاته) أريد منك فقط أن تنفّذي ما أطلبه، تحمّلي سيدتي، لا خيار لنا غير هذا، نريد أن نربح الوقت ونحافظ على من بقيَ حياً. ألو ألو، سيدتي، سيدتي هل تسمعينني؟ سيدتي أين أنتِ؟ أرجوك أجيبي..

المرأة: (تعود لتقف قرب التلفون وبصوت متعب).. ولكن من أنتَ؟

 صوت من التلفون: الصوت بعيد سيدتي، هل سألتِ من أنا؟.. أنا من فريق الإنقاذ سيدتي، مهمتي أن أبقى متواصلاً معك لحين تأمين وصولنا.

المرأة: (تستدير لتجعل ظهرها للتلفون لتحدّث نفسها) كل شيء مشوّش في رأسي، أريد أن أثبت المكان، أجمّده، وهو لا يكف عن الحركة، كل شيء يتحرك، لا يستقر، أين كانت الصالة للشمال أم للجنوب؟ المكان يتموج ولا يستقر (تقترب من التلفون تجثو على ركبتيها) كل شيء متحرك، أريد أن أمسك بالجهات، أثبتها ولا أستطيع (تستدير ثانية صوب التلفون وهي واقفة تصرخ) أين أنا الآن؟..

صوت من التلفون: أسمع صراخاً، لا أفهم ما تقولين، إهدئي سيدتي، إتفقنا أن نبعد المشاعر قدر الإمكان، أنفضي مشاعرك عنك الآن لأنها تشوشك.. أسمعيني سيدتي، أريد منك أن تصغي اليّ جيداً، استمعي الى ما أقوله لك واتبعيه، ركّزي، لا وقتَ للأخذ والردّ بالحوار، إسمعي الآن (تجثو على ركبتيها وتحني رأسها على التلفون حتى يختفي وجهها) ألو.. هل تسمعينني؟

المرأة: أسمعك.

صوت من التلفون: حسناً، حاولي أن تعرفي من بقي حياً تحت الأنقاض، واذا وجدتِ أحداً لا تدعيه يغفو أو يفقد وعيه، لا تكفّي عن الحديث معه، اذهبي الآن للبحث عنهم، سأقفل التلفون الآن حتى أحافظ على الشحن الذي لديك، سأتصل بك او اتصلي أنت، انا سأكون على الخط، أنتظرك..

المرأة: (بخوف) لحظة، أرجوك انتظر، كيف لي أن أعرف؟ ما الذي أفعله لأعرف ان كان هناك أحدٌ على قيد الحياة؟

صوت من التلفون: تنصتي على الأنقاض المهدمة سيدتي.

المرأة: وهل هنالك وسيلة أخرى غير التنصت على هذا الحجر؟

صوت من التلفون: إنها الوسيلة الوحيدة الآن.

المرأة: (تزحف صوب الانقاض المهدمة وتتنصت على الأماكن التي تمرّ بها، تتحدث مع نفسها) لقد فعلتُ ذلك قبل أن يُطلب مني، تنصتُّ على الحجر وليس هنالك صوت أو نفَس.. يا ربي ألا توجد هنالك وسيلة أخرى غير استنطاق هذا الحجر الأصمّ الأبكم؟..

صوت من التلفون: حاولي سيدتي، وإذا وجدتِ أحداً لا تدعيه يغفو أو يفقد وعيه..

صوت إغلاق الهاتف، ظلمة

2

تتحرك المرأة وسط الأنقاض حولها بقعة ضوء شاحبة تلاحقها حيثما تكون، تتنصت من خلال لصق أذنها على الحجر، تنتظر لحظات ثم تنتقل الى مكان آخر وتؤدي الحركة نفسها..

