نصوص أدبية

محمد درقاوي: خدعني فخدعت ذاتي...

تتعمد بسيمة أن ترقد باكرا بعد ان تضبط الساعة على الحادية عشرة ليلا حيث يكون أكثر من في الدوار قد هجع. خصوصا تركيبة الشيوخ والعجزة.أما باقي تركيبة الساكنة من نساء متزوجات هاجر أزواجهن الى المدينة للعمل، فأنهن يتساقطن على الأفرشة مرهقات نفسيا بوحدة قاسية ورغبات مكبوتة في غياب للزوج طويل، وجسديا بأعمال مضنية لا تنحصر في أشغال البيت وتربية الصغار من أبنائها،أو رعاية حمل خلفه الزوج إثر آخر زيارة للقرية، بل تتعداه الي البحث عن الماء وجلب الحطب والعناية بمن ظلت تحت وصايتهم من آباء وأمهات، أعمام وأخوال..أيادي كليلة ونفوس منهارة.. أما الباقي فبدءا من سن العاشرة فالبنات يرحلن كخادمات في المدينة والصبيان يشتغلون كمساعدين لأصحاب المتاجر.. الكل بعد الحادية عشرة ليلا يكون في نومه قد غرق،فلا كهرباء ولا تلفزة قد تشد الساكنة بسهر.. كما لا مدرسة في القرية تكون صمام أمان من هجرة الأطفال للعمل بدل الدراسة التي قد تنفض عنهم غبار الجهل، عدا كتاتيب قرآنية قل من صار يلازمها بعد أن اهتم صبيانها بعد ختم القرآن بحفظ وتجويد الى تعلم ما يحشو العقل بالسحر والشعوذة ..

يرن جرس المنبه بإشارات لاتكاد تسمع، فتنتبه بسيمة من رقادها، تغير ملابسها بعد ان تنظف من حالها ثم تخطو على رؤوس اصابعها، ترفع باب البيت الحديدي الى أعلى حتى لا يحدث ازيزا من احتكاكه بالأرض..

بسيمة فتاة في عقدها الثاني اشتغلت سنوات خادمة في المدينة، كانت لا تستقر في بيت حتى تنتقل الى آخر على يد سمسار هو من يوجهها حسب مزاجه ومن يدفع أكثر، لكنها لاتغادر بيتا حتى تترك خلفها حكاية مع أبنائه واذا انعدم الأبناء أو كانوا صغارا فلا تتحرج من إغراء صاحب البيت مهما كان عمره ومستواه، فجمالها وقدها المياس جواز عبور الى القلوب والجيوب..

رغم جمال بسيمة وبسماتها الآسرة  لم تكن في سنوات عملها الأولى ترفع رأسا أو تطمع في ما ليس لها بل كانت تتجنب كل ما قد يمس بشرفها وعفتها وسمعتها..

 خصام دائم مع سمسار يتاجر بعرقها يعرف متى يطرق باب بيت تجد فيه راحتها فيطالب بزيادة في أجرتها خصوصا اذا وجدت نفسها في أسرة أصيلة تحترم نفسها وتقدر غيرها فلا تفرض عليها من العمل ما يفوق طاقتها.

.تعمد السمسار ذات ليلة أتته بسيمة هاربة من بيت حاول أحد أبنائه أن يعبث بها فتركها  تنام معه في دكان يستغله كمتجر لمواد النظافة والغسيل وبيت للسكن، فاغتصبها ثم شرع يلقي عليها دروس التحريض على الإغراء وتسخير جمالها في استغلال كل زوج يغريه صباها أويتحرش بها من أبنائهم ، اذ عليها أن تنظر الى مستقبل ايامها حين يجف لها عود ويخبو جمال من محياها، فحتى العودة الى البادية من أجل الزواج هو خدمة لرجل قد يكون بلاعمل يتحكم في حريتها ويستغل ما وفرته بتعبها وعرق جبينها:

ـ "يلزم ان تحولي ذل العمل في البيوت، ومهانة ما تتجرعينه بأعمال فوق طاقتك ومجهودك النفسي، الى قوة عن طريق الرضوخ لتحرشات رجال البيت مهما كانت أعمارهم، ثم اطلبي الثمن.. كلما كنت أغنى كلما رغب فيك الرجال أكثر "..

لم تخرج بسيمة من المدينة الا بعد أن حملت سفاحا من صاحب آخر بيت كانت فيه ،وبعد أن امتنعت عن الإجهاض ساومت رب البيت الذي تجاوز الستين مستغلة غناه ويسره ، فضل الرجل أن يتجنب الفضيحة بين أبنائه وأصهاره فأرضي بسيمة على شرط أن تغادر المدينة وتلزم الصمت..

جمعت بسيمة كل ما لديها وما كان لديها ليس قليلا ثم عادت الى القرية بين أمها وابيها بعد أن قضت مدة في بيت امرأة مشهورة باجهاض الخادمات برعاية السمسار..

صارت بسيمة في القرية وقد اكتسبت خبرة في الإثارة و الاغراء ونسج الكذب تخرج كل ليلة للسهر مع أحد العمال رأته يوما وهي فوق التل يحط رحله بوصول الى بيت والديه فأثارها بقده ورشاقته وفخامة السيارة التي يسوقها، فصارت تتعمد الوقوف في طريقه.. وجدت فيه بسيمة قابلية لخيانة زوجته والتغرير به لحمل جديد ومساومة أقل ما قد تناله منها حَرْكة الى خارج الوطن.. فالحمل سفاحا صار لها كلعبة البنات على التربيعات لكنها مقنعة ومربحة..

