نصوص أدبية

أحمد القاسمي: جفاف في القرية

احمد القاسميغافل قرص الشمس الآيل إلى حمرة الغروب سكان قريتي، فانفلت وراء الجبل، لم يكترثوا له؛ كانوا ينظمون الشعر، وينقرون على الدفوف، ويضربون على أوتار العود والكمان، ويرقصون على ضوء القمر.

اشتدت عتمة المساء على عيونهم؛ التي كانت تتنبه إلى ما تتناوله أيديهم من أشياء بافتتان، فنظروا إلى ما تبقى من ضوء شحيح؛ كان ما يزال يحتل الأفق بانقباض وبحسرة؛كنت أنا أيضا أخاطب شمس الغسق في نفسي، والحنين يملأ قلبي:

«ليتك أيتها الشمس.. .يا شمس قريتي الغاربة تشرقين مرة أخرى؛ لأرتاد سبيلي إلى الحياة الذي غدا معتما برحيلك، وأنعم بأشعتك الربيعية؛ الساطعة على الأرض المتسربلة بخضرة المزارع، وبألوان أزهار التّرع الزاهية».

لكن شمس القرية كانت قد غربت تماما، وزحف الليل بظلمته الحالكة على البيوت الطينية، فعاد المزارعون والرعاة يجرجرون أقدامهم المهدودة بتعب النهار؛ يردد البعض منهم -هامسين إلى نفوسهم- ذيول الأحاديث اليومية.

نظرت من خلال كُوّة غرفتي إلى قمة الجبل، فطالت مشاهدتي له؛ بدا لي في حُلكة الليل كائنا ضخما، ومنتصبا؛ يريد أن ينقض عل القرويين وهم نيام؛ شبحا هائلا يتربص بالقرية يبغي بها شرا، ولا أحد يغدو أو يروح في الخارج؛ قد تلتقط أذناي حركته، غير الذئاب تُكسر السكون المطبق بعوائها الطويل، والضفادع ترسل نقيقا مُزعجا، وكنت قد سمعت منذ قليل، وبرهبة، صيحات آخر راع؛ في أوبته بقطيع الأغنام إلى الزريبة الـمُحوّطة بفروع النباتات الشائكة، ثم هدأت القرية بعد ذلك، وغرقت في صمت عميق.

كانت قبيلتي عرب الجزيرة العربية قد احتلت منطقة الدّير، أسفل الجبل، لانبساط سطحها النسبي ولخصوبة ترتبها، ولانتظام جريان مياه أنهارها المندفعة بقوة من الأعلى، فتجرف في مجراها كل شيء، وهي هابطة على السفوح، ثم تنساب بعد ذلك بهدوء رقراقة، عندما يضمها قدم الجبل، إلى أن نظراتي إلى رأس الجبل فيها حيطة وحذر.

أذكر كلام رعاة البقر؛ الذين يصعدون بقطعانهم إلى السفوح في فصل الصيف حيث العشب؛ قالوا بأن ماء الأنابيب الذي نشربه، ونتوضأ منه، ونغتسل به، ونغسّل موتانا، وملابسنا، ومواعين المطبخ، والذي يملأ موارد الماشية، ونسقي به بساتيننا، وتملأ منه نسوة الدواوير جرارهن ليحملنها فوق هاماتهن، وليمشين رشيقات في المسارب بين حقول السنابل، وليختلسن النظرات من عيونهن الواسعة إلى قوام رجل؛ يأتي من هناك، بعد أن يتجمع في خزان واسع، كان في الأصل آثار خزان روماني قديم، رممه تركي يسكن أعلى الجبل، قدم في يوم من الأيام من بلاد الأناضول، كان هناك هائما على وجهه في جبال طوروس، كما أعاد سكان القرية تلحيم أنابيب الرصاص التي خلفها الرومان مطمورة تحت الأتربة.