المرأة: (تصيح بالحجر بيأس) ألو.. هل تسمعني؟.. هل تسمعني؟ أما هنالك مَنْ يردُّ عليَّ؟.. لا أحد هنا، لا نفس ولا حركة، لا شيء تحت هذه الاحجار (تكرّر الحركة عدة مرات الى أن يصيبها التعب، تشعر بالاعياء، تتمدد على الأرض وجهها للسماء، وهي سارحة تحدّث نفسها) ترى ماذا لو كان هذا المجنون قد قرّر بواحدة من شطحاته أن يأخذ معه الولد للسوق من دون أن يخبرني؟ أو قرّر أن يأخذه للحديقة العامة من دون علمي؟.. ولكن كيف لهم أن يتسللا من دون أن أعرف، لقد كنتُ في طريقهما ( تضع ظهر كفها اليمنى بأصابعها المعقوفة على جبهتها وتتنهد) آه، أتذكر الآن أني كنتُ في المطبخ، سقطتُ على الأرض، بعدها سمعتُ دويَّ انفجارٍ هائل، نعم كنتُ في المطبخ، فمن أين لهم اذن أن يتسلّلا من دون أن أشعر بهما، من دون أن ألحظهما.. من يدري؟ ربما غفلتُ ساعتها، أو ربما كنتُ سارحة، أو أصبتُ بنوبة الثول ومرّا من دون أن أنتبه، يحدث هذا، ممكن أن يحدث.. (يتكسر صوتها ويتحشرج، أنفاسها تتصاعد متسارعة) لن يحدث هذا، لو حدث لكان قد اتصل بي، كان سيتصل بي بعد دقائق، هذا ما عوّدني عليه، لن يتركني قلقة لوقت طويل، لن يتركني كل هذا الوقت في حيرة كما أنا الآن (تعود تتنصت على الحجر وهي تردّد) ألو.. هل تسمعني؟.. (يرنّ جرس التلفون، فتجفل، تلتفت صوبه وتذهب اليه، تفتح الحاكية، وهي وافقة والتلفون مرمي على الارض تتحدث) ألو.. هل تسمعني؟

صوت من التلفون: سيدتي لم أفهم ما تقولين، صوتك بعيد وغير واضح، إرفعي صوتكِ أرجوك.

المرأة: أنا أتحدث من الحاكية.

صوت من التلفون: لا سيدتي اقفلي الحاكية وتحدثي من التلفون مباشرة.

المرأة: (تقترب أكثر من التلفون، تجلس قربه) لا أستطيع.

صوت من التلفون: لماذا سيدتي؟

المرأة: يداي مهشّمتان، لا استطيع أن أمسك بهما التلفون، أصابعي متيبسة من الشدة والألم، أصابعي ليست لها القدرة على إمساك أيّ شيء.

صوت من التلفون: آسف لسماع هذا سيدتي، (يرفع صوته أكثر) لنحاول معاً قدر الإمكان أن نسمع بعضنا بشكل جيد.. هل تسمعينني بوضوح الآن؟

المرأة: (تحني رأسها للارض حتى يغطي شعرها التلفون) حسناً، هل صوتي واضح الآن؟.

صوت من التلفون: واضح سيدتي.. إسمعيني جيداً، أنتِ الآن في منطقة لا يمكننا الوصول إليها، لذلك اعتمدتُ تلفونك وسيلة للتواصل من أجل مساعدتكِ ومن بقيَ حياً معك في المنزل.. (تبكي المرأة بصوت مخنوق) ألو.. ماذا قلتِ سيدتي؟ اقتربي من الحاكية أرجوكِ..

المرأة: لم أقل شيئاً، أكملْ، أنا أسمعكِ.

صوت من التلفون: إسمعي ما أقوله سيدتي، الشوارع التي تؤدي الى بيتكِ الآن يسيطر عليها القناصون، لن نستطيع الوصول إليك قبل تمشيط المنطقة منهم، الشارع المؤدي الى بيتكم ليس آمناً، نحتاج وقتاً..