كانت تلتقي به في حلكة الليل ينسل من سرير زوجته أو يدعي السهر في المدينة مع أصدقاء طفولته ويأتي للحظات المتعة مع بسيمة  الى ساعات متأخرة، فالفصل صيف حار يغري بالتعري والسهر..

في لحظة انتشاء وغيبوبة متعة تهتز الأرض بزلزال تحت جنبات العاشقيْن، وفي سورة رعب يدفع العشيق بسيمة عنه، وما أن تحاول الوقوف حتى تداهمها الاتربة فتدفنها تحت الركام فوق عشيقها، تميد الأرض وعليهما تترامى الأعمدة والطوب من البيوت يحاصرهما بضربات من كل جانب الى أن أفقدتهما الوعي..

الكلاب المدربة هي التي دلت رجال الإنقاد على بسيمة وعشيقها تحت سقيفة عريش قد انهارت ومنعت عواميده وعوارضه الخشبية أعمدة البيوت الاسمنتية من سحق بسيمة وعشيقها..

كانت بسيمة حين تم استخراجها غائبة عن الوعي تكاد تفقد روحها من جراء الاختناق،وقد غاب جزء من أحد اثدائها بينما عشيقها استطاع أن يستعيد أنفاسه بساق مكسورة ورأس مشروخ بعد ترويض من أحد المسعفين..

حين سألوا العشيق عن الأنثى التي كانت متشبثة به في عناق أدعى أنه لا يعرفها ولم يسبق له رؤيتها...

حاصره أحد رجال الانقاد:

ـ وكيف تم وجودك وهي فوقك لصيقة ، عاريان معا ؟

ـ لا أدري، لا أذكر الا أني كنت مارا وقد ظهر لي شبح شخصين قريبا من المسلك الذي كنت أسير فيه..

ـ وهل كنت مارا وأنت عار تماما ؟

ـ لم أكن عاريا، ربما ثيابي تمزقت بفعل الزلزال

ضحك رجل الانقاد وتركه للبحث عن ضحية أخرى، فهذه ليست مهمته..

بسيمة خضعت لعملية جراحية تم بتر ما تبقى من ثديها، عانت كثيرا خاصة لما بلغها أنها قد فقدت والديها معا، لكن ما ظل يؤرقها هي صندوقتها النحاسية والتي كانت بنكها وفيها تكنز كل ما توفر لها من ذهب و نقد هو مال أجرة عملها ومساوماتها عن شرفها.. كانت لا تتوقف عن الاستفسار عمن كان رئيس الرجال الذين اهتموا بإخراج جثة والديها من ركام بيتها..

خرجت بسيمة من المستشفى نفس منهارة وعقل عليل ما لبثت أن دخلت في حالة من الهوس على صندوقتها..

كانت تظل في ساحة مخيم المنكوبين تروح وتجيء، مفتوحة الصدر، منفوشة الشعر، تصيح بأسماء كل من اشتغلت عندهم وتروي حكايات عما وقع لها في كل بيت منهم:

ـ "أموت أنا واليهم يعود كل شيء، اضبطوهم قبل أن يرحلوا "

" اتهمتُ الرجل بالسفاح وهو بريء، اقبضوا على السمسار فهو من يملك الحقيقة "

انشقت الأرض وبلعت كل شيء، وأدت أحلامي، فماذا بقي لي ؟..

"خدعني السمسار فخدعت ذاتي واستبدلت واقعي بوهم"

"ازددت فقيرة، تربيت فقيرة،يا ويلي كيف أموت فقيرة؟ "

عشيق بسيمة كان يحاول ان يبادر تجنبا للفضيحة رغم راسه الملفوف قطنا وكسر ساقه والمشي بعكازتين الى شد الرحال مع زوجته الناجية بسلام والعودة الى وطن الغربة حيث يعمل، مدعيا أن العلاج خارج الوطن أحسن، فهو مجرد شاب تلقفته أنثى غنية في عمر أمه ضالا بلا عمل،تائها في بلاد الغربة تزوجها وباسمها صار يدير تجارة لايملك منها غير رضا الزوجة عليه..

صارت بسيمة حبيسة مخيم المنكوبين، جمال سارب وقوة خائرة تتركن في إحدى الزوايا ، تشاركها جماعة ممن حولهم الزلزال الى أصحاب عاهات وأتى على ذويهم،لاتكلم أحدا أو تلتفت لاحد بنظر، فهي تختص بأوهامها وصور تظل تراها عبر تخيلات المدى، تهمس لها أحيانا بمدح،أوتلعنها أحيانا أخرى بذم، بل امتنعت حتى عن الاكل والشرب الى أن تدهورت صحتها و فقدت كل قدرة على الكلام..هيكل عظمي وجلد يلتصق بعظم..

بعد شهرين تقريبا أتى أحد رجال الدرك يهرول اليها،وفي سيارته صندوقة نحاسية صفراء وجدها من يعيدون تسوية الأرض وحفر ساسات البناء الجديد لبيت أسرة بسيمة..لم يتلق الدركي أي ردة فعل فبسيمة قد لفظت أنفاسها الأخيرة.....

***

محمد الدرقاوي - المغرب

في نصوص اليوم