نصوص أدبية

آسيا رحاحلية: خلف العين الزجاجية

من عادة السيدة صونيا أن تنتبه لكل حركة في المحل، وعادة تهتم بي أكثر من اهتمامها بالأخريات رغم كوننا متساويات/ كما يبدو للعيان / في كل شيء: القامة والوزن واللون والصمت. ربما تهتم بي أكثر لأنني الأذكى أو لأنّ عيوني زجاجية زرقاء لامعة وشعري أشقر..بلون الشمس .الشعر الأشقر هوس نساء هذه المدينة المجنونة. على أطباء النفس أن يضيفوا لسلسة العقد النفسية " عقدة الشعر الأشقر عند النساء". منذ أيام ترجّتها إحداهن أن تبيعها شعري كي تتزيّن به في حفل زفاف. " اطلبي أيّ شيء إلا شعر هذه المانكان"..قالت لها السيدة صونيا .." لقد اشتريته من أكبر محل في دبي وبسعر رهيب .. إنّه شعر حقيقي ".

شعرتُ بالامتنان نحو السيدة، فلم يكن يحرجني أبدا أن أقف عارية في الواجهة أمام المارة ..العري هو الأصل وهو ليس عيبا أبدا، ولا مدعاة للخجل أو الشعور بالنقص، أما شعري؟ لا، لا أستطيع أن أتصوّرني صلعاء، ربما سأشعر بالبرد أو بالخوف.

صونيا اليوم مشغولة. تحضّر مع مجموعة من النسوة في المحل لأمر عظيم فلم تنتبه لزبونة ضخمة، مرت بقربي بعد أن اختارت فستانا ومشت نحو غرفة صغيرة في ركن المحل لكي تجرّبه. لكنها اصطدمت بي وأسقطت ذراعي أرضا، فوق ذيل فستاني الحريري الطويل.

حمدت الله أنها لم تصب بكسر وإلا كانت السيدة ستضعني في المخزن خلف المحل مع الرفيقات المشوهات إلى أن يتم ترميمي. ولن يتم.

كثيرات يقبعن هناك إلى اليوم معلّقات بين الوجود وبين العدم لكنني لست مثلهن.

لقد قررت الثورة.

ذكّرتني ذراعي المرمية عند قدمي بفينوس.. رمز الجمال.

هل يعقل ألا يكتمل الجمال إلا إذا نقص؟ الذين ينبهرون بجمال القمر ليلة اكتماله ألا يفكّرون في مراحل نقصانه؟

إنّ النقصان هو الذي يصل بالقمر إلى الاكتمال.

شوّش تفكيري مرور الزبونة ضخمة الجثة من جديد بجانبي، بعد أن انتهت من دسّ جسدها في الفستان. توقّفت وحدّقت بيّ ثم صرخت.

- ما بك؟

التفتت نحوها النسوة متسائلات.

- لا أدري. كلما مررت بجنب هذه المانكان اقشعّر بدني وشعرت وكأنّها حقيقية.

ضحكت السيدة صونيا:

- أنت تمزحين.

و قالت مادام أمينة، وهي تفتح زجاجة طلاء الأظافر لكي تعيد طلاء ظفر حدث به خدش:

- لابد أنك متأثرة بخبر أمس على الفيسبوك.

- أي خبر؟

- أب من المكسيك استخدم جثة ابنته التي توفيت في ليلة زفافها، كـموديل لعرض فساتين الزفاف في محله للملابس.

و قلّبت ضخمة الجثة شفتيها باستغراب وقالت:

- يا لطيف، لا يمكن أن يكون الخبر صحيحا .لكن لا أدري ..هذه المانكان فيها شيء غريب حقا.

- ما الغريب فيها؟ ليست سوى دمية !

و تنتابني رغبة في الضحك، وفي أن أهز السيدة صونيا من كتفها وأسألها من منا الدمية ..أنت الدمية في يد زوجك وفي يد أبنائك ومجتمعك وفي يد الموضة والمال وسوف تكونين قريبا دمية في يدي.

لقد قررت الثورة.

نظرت الجثة الضخمة في المرآة .و هطل عليها النفاق " تبدين رائعة ! ".." أصغر بعشر سنوات ! " .."انظري في المرآة ..إنها مقاسك تماما !"

طبعا الفستان لم يكن مقاسها أبدا، كانت تبدو مثل بقرة تمّ حشرها في جلد غزال.

تبادلتً مع المرآة غمزة ساخرة. يا لغباء المرأة ! تصدق المرايا! ألم يخطر ببالها أنّها كاذبة ومخادعة؟

تظهر لها ما ترغب في رؤيته لكي تكسب ودّها فتستعبدها؟ تماما كما يفعل معها الرجل.

لم أحب المرآة أبدا ..لست بحاجة إليها.أنا إذا حرة وقويّة.

البشر عبيد لما يحبون .

خرجت الزبونة وهي تكاد تطير من الزهو .بعد دقائق التحقت نادين بالشلّة. شابة في الثامنة والعشرين ..قصيرة القامة مع ميل إلى السمنة، لكن حيوية ومفعمة بالنشاط، تتحدث دائما بسرعة كأنّ أحدا يطاردها. كان بيدها كعادتها جريدة باللغة الفرنسية . لم أرها أبدا تفتحها لتقرأها ..سمعتها يوما تقول إنها تشتريها من أجل " البرستيج ".و رأيت الزبونات الحاضرات يبتسمن مؤيدات، رغم جهلهن بمعنى الكلمة.

و طلبت السيدة صونيا انتباه الحاضرات وقالت:

- ستبدأ الحملة غدا. علينا أن نقف جميعا مع الأستاذ عبد الرحمن. لابد أن يفوز برئاسة المجلس البلدي .

و أبدت النسوة تأييدهن لكن نادين قالت وهي ترفع شفتها العليا معربة عن تقزّزها.

_ نعم .. لكنه لا يعجبني .

- ولماذا يجب أن يعجبك يا عزيزتي هل ستتزوجينه؟ نحن نبحث عن مصلحتنا. تذكرين وعده لنا بمحل كبير في وسط المدينة.

و لم يكن محل السيدة الحالي صغيرا ولكنّه الجشع الذي يطلق عليه البشر اسم " الطموح " .

قبل أن يخرج الجميع، قالت نادين لصونيا:

-ساعديني كي أعيد لهذه المانكان الغبية ذراعها.

- لالا. ليس الآن. اتركيها. يجب أن نخرج فورا لتوزيع مناشير الحملة. سوف أهتم بها غدا.

كنت ابتسم بتشفّ وأنا أعلم أنها في الغد ستسقط مغشيا عليها عندما تجد ذراعي في مكانها ويدي مرفوعة بعلامة النصر.

***

آسيا رحاحلية - الجزائر

في نصوص اليوم