المرأة: (بصوت متوسل) وكم ستحتاجون؟

صوت من التلفون: ليس كثيراً سيدتي.. (فجأة تقف المرأة لتستدير خلفها، تقف لحظات وهي توجه رأسها لاتجاهات عدة، بعدها تمشي بخطوات واسعة ومسرعة مبتعدة عن التلفون، تقف قرب كومة من الأنقاض، تجلس، تضع رأسها على حجر وتتنصت، الصوت من التلفون مازال يتحدث) سيدتي أنا لديّ جملة من التعليمات، أريد أن أخبرك بجزء منها، والبقية ستعتمد على حالة مَن تعثرين عليه حيّاً تحت الأنقاض، أريدك أن تحفظي هذه التعليمات.. سيدتي ركّزي معي.. ألو، ألو سيدتي صوتكِ اختفى، أين أنتِ؟ ألو.. هل تسمعينني؟...

صوت إغلاق التلفون، ظلمة

3

المرأة رأسها ملتصق بحجر وتحيطها بقعة ضوء دائرية شاحبة

المرأة : (تتنصت المرأة على حجر) ألو حبيبي.. هل تسمع صوتي؟.. أنا أسمعك، سمعتُ صوتك، هل تسمعني ؟.. (مع نفسها) هل سمعته؟ هل كان هذا صوته؟ (تعود للتحدث مع الحجر) ها حبيبي أنا أسمعك.. أسمعك لكني لا أفهم ما تقول.. ماذا أردتَ أن تقول؟.. هل تستطيع أن ترفع صوتك قليلاً؟.. (تتوقف للتنصت) ماذا؟ ظلمة!.. المكان مظلم.. نعم حبيبي المكان مظلم.. لم افهم ما قلته.. أنتَ لستَ خائفاً، نعم حبيبي أعرف هذا، أنت شجاع.. ماذا قلتَ؟.. أنا هنا في المطبخ، هل أنت بخير؟ ..الحمد لله إنكَ بخير، أريدك ان تكون قوياً حبيبي كما عودتني.. هل تسمعني؟ أين أنت الآن؟.. الحمد لله حبيبي.. (يرنّ جرس التلفون، ويبدأ الوميض المتقطع للتلفون) لحظة حبيبي، سأعود إليك، لحظة عمري.. (تذهب للتلفون تجثو على ركبتيها وتفتح الحاكية ) نعم..

صوت من التلفون: هل وجدتِ أحداً؟

المرأة: نعم الولد الصغير.

صوت من التلفون: وكيف هو الآن؟

المرأة: لقد تحدثتُ معه، إنه بخير.

صوت من التلفون: لا توجد لديه إصابات؟

المرأة: لا أظن، لم أسأله، لكنه خائف من الظلمة (تعود للولد، تضع رأسها على مصدر الصوت وتتحدث معه) لحظة حبيبي، لحظات عمري، لا تقلقْ، أنا قريبة منك (تركض صوب التلفون، تجثو على ركبتيها وتتحدث) ها، ماذا أردتَ أن تقول؟

صوت من التلفون: سألتكِ سيدتي عن الولد، لا توجد لديه إصابات، أليس كذلك؟

المرأة: (تعود لمكان الولد، تتنصت) ماذا لديكَ حبيبي؟ .. سرّ!، هل قلتَ لديك سر؟ أعدْ ما قلته كي أفهم (تتنصت، تبتسم) .. كبرتَ يا ولد وصارت لديك أسرار، هيا قلْ.. ماذا عندك؟.. نعم، تريد مني أن لا أخبر أباك.. أعدك، أعدك هيا، قلْ، أسمعك، أنا مصغية اليك..

