نصوص أدبية

فلاديمير ماكنين: كفيل الأخ

3292 Vladimir Makaninبقلم: فلاديمير ماكنين

ترجمة: صالح الرزوق


 هرب أخي مني في محطة قطار كورسكي. وكانت يومذاك محطة عادية، وليس مكانا حديثا من الإسمنت ملونا بالرخام كما هو الحال اليوم. وكانت تأوي حشودا من البشر في صالة واسعة دافئة مثل أي فضاء بشري حقيقي. كانت المقاعد في الوسط، والناس يجلسون عليها بأكتاف متلاصقة. وهناك ينامون ويتثاءبون ويأكلون - ولكن يضعون أياديهم على حقائبهم وعيونهم على الغجر. والغجر ذاتهم كانوا يتوجهون لمكان ما بالقطار، مثل البقية.

ومنافذ بيع التذاكر تجدها ممدودة على الطرفين. ولم نعرف لا أنا ولا أخي أي نافذة تبيع تذاكر بلدتنا، وهل يجب أن نلتف حول مقاعد النائمين من جهة اليمين أم اليسار. ووصلنا في نفس اللحظة لنفس النتيجة. قال أخي:”اذهب أنت بذلك الاتجاه وأنا أذهب بالاتجاه الآخر”.

قلت:”إن اتضح أن نافذتنا في ذلك الجانب، لا تنتظرني. قف بالطابور مباشرة. هل تفهم ما أقول؟”.قال أخي:”فهمتك. سأفعل”.

انفصلنا. وتبين أن نافذتنا بالاتجاه الذي اختاره، ولكنه اختفى. بلا أي إشارة. توارى فقط. وانتظرت لبعض الوقت، معتقدا أنه يشق طريقه بين الزحام. منذ عدة دقائق قدمت له خمسة وعشرين روبلا. وهي لقاء ثمن تذكرته وبعض الطعام، ما يكفي لرحلة أربع وعشرين ساعة. وبعد اختفائه حاولت أن أخمن كم يوما سيصمد بهذا المبلغ الزهيد. واستقر رأيي أنه مهما فعل - سيستمر ثلاثة أيام. حسنا، خمسة أيام. ثم سيعود إلى شقتي. فهو لا يملك خيارا آخر.

في البيت قالت زوجتي لي إنني أحمق. وأضافت:”ما كان يجب عليك أن تفارقه ولو لدقيقة. أخطأت لأنك وضعت في يديه ذلك المبلغ”.

ولزمت الصمت. 

قالت:”كان عليك أن تشتري له تذكرته بنفسك”.

اعتقدت أنه منذ أول يوم قد يفهم أنه مخطئ. وسيعود إلينا ليجد مكانا ينام فيه. ولكنه لم يظهر. في اليوم التالي ذهبت لمساكن الطلاب في الجامعة. وهو مكان امتحان القبول. وكانت تنقصه نقطتان. لكنه كان قد تعلق ببنت ظريفة نجحت بالامتحان. وكما قال لي اعتبرها ضربة حظ. فقد حصلت على الدرجات اللازمة. أكثر مما هي بحاجة له.  وكان اسمها فيكا. وقد طربت لاسمها مثل غيري. لكن على وجه الإجمال لم تكن مختلفة عن سواها.

قلت لها وأنا أدخل إلى غرفتها دون مقدمات:”أخبريني أين أجد أخي”.

“لا أعلم”.

“تقصدين أنك تعلمين ولا تريدين إخباري؟”.

“بل لا أعلم فقط”.

كان لون عينيها بلون السماء الزرقاء ولذلك رأيت أنها مخادعة جدا.

“إذا ليس لديك علم أنه هرب من مني في محطة كورسكي؟”.

نظرت في خزانتها. لم يكن أخي فيها. في إحدى المرات، بين امتحانين حينما توجب عليه الإقبال على ابتلاع دروسه بجنون، عثرت عليه في تلك الخزانة. كان هناك، واقفا فيها، مثل سهم مستقيم مع انحناءة بسيطة بالرأس.

“إذا تعلمين لكن لن تفشي سره؟”.

“قلت لك لا أعلم”.

لم يكن لدي شيء ضد فيكا نفسها، أو ضد عينيها الزرقاوين. بل هو شيء آخر. بسيط وعادي.