كنت أمر عندما أعود من الحقول في المساء؛ على فقيه كتاب القرية وإمام مسجدها، فيروي لي تاريخ قريتي؛ مما قال:

«تطاولت أيدي الأتراك على قريتنا العربية؛ جعلوها قنا يباع ويشترى ليقوم بالسُّخرة للأسياد، وفوق هذا خُدعنا، كنا بسذاجة ذلك العهد؛ نتشبث بأهداب آل عثمان؛ سحبوها بخوف من قبضتنا فأمسكنا الفراغ، وانكمشوا هم على أنفسهم إلى حدود وطن قوميتهم التركية؛ يُنشدون الخلاص من هجمة أمم الغرب الشرسة، كنا نحن ضحيتها، فاستعبدنا هؤلاء بدورهم لمآربهم».

أشحت بوجهي عن الجبل، وذاكرتي ما تزال تعج بالماء.. بخزان الماء.. بصاحبه..  بحارسه التركي، ونظرت إلى الغرب؛ حيث أشرقت شمس قريتي الغاربة على أرض امتلكها يهودي قسراً. كنت طفلا أجري على إثره في السوق مع أقراني؛ نصير على هامته كالعُقبان، نفترس بمخالبنا الفتية ثنايا طاقيته المستديرة الصغيرة؛ نختطفها فنعبث بها ونلهو كالجراء، ثم نعيدها إليه.. مبللة.. مشبعة بعرق أكفنا المذرورة بتراب البرية.

كنت أجوب الأسواق وقد صِرت شابا أسترزق، فأجده يخالط تجار القرية؛ يساومهم في الغِلل، ويُرابيهم في الأموال، ويترافع فيما عاهده المزارعون والكسابون العرب؛ من أرض وصوف، وماشية؛ في سنوات الجدب، ورائحة البهائم تفوح من جسده الضخم المترهل، والمدكوك باللحم والشحم؛ غانما نهاره؛ يعود في آخره يشزر بعينين ضيقتين مُستهزئتين في وجوه شاحبة؛ عليها مذلة النهار، ترزح كواهلهم تحت طائل من الديون؛ أقاسمهم هم الليل، لا يغمض لي جفن إلا في الهزيع المتأخر منه، ساهر أدونه على الورق؛ تداهمني إغفاءة، أصحو بعدها ليخايلني وجه التركي، ووجه اليهودي، يتطابقان في وجه واحد، يختفي هذا ليظهر الآخر في لقطتي فيلم متتابعتين؛ فلا أستبعد كونهما يحيكان المقالب والحيل للقرية، ثم أغفو؛ بين غفوة وغفوة تستنهضني صور مرعبة، وأحس بانتفاضة غريبة تستنفر كياني. أسمع بين الفينة والأخرى وقع خطوات، وحفيف الشجر، وصوت ارتطام صخور وحجارة تنهار، ثم تتبدد الأصوات.. أُطمئن نفسي.. ما أسمعه مجرد أوهام.

تُغيبني غفوة أخيرة أستسلم بعدها لنوم عميق، فأستيقظ على صوت أمي يدب إلى أذني في رنات تتردد في إلحاح؛ أرى بعين واحدة ابتسامتها الصباحية المهللة؛ تُضيء وجهها. تقول:

- تهتر كطفل صغير، تتهدد وتتوعد؛ أحلامك مُرعبة بلا شك.

في أحلامي عادة ما يثير هواجسي كحقيقة قريتي.

أتلمظ بلساني ولهاثي لعابي فأبلعه؛ أجتاز واديا فارغا بعطشي؛ نحتته مياه عواصف الجبال المتبخرة بحرارة شمس الصحراء اللافحة؛ أضرب بظمئي في بساط من الرمال الزاحفة؛ أسرح بعيني المتقرحتين برمال الأعاصير؛ بيدي ممدودة على جبهتي المحفورة بخطوط غائرة من اليأس، باحثا عن نخيل أخضر منتعش بماء، والصنبور النحاسي في جانب من دارنا؛ هرعت إليه؛ احتوته شفتاي اليابستان بجنون؛ فتحته.. انتظرت.. لم تنبجس منه ولو قطرة واحدة.. فارغا كان؛ يملأه الهواء.