صوت من التلفون: ألو سيدتي، حاولي أن تُبقي الولد بمكانه، أقنعيه أن لا يتحرك، المكان الذي هو فيه خطر، أي حركة خطأ ربما تؤدي الى انهيارات ثانوية للأنقاض، لا تجعليه يشعر بالتهديد.. ألوـ. ألو هل تسمعينني؟

المرأة: (مازالت في مكانها قرب مصدر صوت الولد) ما هو السر؟ هيا قلْه من دون مقدمات.. هيا قلْ! ماذا؟.. لا تخجل حبيبي، أنا أمك، قل، هيا أنا أصغي إليك .. إرفع صوتك قليلاً كي أسمعك جيداً، ماذا قلتَ؟ .. أمس قبلتَ ابنة الجيران؟ (تضحك بألم وتمسك ضحكتها) كيف ومتى وأين؟ قلْ..

صوت من التلفون: ألو، أينكِ سيدتي؟ ألو، سأغلق التلفون الآن، وأتصل بكِ بعد قليل، أريد أن أبقي على شحن تلفونك، أتمنى أن لا يكون قد حدث سوءاً..

المرأة: (مع نفسها) الولد الصغير كبر، صار يخجل، الخجل علامة من علامات النضوج، لا، مستحيل، انه حتى لا يعني ما يقول، لكنه قال لا تخبري أبي بذلك، صارت له أسرار، لقد كبر (تصمت، ثم تتنبه) أبوه! أين هو الآن؟ آه لو اسمع منه كلمة (تعود للحديث بصوت عال مع ولدها) ما اسمها؟ هيا أخبرني؟ (تتسمع) .. وهذا أيضاً سرّ آخر لا تريد إخباري به يا ولد، أنا وعدتك بأني لن أفشي السر، قل لي اسمها، لا تكن خبيثاً مثل أبيك الذي كان يتلاعب بأعصابي حينما تسنح له فرصة استغلال فضولي، لا تستغل فضولي أيها الولد، لا تكن مثل أبيك، هيا قلْ ما اسمها وإلا سيقتلني الفضول يا ابن الخبيث (تتسمع).. ماذا قلت؟.. لا تريد اخباري باسمها.. طبعاً، إنها جيناتُ أبيك الماكرة هذه التي تتحدث وليس أنت!.. بشرفك قل لي لسان مَنْ هذا الذي يتحدث معي الآن، لسانك أنت أم لسان أبيك؟ قل لي ما اسمها؟.. (فجأة صوت زجاج يتكسر على الأرض، الصوت قادم من مكان بعيد، تنتبه إليه وتتوقف لحظات لتصغي وتحدث نفسها) ما الذي سمعته؟ وما هذا الذي تكسر؟ وأين؟ (ترفع صوتها صوب مكان ولدها) انتظرني حبيبي، لحظات وأعود اليك (تتحرك بسرعة في المكان، وبين مسافة قصيرة وأخرى تضع أذنها على الحجر وتتسمع، تحاول في عدة أماكن وهي تردد) ألو .. هل تسمعني؟ لا صوت هنا، ولا نفس، ربما هنا، الو .. هل تسمعني؟ لا، ليس هنا، ربما هناك، لا، (تتوقف وتحدث نفسها) هل سمعت صوت تكسر زجاج؟ هل سمعته حقاً؟ ام اني صرتُ أتخيل أشياء لم تحدث؟، تهيؤات هذه التي تحدث معي ام انها حقيقة؟..

 ظلمة تعم المكان

4

المرأة منحنية برأسها على التلفون تحيط بها بقعة ضوء شاحبة، وتتحدث من خلال الحاكية الخارجية.

المرأة: نعم تفضل.

صوت من التلفون: كيف هي الأخبار؟ هل هنالك جديد؟

المرأة: تحدثتُ مع الولد وكان خائفاً من الظلمة.

صوت من التلفون: (يستفهم) نعم ؟..

المرأة: تحدثت مع الولد..

صوت من التلفون: نعم، وبماذا تحدثتما؟

المرأة: (باستنكار) بماذا؟!