الأمر أنها نجحت وهو فشل. وبالتالي من الطبيعي أن يغادر هو موسكو ويعود إلى بلده. المكان الذي عاشت فيه الوالدة. والمكان المفترض أن يعيش هو فيه. كان عليه أن يغادر وأن يجد عملا هناك. أو أي شيء آخر. ولم يكن بوسعه التسكع كل السنة حتى موعد الامتحان التالي.

لكنه لم يغادر. ولا شك أنه موجود في مكان آخر في مساكن الطلبة. ويلهو بإبهامه ويعترف للآخرين بغرامه. كنت أنا كفيله في كل امتحانات القبول. كنت مربيه. وحينما أدرج اسمه للامتحان، عاش في مكان غير مجهز بما يكفي. والآن يجب أن أقوم بالخطوة التالية - أن أرسله إلى مسقط رأسه.

وفي هذه الفترة بشكل أساسي كان المتوقع أن أحل محل أمه وأبيه لأنه شقيقي الأصغر. كانت واجباتي أوسع مما ذكرت. يجب أن أكون أمه وأباه وضميره وعقله وكل ما يخطر بالذهن. الحارس والمربي.

كان عليه أن يدخل في هذه اللعبة. ويمكنه أن يرفضها. يمكن القول بمقدوره أن يقاوم قليلا. ولكنه وافق. وافق منذ أول يوم جاء به - شاهدت ذلك في عينيه. وقد غادر القطار وهو يشعر بالحماية والرعاية. وبنفس المكان ودون أي تردد أصبحت راعيه. ممتاز!. اثنان آخران ارتبطا معا ودخلا وسط زحام العالم.

وهكذا تمت الأمور. كان حراس الرصيف يزعقون. لقد جاء إلى موسكو ليؤدي الامتحان وأصبحنا وجها لوجه: منذ أن غادر القطار و وقف أمامي - أنا الأخ الذي يجب أن يلتقي به - ومع كل خطوة بسيطة بعد القطار، تتضح المهمة التي تورطت بها وهي رعايته. ولم يكن هذا باختياري. فالدور لا يناسبني.

والآن حان الوقت للنتيجة. الولد لم تقبله الجامعة: هذا رقم واحد!. وقد هرب مني: رقم اثنان!. وهو يتسكع في مدينة واسعة مع فيكا. وربما وحده. وأنا بنفسي وضعت بين يديه النقود ليتمكن من ذلك.

وشعرت من أعماقي بالفساد والسخافة. هذا ما تجنيه من القيام بمهمة أنت غير جاهز لها. هذا ما يحصل في النهاية. وبدأت أذرع الشقة بخطواتي وأبذل جهدي لأتذكر. كم عدد الناس الذين رعوني؟. العديد جاء اسمه في الذهن - الطيب والشرير. وبلغ إجمالي العدد أربعين، لو بدأت منذ أيام الحضانة.

وهكذا قررت أنه منذ الآن لن أكون مسؤولا عن شقيقي.

سألتني زوجتي:”ولن تذهب لتبحث عنه؟. بعد هذا التشرد بمفرده. إنها مدينة كبيرة. ويمكن أن يحصل فيها أي شيء”.

ترددت ثم قلت بحزم:”لن أبحث عنه”.

“وماذا ستفعل؟”.

“لا شيء. سأعد الأيام”.

في الواقع كنت أعد الأيام. وكنت مقتنعا تماما أنه لن يتمكن من البقاء بذلك المبلغ لما يزيد على خمسة أيام. خمسة أيام. وحتى لو أرسل والد فيكا لها بعض النقود. واضطربت أعصاب زوجتي. قالت لي:”كيف يمكنك أن تنام وتأكل وتتحرك؟. أنت تنام وأخوك ابن أمك وأبيك بمشكلة”.

أجبتها دون التورط بمشاحنة:”كيف تكونت عند فكرة أنه وقع بمشكلة؟”.

“هل تعتقد فعلا أنه بخير؟”.

“ربما. لعلع بخير. في النهاية هذا شهر عسله”.

“فظيع”.

لم أتحرك. لكنها فاقمت قلقها. من ناحيتي أقسمت أن لا أكون حارسه الشخصي. والآن أقسمت أن أنام وأتناول طعامي وأعيش. ومهما حصل لن أرن جرس الخطر.