نظرت حولي أبحث عن إناء فيه بقية ماء، ما لفت انتباهي قصعة بها طحين شعير؛ شعير مما يزرع في تُخوم القرية القاحلة.كانت أمي ستعجنه رغيفا للفطور؛ ماذا دهاها عن العجين؟

الماء.. لا يجري في الأنابيب..

سرت حثيثا نحو الباب الخارجي لبيتنا متعجلا؛ أموت عطشا؛ حملقت في صدري ووسطي؛ سارعت عيناي مكتشفة ذراعي، وساقي، وساعدي.. جسد غريب ليس مني.

مهزول.. استرجعت صورة مومياءات مصر، ليلة النظر إليها لم أنم؛ أجساد من جلد يابس كمثل الذي تغلف به إطارات الدفوف، ووجهي؛ طالما تفقدته المرآة في كل صباح، ما إذا كانت فيه بقية دماء تسري؛ شاحبا أجده غالبا، آية لما هو معيش في القرية، لمسته بأصابعي؛ أميت أنا أم حي؟ ليس به سوى عظام بارزة؛ جمجمة إنسان الحفريات؛ صورة لما هو مدموغ على علم قراصنة السفن؛ العلم الذي يرفعه اليهودي فوق بيته أبيض، يظل يرفرف برياح الغرب، به خطان مستقيمان، أزرقان في لون ماء نهرين، اتجاه الأول: شمال-جنوب، اتجاه الثاني: جنوب-شمال.. الفرات، والنيل.. بينهما بياض تذوب فيه قريتي.. الأرض الموعودة..  حلم اليهودي.. 

ماء فُرات.. تلمظت لعابي وبلعته في يأس، أنا في حاجة إلى شربة ماء تطفئ عطشي.. واحسرتاه؛ ما أتعس سكان قريتي، محاطين هم بويلات القرن الآتي!

ألفيت أمي تثرثر مع جاراتها. يتلفعن بمناديل داكنة اللون؛ استطالت أمامهن قامات الفتيان، والرجال، والشيوخ، ومُعرّضة مناكبهم، لم أر وجوها؛ أجساد لجمع غفير ضامرة.. متراصة، تسودها جلبة وبلبلة. سألت أمي:

- ماذا حدث؟

التفتت إلي بوجه غريب، هندسي مسطح، ذو بعدين فقط، لولا صوتها لشككت في أنها هي. قالت:

- التركي.. حارس خزان الماء.. أسقط الدفة الحديدية على فم الخزان فحبس علينا الماء هذا الصباح.

نطق وجه آخر، عرفت من خلال كلامه أنه مُقدَّم حومتنا: 

- رأيته بالأمس يمر من هنا في طريقه إلى عرصة اليهودي.

قال آخر بصوت متهدج، شيخ مسن:

- لعل اليهودي ألب التركي علينا.

قال آخر:

- اليهود قتلة الأنبياء.

..  إنه فقيه كتاب القرية وإمام مسجدها.

رأيت رجلا ذي هيئة كبيرة، يحمل فأسا، وحبلا يتدلى منه مخطاف، وسطلا حديدياً كبيراً مبلطاً بتربة (تَدُقَّة). إنه حفار الآبار. قال:

- لا عليكم، سأشرع من الآن بحفر بئر عميقة تغنينا عن ماء الخزان.

قال آخر، يضع نظارة طبية على عينيه، ويحمل جريدة مُكرشة الحواشي:

- قال علماء البيئة حتى الفرشات الباطنية مهددة بالإنقراض.

شعرت بقدمي تغوصان، فأحنيت عيني إلى الأسفل: طبقة من الغِرْين جافة..  صلبة.. تتكسر بثقلي، ورفعت مرة أخرى عيني: هياكل عظمية تنظر في اتجاهي بمحاجر غائرة.. تتحرك في نواح مختلفة. تتشابك فيما بينها. قطعان من الماعز، والغنم، والبقر تلوذ بجذع شجرة تعرت من أوراقها.. يابسة، لا تخلق ظلا، تفتق نتوءات عظمات الحوض جلودها. ناقة تنيخ بتثاقل ممل. كلب ينبطح على بطنه ممدِّداً رجليه الأماميتين في استخذاء.. لسانه طويل يتدلى.. لاهثاً يلعق التراب..