صوت من التلفون: أقصد حول ماذا كان حديثكما؟

المرأة: ( بانفعال) هذا سر بيني وبينه، اتفقنا على ذلك، وقد وعدته ان لا أفشيه لأحد..

صوت من التلفون: عفواً سيدتي انا لن أتدخل، وهذا ليس تدخلاً، أردت فقط ان أفهم ما يدور حول الولد كي أساعده .. حسناً فعلتِ بحديثك معه ..

المرأة: وسمعتُ صوت تكسّر زجاج.

صوت من التلفون: ماذا؟

المرأة: سمعتُ صوت تكسّر زجاج.

صوت من التلفون: (بحماس) وهل عرفتِ سيدتي مصدر صوت التكسر، هل كان قادماً من مكان الولد نفسه أم انه كان من مكان آخر، إذا كان من مكان الولد اطلبي منه ان يبقى بمكانه ولا يتحرك أبداً.

المرأة: من مكان أخر، لم أستطع تحديد المكان بالضبط، لكنه من مكان آخر.. (صوت سعال، المرأة تجفل) هل سعلتَ سيدي؟

صوت من التلفون: لا سيدتي.

المرأة: كأني سمعتُ صوت أحد يسعل، هل سعل أحد قربك؟

صوت من التلفون: لم يسعل أحد.. (تترك المرأة مكانها وتذهب لتتسمع على الحجر باحثة عن مصدر السعال، الصوت من التلفون مازال يتحدث) سيدتي .. سيدتي أين أنتِ؟ ألو ألو.. هل تسمعينني؟

صوت إغلاق التلفون، ظلمة

5

بقعة ضوء تلاحق المرأة وهي تتفحص أماكن عدة بحثاً عن مصدر صوت السعال، تضع أذنها على أماكن عدة.

