تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

أحمد غانم: وشم الغياب

احمد غانم عبدالجليلخرجت مسرعة من باب داره نحو سيارتها في وضح النهار، غير مبالية بمن قد يراها، لم يعد يهمها في كل الأحوال، ولم يعد من معنى لمواصلة لعبة التخفي والتقيد بقوانينها المملة والمستغبية بعد الآن، الدموع تحرق عينيها من خلف النظارة الشمسية الكبيرة نسبةً إلى وجهها الذي لا يتجاوز حجم كفه، بل هو أصغر قليلًا، يحتويه عند الخجل أو الزعل المشوب بالدلال المشتهى كل حين أكثر، كل مرة، سنة تلو الأخرى أكثر وأكثر، بعشقٍ أعمق، يأسر روحه فينساق إليها جسده في سكرة لا يود لها نهاية، لكن خصامهما الذي أتاه عنها طريقها المعتاد لا رجعة عنه، هو بالأحرى قطيعة تفاجأ كل منهما أنه تم تأجيلها مرارًا وكان لا بد من نقطة تنتهي عندها علاقتهما الممطوطة كعناق شفاه لم تخبر سحر الشغف من قبل، شغف تخطى خطوط علاقتهما السرية حتى كادت تفتضح، كم من مرة زحف بهما الوقت فأمضت الليل في فراشه حتى مطلع فجر اليوم التالي، لتهرع راكضة تستبق نهوض أبنائها من النوم، تترجى ألا يكونوا قد انتبهوا لغيابها فتضطر لارتجال كذبة مقنعة في لمح بصرها أمام تساؤل أعينهم الغافلة عن تدفق الأنوثة الريّانة في شرايينها من بعد نضوب، وكم من مرة جمدت الدماء في وجنتيها وقد ساورها الظن بحبل لا تعرف سبيل تخلصها منه إن وقعت كارثته في رحمها رغم ما تتخذه من حيطة ورغم تقدم العمر، انساقت وراء شطط هوسه المتلبس أكثر من عمر في شبق خفي عن حياتها المعلنة، لم تحيَ مثله بين أحضان زوجها الشهيد في ذروة نهم الجسدين بعقدٍ مبارك من الأهل والأصحاب، ولم تعرف أن الخفاء يمكن أن يغرس في أوصالها ما لم يسكنها قبلًا من هيام، ظل يتحدى كل عزمٍ واتاها لتمزيق أطول صفحةٍ في حياتها أعيد فتحها دون توقعٍ منها، إلا أن هذه المرة مختلفة تمامًا، تكرر مغمغمة في إصرار متزايد مهما وخزتها وحدته من دونها وتوق حاجته إليها، أقوى من كل عصف مضى على وجودهما معًا ولو لساعات بمنأى عن التزاماتها وعزوبيته التي أدركها المشيب، غزا شعر رأسه وشاريه ولم يتسرب إلى عنفوانه معها، ولا إلى همسات لا يتصور أحد أنها يمكن أن تصدر عن شخصية مثل شخصيته العصبية والجادة على الدوام، وفي عمره المقبل على الستين، لم يقبل أن يوشَم بقلب امرأة سواها، تهجس إن جسده أيضًا لم يتدثر بحنايا صدر غير صدرها الذي وهبته لحنو أمومتها فقط ولم يغامرها التفكير قبل عودة ترانيم وجده إلى ربوع سكونها، كما لو أنها تلتقيه لتوها، أن تلمسه يد ولا أن تلثمه شفتا رجل بعد زوجها الراحل، تتبعه ذكرياتها معه، غصة تلو الأخرى، نحو الأفول، رجل اخترق كل الحواجز في عجالةٍ لم يدركها عقل اعتاد استمهال كل شيء، أراد أن يستعيض بها عن بعض ما خسر في سعيه الحثيث وراء أحلام أودعته المعتقل سنوات، لم ينجُ من أهواله إلا عندما بدأ ابنها البكر تعلم أحرف الأبجدية، أما أبجديته هو فقد أخذ يتعلمها من قضية تلو الأخرى دسمة الأتعاب، يعرف كيف يكسبها مهما تضائلت الفرص، ثروة وعلاقات انهالت عليها منحًا لم تطلبها، عبدت مستقبل أولادها دون أن ينتبهوا لوجوده في دروبهم، ظل يرقب مساراتها عن بعد، حتى بعد الزواج.