قحط ضرب القرية..

انبرى ضحك التركي من قمة الجبل، وضحك اليهودي من داخل بستانه..  ترددت قهقهاتهما مدوية على طول الأفق.. في الفجاج والأودية.. انفعلت.. ارتجفت أطرافي من الغضب.. زممت شفتي.. شحذت أسناني بعضها البعض، تخيلتها تنسحق، دب في عروقي حماس المبارزة، فلكمت وجه التركي الذي لاح لي في الفراغ، فارتدت إلي قبضة يدي خائرة.. كنت قد ضربت جذع شجرة مُسوّس. أما هو فرأيته يتمرغ على جنبيه في ضحك هستيري كطفل يضحك بخبث، ويستلقي على ظهره في انتشاء تحت أشعة الشمس الدافئة، يرفع عنقوداً من العنب، يدنيه من فمه، يقضم منه حباته في ارتخاء - يُغيظني- يعصره نبيذاً، يتناول الكأس، يقرعه بإبهامه، ثم يشرب.. ويشرب في نخب انتصاره.. تلمظت لعابي، وبلعته في يأس.

هبّ واقفاً على قدميه، يشد حزامه بكلتي يديه؛ أسفل بطنه المنتفخ في خيلاء. كان ما يزال يرسل ضحكة بعد ضحكة. بدا طويلا، ازداد طوله، ارتفع منكباه إلى أعلى. صار عملاقاً، رأيت رأسه المعفر بالتراب يخترق سحابة ثقيلة فأمطرت بَرَدا، وحصى، وضفادعا، وأمطاراً طينية. أحنى برأسه نحو القرية، تُزلزل ضحكته القوية حيطان بيوتها الهشة، ثم سحبه إلى أعلى الجبل. قال:

- لدي شرطان.. إذا أردتم أن تفيض حقولكم وبساتينكم بالماء، فتحيى الأرض بعد موتها، وتنفلق البذور بالعشب، ويمتلئ الضرع بالحليب.. و.. و.. الشرط الأول: أن تقتطعوا لحسابي أرضاً واسعة خصبة أفلح فيها. الشرط الثاني: أن تزوجوني فتاة جميلة؛ عربية قُحة؛ بعينين واسعتين كحيلتين.. من أجمل فتياتكم.

لم أسمع رداً من جانب أهل قريتي، فاستنكرت سكوتهم.. ناديت عليهم بصوت مرتفع، وناديت.. حتى تألمت حنجرتي.. تخدشت صار صوتي مختنقا.. مكتوما، لا يذهب أنأى من أذني، فعدلت عن المناداة بخيبة أمل مقيتة، ونظرت إلى التركي العملاق الذي بدأ يتقدم في اتجاه القرية، تميد الأرض بوطئه، مدججاً بالسكاكين، والبنادق، والقنابل اليدوية، والدروع، يريد أن ينسف القرية، ويفتك بأهلها.

تراجعت إلى الوراء، أريد أن أطلق ساقي للريح، إلا أن قدميه الهائلتين أدركتاني فهويت على الأرض.. قمت، وزحفت على يدي ورجلي، وأنا أخرز في بني جلدتي، أتجرع مرارة الخذلان.

أحسست بثقل هائل يضغط على جسدي بكامله، فأطلقت العنان لصياحي يتردد في الأجواء.. انتفضت. فتحت عيني.. وجدتني ملفوفاً في غطائي أستلقي على السرير، ورأسي يندس في ثنايا وسادتي الصوفية.. شممت عرق الليلة الماضية يفوح من مضجعي.. قلت باطمئنان: « كنت أحلم»، لكن.. . سُرعان ما عاودني رُعب الحلم بعد وقت قصير بحقيقة ما يحدث.

***

قصة

أحمد القاسمي

 

 

في نصوص اليوم