المرأة: كأني سمعت أنفاساً.. (تذهب صوب مكان ولدها وتصيح) حبيبي انتظرني دقائق سأعود اليك، دقائق فقط، هل تسمعني حبيبي؟ دقائق فقط .. سأعود اليك، كي نكمل موضوع قبلة أبنة الجيران، ها، تمام حبيبي.. ماذا قلت؟ أخفض صوتي، صوتي عالٍ؟.. تخاف الفضيحة؟ (تبتسم بألم).. تخاف أن يسمعنا ابوك؟ لا تخفْ حبيبي لن يسمعنا أحد (مع نفسها) يا ليت هذا الذي تخاف منه أن يحدث، أن يسمعنا أبوك الآن (تعود تتحدث بصوت عالٍ) دقائق وأعود اليك، اتفقنا؟.. (تخفض صوتها وتهمس) لن يسمعنا أحد، لن أرفع صوتي ثانية، سأعود بعد دقائق، إبقَ في مكانك لا تتحرك حبيبي.. (تبحث عن مصدر السعال وتحدث نفسها) كم أتمنى أن يسمعني أبوك، آه لو تعرف يا ولدي كم أنا بحاجة اليه الآن كي يسمعني، يرد عليّ بكلمة واحدة، كم هي المرات التي كنا فيها لا يسمع أحدنا الآخر، لقد كنا نشاكس بعضنا لأسباب تافهة، أنا أتنازل عن واحدة من هذه المرات وسأسمعه.. لا أدري هو الآن تحت أية حجارة مدفون، آه لو يسمعني، هذه المرة الوحيدة التي أريدها أن يسمعني بها، يسمعني وسأصمت إلى الأبد، لن أزعجه بلومي وملاحظاتي، أريده ان يسمعني هذه المرة فقط، يسمعني حتى أعتذر منه وأعده ، أعده بأني لن أزعجه (تضحك بألم) .. أينك أيها الرجل، لدينا فضيحة في البيت، تعال اسمعها .. لا لن أقولها لك، انها سر من اسرار الولد (تضحك بألم) إن رجل الإنقاذ أراد ان يعرف ما الذي قاله لي الولد؟ (تضحك بألم) يريدني ان أفضحه ، آه لو تسمعني الآن، يا لبرودة أعصابك حينما تلبس قناع اللؤم، جينات الخبث لديكما أنت وابنك أتفقت اليوم ان تعمل بالوقت نفسه معاً، خباثة واحدة تكفي، كفّ عن هذا المزاح الثقيل وأجبني، أنا الآن منتظرة بشوق أن تقول لي كما كنت تفعل في المرات السابقة، أنتظرُ أن تقول لي: أعيدي ما قلتِه لأني لم أفهم أو لم أسمع أو كان بالي مشغولاً، هيا قلها يا رجل وكف عن اللؤم.. قلها يا حبيبي، ليتك تقولها الآن، لن أغضب اذا قلتها، لن أغضب كما في كل مرة، بل سأكون سعيدة وفرحانة، آه لو تطلب مني ذلك، فسأعيد ما قلته بكل سرور، سأكرر ما قلته وانا فرحانة، ولكن أين أنت الآن؟.. (تضع رأسها على دكة من الانقاض، تضم كفيها المكسورتين الى صدرها، أنفاسها قصيرة ومتسارعة) يداي توجعانني .. أتذكر مرة تزحلقتَ حينما كنتَ تريد ان ترتدي قميصك، كانت يداك بكمّي قميصك، تزحلقتَ وسقطتَ على الأرض، فقدتَ توازنك وسقطتَ على الأرض، هل تتذكر هذا؟ لقد قلتً أنتَ جملة بدت وكأنها عابرة، كأنك بصقتها، جملة قلتها بطريقة أردتَ أن لا ينتبه أحد لسماعها، لقد قلتَ: اليدان جناحا البشر، اذا كُبِّلا او قُطعا سيسقط، أنا الآن بلا جناحين، جناحاي محطّمان، يداي مقصوصتان وأنتما بعيدان عني .. أنا أفتقدك بشدة الآن، وأحن لجنونك، آه لو تسمعني (صوت سعال يعلو في المكان، تركض صوب مصدر الصوت، تضع أذنها عليه وتصيح) ألو، هل أنت هناك يا رجل؟، أتسمعني؟.. أرجوك هل تسمعني.. ألو.. هل تسمعني؟ أرجوك أجبني.. نعم أنا أسمعك، ماذا قلت؟ .. أصبتَ برأسك، سوده عليَّ، وكيف حالك الآن حبيبي؟ هل نزفت؟.. نعم، ماذا قلت.. الحمد لله، ها.. صداع لديك.. صوتك ضعيف، ألا تستطيع أن ترفعه قليلاً، أريد أن أفهم ما تقول بالضبط.. الولد بخير، لا تقلق، الحمد لله إنه بخير.. وأنا بخير أيضاً، المهم أنت، هل أنت بخير؟.. ماذا؟ أعد ما قلت، كي أفهم أكثر.. قلتُ لك أنا والولد بخير.. ماذا؟.. لماذا حبيبي؟ ما الذي حدث لك؟.. إبقَ في مكانك، حمداً لله أنك سالم.. (يرن التلفون) لحظة وسأعود اليك (تذهب نحو التلفون، تجثو على ركبيتها وتفتح خط التلفون) ألو.. نعم، أنا معك..

صوت من التلفون: كيفك؟ هل الولد بخير، هل عثرتِ على زوجك؟

المرأة: ( تلتفت فجأة صوب مكان الولد تذهب مسرعة نحو مكانه تتنصت وتنحدث) ها حبيبي، أردتَ أن تقول شيئاً؟.. ماذا؟.. زعلان علي؟!.. لماذا زعلان؟ ما الذي فعلته أمك حبيبي كي تزعل منها؟.. ذكّرني.. الدراجة، كنت أخاف عليك حبيبي، أنت مازلت صغيراً على ركوبها.. ماذا؟ أبوك! كان موافقاً على الدراجة، لحظة حبيبي (تتجه صوب مكان زوجها وتتحدث) ها حبيبي، تأخرتُ عليك، ألو، هل تسمعني؟.. أينك؟ ماذا تقول؟.. إرفع صوتك قليلاً حبيبي.. نعم سمعت: المكتبة سقطت عليك.. على ساقيك.. وكيف هما الآن؟.. الحمد لله (تتجه صوب التلفون) نعم عثرت على زوجي.