أخبرها أنه عرف بعد سبل ضياعٍ وتشتت الطريق الآمن الذي عليه أن يسلكه في البلاد متغيرة الاتجاهات على الدوام، وإن كانت أغلب تلك التغيرات وأهمها لا تظهر للعلن في قرارات رسمية أو بيانات ثورية رسمت مصائر خطاه، تكاد تبلغ أمانيه حينًا ثم تطوح بها أحيانا، أما الآن فقد جاء وقت الظفر بكل ما تمناه وتمرس على خسرانه، قال هذا، في صيغ مختلفة، وذراعاه تجذبانها إليه أكثر، بعتو من لم يستنشق عبق امرأة من قبل، امرأة ظلت أهم وأثمن كل ما اغتنم من حروب الجنون التي أجبر على خوضها منذ مطلع شبابه، ولّى عنه على عجلٍ يستغربه ويقهره كلما اضطرت إلى تركه في كهفهما المحتجب عن الأعين، يكاد يهرع إليها في أي وقت، يصخب داخله شوق يشهق بهاجس خوف ألا يراها ثانيةً وضغط دمه يستمر بالصعود، فتتملكه لتصد عنه شبح الموت وإن بدا لها أنه من يريد تملكها أطول وقت ممكن قبل أن تستلبها الحياة منه مجددًا.

"من منا كان بحاجة إلى الآخر أكثر، ومن منا استغل حاجة الثاني إليه منذ البداية؟" كثيرًا ما يتساءل ثم يحاول التهرب من تساؤله المحيّر والمهتاج إلحاحًا كل جرعة حرمان يرتشفها من وحشة غيابها، تحوَل إلى اتهام مباشر صوَبه نحوها وأبنائها الذين ينعمون بثمن كل تنازل يستنفد نزق الثائر داخله حتى النزع الأخير دون أن يعرفوا شيئًا عن الجندي المجهول الذي يقدِم لهم الحياة نيابةً عن والدهم المتوفى بلا ثمن عند حدود وطن اعتاد تمجيد خساراته بعد تجميلها وتحويلها إلى انتصارات يطنطن بها المديح حتى تصير حقائق تتهدد من يحاول التشكيك بها، كما كان يحصل إثر كل حماقةٍ تأتي بصفعة جديدة يتلقاها هذا الطرف أو ذاك، كلام كثير فاضت به جعبته فأطلقه نحوها، ثرثرة هاذية ما استطاعت احتمالها، فلملمت ثيابها المرمية فوق السرير الذي اشتراه خصيصًا لأجلها، بعد زواجهما المندس في ورقة موثقة تنَقلها من مكانٍ لآخر وكأن هناك من يقتفي أثر جريمة ارتكبتها ويسعى للحصول على أدلة تدينها، ظل يبدو لها غريبًا وسط أثاثٍ قديم، باهت الألوان، وجدرانٍ تطعنها الرطوبة هنا وهناك، رد ذات مرة على تذمرها من فوحها العتيق المخالط أنفاسهما: "عندما تعيشين معي حياة كاملة أجدد كل شيء فيه، أو حتى أشتري بيتًا آخر في أي منطقة ترغبين." أجبرتها كلماته أن تلوذ بالصمت، بينما نفث حسرة قوية من حسراته المتوغلة في حنايا أضلعه بغل كل زنزانة حشرت مِزق سنواته خلف قضبانها.