صوت من التلفون: هل هو بخير؟

المرأة: مصاب برأسه، لقد تحدث معي، لكن رجليه مقيدتان بالأرض، سقطت عليهما المكتبة، (تتجه صوب مكان الولد، أنفاسها تتسارع أكثر) نعم حبيبي، أبوك كان موافقاً على شراء دراجة لك، لكنه في الأخير قال إن عمرك ليس مناسباً الآن، وأجّل موضوع الدراجة، هل نسيتَ يا ولد، لقد أجّلنا موضوع الدراجة ولم نلغِه، لا تزعل مني حبيبي، ها.. (تقترب من التلفون) نعم، تفضّل

صوت من التلفون: هل كان كلام زوجك مترابطاً، جمله منطقية؟

المرأة: لم أنتبه، كان تركيزي على أنفاسه، أردت ان أعرف أنه مازال حياً، هذا ما كنت أريد معرفته فقط.. (تدور على الأماكن وهي تتنصت على زوجها وولدها، بين المسافات، بين مكانيهما تتحدث مع نفسها) ليست هنالك جذور تشد عباراته وتقيّده كلماته عائمة، طائرة، منفلتة في الفضاء ،غالباً ما تتدفق منه من دون مناسبة (تتوقف قرب مصدر صوت زوجها وتصيح) ألو.. هل تسمعني؟ هل أنت بخير؟.. الحمد لله ( تعود الى مصدر صوت ابنها) حتى من دون ان تكون مهيئاً أنت لسماعه (تتوقف قرب مصدر صوت ولدها وتصيح) نعم أنا أسمعك.. ( وهي تنتقل الى مصدر صوت زوجها تتحدث) لا ينتظر منك ان تكون مصغياً اليه ليقول ماعنده (تتوقف قرب مصدر صوت زوجها) ألو.. حبيبي هل أنت بخير الآن؟.. (تتحرك صوب التلفون تصل إليه، تحني رأسها عليه وبصوت عال تقول) لا أعرف يا سيدي ما الذي تعنيه بسؤالك ان كان كلامه مترابطاً أم لا، انه خارج حدود هذا السؤال، خارج مداه، انه سطحي وعميق، يعني ولا يعني، يتحدث وتظنه يقصد شيئاً محدداً وحين يكمل حديثه ستكتشف أنه يتحدث عن كل الاشياء، أو ستكتشف أنه لا يتحدث عن شيء إطلاقاً. إنه عابث بالكلمات.. لحظة سيدي (تذهب صوب مصدر صوت زوجها وتتنصت) أنا معك، ها ماذا قلت... ( تقبض على ضحكة كادت أن تفلت منها، ضحكة حزينة) سقوط المكتبة كانت نبوءة أمك التي تحققت؟!.. كيف تقول هذا أيها الرجل؟.. أنا على يقين أنها حين قالت ذلك كانت تريد أن تنتقم من المكتبة والكتب وليس منك، كانت تتخيل أن الكتب ستتطاير أوراقها على رأسك كما تتطاير أوراق الشجر، كيف هو رأسك الآن حبيبي، أما زال يؤلمك؟.. الحمد لله، دقائق حبيبي وأعود اليك.. (تتجه صوب مكان الولد) أنت تريد أن تغير موضوع البنت التي قبّلتها ايها الولد الماكر ولذلك تحدثت عن الدراجة، أليس كذلك؟.. لا تراوغْ، دعنا نعود لموضوع قبلتك، ها، مَن هي؟ هل تستطيع أن تخبرني إسمها؟... ماذا قلت؟.. ( بدهشة) أعد ما قلتَ، أريد ان أستوعب.. تقول هي التي قبلتك؟.. من هذه الجريئة التي فعلت ذلك؟ أيّ زمان هذا؟!.. لن تقول اسمها (بمرح).. طيب، على الأقل قل لي اسم أمها .. لا تريد أن تقوله أيضاً (مع نفسها) يا للعاشق الوفي المخلص، لحظة حبيبي.. (تقترب من التلفون) نعم أنا معك.

صوت من التلفون: (يقاطعها) سيدتي أردت أن أعرف حالته الصحية فقط، أردت فقط ان أعرف أن إصابته لم تؤثر على دماغه، لم تشوش تركيزه، لم يتحدث بعشوائية.

المرأة: (بألم وحرقة) ومن أين لي أن أعرف؟، من أين؟ (تبدأ بالتنفس السريع، والسعال للحظات ثم تعود كما كانت، لـتأخذ نفساً عميقاً، تتجه صوب الولد) حبيبي، حبيبي لا تنمْ، ولا تزعل مني، موضوع الدراجة سأحسمه لك، لا تحزن، إتفقنا؟.. طيب (تسعل ويتحشرج صوتها قليلاً).. لا لم اقل شيئاً حبيبي، انا أسعل.. ماذا قلت؟.. دوائي.. لا تقلق أنا بخير، لحظة وأعود اليك (تتجه صوب مكان زوجها وتتحدث معه، حديثها يتخلّله انقطاع نفس قليل مصحوب بسعال وضيق نفس وحشرجة وصفير من صدرها) أنا قربك الآن يا حبيبي، ها، كيف أنت الآن؟... ماذا؟ رواية صخرة طانيوس وقعت عليك وهي التي شجّتْ رأسك (تضحك بألم فيزداد سعالها، ويضيق نفسها أكثر) كفّ عن السخرية أيها الرجل، فإني سأختنق، ماذا قلت؟.. دوائي؟!.. لا عليك بي، لا أتذكره أين، أنا بخير الآن. لحظة حبيبي وأعود اليك (تتجه صوب التلفون) نعم أنا معك..

صوت من التلفون: سيدتي كم بقي من الشحن في تلفونك؟

المرأة: (تسعل وتتنفس بصعوبة شديدة) لا أستطيع أن أرى التلفون، كل شيء مضبب الآن، بصعوبة أرى..

صوت من التلفون: سيدتي أنت تسعلين وتتنفسين بصعوبة، هل أنت مصابة؟ أنفاسك مضطربة، ومتسارعة، هل أنت بخير؟..

المرأة: (بصعوبة بالغة) أنا بخير.. (تتجه مرةً صوب مكان زوجها وأخرى صوب ولدها، تنتقل بينهما وهي تردد كلماتٍ مخنوقةً غير مفهومة، جسدها يتأرجح كالبندول بينهما جيئة وذهاباً، فيما صوت التلفون مازال يتحدث معها، ظلمة ستسود المكان، ليس هنالك ضوء سوى ضوء التلفون).

صوت من التلفون: لا بأس عليك سيدتي لا يهم كم بقي من شحن تلفونك، المهم الآن يجب ان تطمئني فإننا قادمون لانتشالكم، ستسمعين صوت رصاص يقترب، لا تخافي، ولا ترتبكي، الرصاص الذي سيقترب هو رصاصنا نحن، إنهم جماعتنا، سينظفون المنطقة من الأعداء، سيدتي.. سيدتي.. ألو.. هل تسمعينني؟

ظلمة تعم المكان ماعدا ضوء التلفون الذي سيبقى يومض للحظات ثم ينطفئ.

انتهت

***

خالد جمعة

 

في نصوص اليوم