نقّل نظراته الحانقة بين أرجاء المكان الذي ظل يحتفظ ببقايا رجع صدى صياحها في وجهه، يختلط بصخب الاجتماعات السرية التي كان يحضرها قبل زمن، ولم يخطر في باله أنه سيشتري ذات الدار بثمنٍ بخس من رفيقه القديم لدى استعجاله السفر وعائلته إلى أحد المنافي البعيدة، لا يستبقل فيه أيًا من الأصحاب أو الأقارب إلا نادرًا، مفتاحه الثاني معها، والثالث مع رجلٍ أنهكه ما تحقق من أحلام أكثر مما لم يتحقق، يأتي مرة أو مرتين في الأسبوع للتنظيف وإعداد الطبخات التي يحب، كما كان أحد الشاهدين على ارتباطهما المتأخر عقودًا من العبث، لم تستطع أن تنتشله من فلكها مع أسف مخضب بمرارةٍ جد قاسية لا قدرة لديه لإفنائها مع أي فتاة، قد تكون في عمر ابنته لو أنه تزوج في سن شبابه المتعثر بهزائمه المتتالية، ترضخ لإغراء نقوده كي تحسن دور المأخوذة بفحولة رجل يمكن أن تنسج حوله شتى الحكايات الكئيبة، العجوز الشقي الذي يرزح تحت ركام من عقد مسترسلة مع مضيه نحو النهاية، نهاية سيشهدها وحيدًا كما كان أكثر عمره، لن يجدها إلى جانبه، ولا أي ممن يحومون حوله لمصالحهم أو لاستدرار عطفه المالي قدر المستطاع، وقد يقال بعد موته الكثير أيضًا، أحاديث وآراء متضاربة عن ذات الإنسان الذي أهمل كل أملٍ تمنى سنو وهجه ذات ظلمة من ظلمائه المتطاولة ضمن يوم وجوده في دنيا سيرحل عنها دون أن تمد له يد المصالحة التي تمنى وخادع بها نفسه مراتٍ ومرات، كلما أقبلت حبيبته عليه، ما تلبث أن تعاود الخروج من محيط سمائه الكابية لتذره إلى بؤس أوقاته المضنية، لن يهاتفها، لن يعتذر ويحاول مراضاتها بكل رجاء يبقيه على أطراف الحياة، حتى ذلك الرجاء يمكن أن ينفد منه في أي لحظة تغيب عنها ومضتها الخاطفة في غمرة نبض الأبناء والأحفاد، قد تبكيه، تنتحب لأجله، وتخشى أن يلمح أحد لمعة دمع تطل من عينين عشقهما في عمرٍ راحل سرعان ما يخبو من ذاكرة من مرّ على حيواتهم، دون أن يعلق بها إلى النهاية، تمدد في فراشهما، أغمض عينيه، لا يريد أن يبقى مفتوح العينين بانتظار صدفة تنبئ بوفاته، سكن مكانه نحو ساعة، بلا أن يغفو حتى، سأم من رقدة الاستسلام المقيتة تلك، زفر حسرة قوية أخرى ونهض عن سرير (الحلم المؤجل)، أنسب اسم خطر على باله، كما لو كان شخصًا حظت به عزلته فجأة، ود أن يبوح له بكثير الكلام بلا أن يسمع منه أي تعقيب، إلا أنه لم ينطق بكلمة، أثقل الصمت لسانه، فخضع لسكونه أكثر، سار من غرفةٍ لأخرى في أرجاء الدار ذي الطابقين، يبحث عما لا يدري، مجددًا ومجددًا ومجددا...

ضجّ في مسامعه رنين الهاتف الطويل، كأنه يتعمد استفزازه، ربما إلى ما لا نهاية، فازداد إصرارًا على عدم الرد، كما لو كان يتجاهل الصراخ باسمه وكل توبيخ يمكن أن ينهال عليه، من قِبَله قبل غيره، لم ينظر إلى شاشة الموبايل، لعلها هي، تريد أن تصب في رأسه حميم كلمات لم تدركها القدرة على قذفها في وجهه، أو أنها تود أن تسمع منه اعتذارًا يعيدها إليه بسرعةٍ مباغتة لكلٍ منهما، على عكس صرامة قرارها بنبذ تصابيه من قلبها وذاكرتها لو استطاعت، كفتاةٍ في نزق الشباب، لم تقرص التجاعيد ملامحها ولا راحت تلجأ لصبغة الشعر على نحوٍ متزايد، عامًا يستبق الذي يليه في عجالةٍ غريبة لا سبيل لإبطائها أبدًا.

جلس بجلبابه على عتبة الباب الخشبي المطعَن بخربشة عقود سبقت مولده، أمام الحديقة المنزوية تمامًا عن حيز اهتمامه، يرقب عصفورًا يطير في علو غصن شجرة متوسطة الطول، كما لو كان يشكو من وهن في جنحيه، شرد مع تحليقه البطيء في دورات شبه متماثلة، وإن أرادا تغيير مسار رفرفته ما بين ارتفاع وانخفاض وعند كل انحناء يحاول تضييق محيط طيرانه أو توسيعه في سماءٍ لا حدود لها.

فجأة وجدها تقف أمامه، ملامح وجهها تتبدى له من ثنايا الظلمة المنسلة من بقايا الضياء، عيناها تنسجان الحنق والحب في نظرات تواجهه كنزيف يتدفق داخله، لا يصدر عنه همس كلمة، حقيقة أم خيال من أخيلة ترفقت به زمن الفقدان؟ وكثيرًا ما صدق أطيافها كما لو كانت أيقونة حياة لديه.

أغمض عينيه قويًا، عسى أن يفتحهما على يقين.

***

قصة قصيرة

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

21 ـ 5 ـ 2021

 

 

في نصوص اليوم