وجاءت ابنة عمي وزوجها. قاما بزيارة مفاجئة. وهما عائلة مسنين وعليه أتوقع أنهما يتحليان بالحكمة. وطبعا أفشت الزوجة بالسر. وطبعا أنفقنا الأمسية كلها نتكلم فقط حول الشقيق المفقود. وانقسم رأي القريبين. قالت ابنة عمي أنه علي أن أبحث وأفتش عنه وعلى الأقل، أن أسترق نظرة ثانية من خزانة فيكا. حسنا إن لم يكن في الخزانة، ربما هو تحت السرير. وأنا أعلم أن ابنة عمي امرأة طيبة.

لكن ابتسم زوجها بضحكة عريضة وواسعة. وقال بالطريقة التي يتكلم بها أبطال أفلام المغامرات:”ما الهدف من مطاردته؟. دع الولد يحيا حياة الحرية”. ثم أضاف:”انظر. عليك أن تعيش. جاء إلى موسكو ودخل في عين العاصفة. لو أنه قوي لن تدمر الرياح حياته”.

وألح أن الشباب ينتمون لجيل الشباب. وكان هو يقترب من الخمسين. وليتجنب مشكلة الخدمة على الجبهة في حرب 42، حصل له أقاربه على تأجيل. وتدبروا أمر إرساله إلى مصنع بغاية تأجيله. الأقارب هم أقارب. بنظرهم، حتى وهو في سن العشرين، يبدو صبيا صغيرا. ومسبقا تصوروا الغضار الرطب الذي سيتكوم فوق قبره المحفور حديثا. فوق رأس الجندي اليانع والمحصود. ولكن ها هو - إنه على قيد الحياة. قرابة الخمسين عاما ويعمل بصفة كاتب أطفال. وهو كاتب جيد. ولا يوجد لغز في ذلك. إنها حقيقة. وبسيطة جدا.

وبما أنه يفهم سيكلوجيا الأطفال واليافعين جيدا، نصحني بقوله:”دعه يجرب. دعه يحصل على وقت طيب. دعه يتذوق طعم الحرية. شباب... مثل نبيذ جديد”.

قال:”علاوة على ذلك لا يجب علي القيام بأي شيء يقود للتدخل بشؤونه. وسأكتفي بالمتابعة العاطفية، وأحاول النظر للأمور من وجهة نظره، وأفكر به وبما قد يحدث له، ثم فورا وبلا أي شرط أمد يدي له للمعونة. وهذا أقرب للحقيقة. والطعم المر الذي في فمي أوحى لي بهذه الأفكار. عموما كنت أريد أن أكون راعيا مستترا له دون أن يراه أحد.

ثم غادر كلاهما، ابنة عمي وزوجها الكاتب. وفي وقت متأخر من تلك الليلة اتصلت ابنة عمي. وسألتني هامسة :” هل تعتقد أنه مقتر؟”.

“ماذا تقصدين بكلمة مقتر؟”.

“أنت تعلم أنه في الثامنة عشرة من عمره فقط”.

أوضحت لها كيف يمكن لخمسة وعشرين روبلا أن تختفي يبومين. وبعد ذلك؟. سيحين موعده مع الجوع. يوم جوع واحد. يومان من الجوع. في اليوم الثالث، أو على الأكثر في خامس يوم، سيرن جرس بابي.

قالت ابنة عمي:”آه. لم يكن لدي علم بذلك”.

وبدأت بالبكاء. كانت الدموع حيلتها الوحيدة. وزوجها، الخبير بسيكولوجيا الأطفال، لم يفكر بالموضوع مرة ثانية، لكنها لم تتوقف عن القلق.

وظهر شقيقي في اليوم الرابع عشر. كانت فترة طويلة، طويلة لدرجة بطولية. وكان لا يستطيع الوقوف على قدميه.

قلت له:”اجلس”.

أخذ نظرة من حوله.

“اجلس”.

كانت زوجتي غارقة بالنوم. قدمت له بعض الخبز والنقانق. ولفة من الجبنة كانت في الثلاجة. لا أتذكر أحدا التهم الطعام بسرعة فائقة مثله. وحينما كان يأكل، لزم كلانا الصمت. ثم بقي في مكانه ورأسه منكس.

قلت له:”هل تريد أن تنام؟”.

قال:”إيه”. ولم يخطر في ذهنه أن يخبرني عما جرى له في الأسبوعين الاثنين.

قدته إلى سريره. وبينما كنت أغطيه، سألته:”حسنا، هل ستعود في النهاية للبيت؟”.

“سأعود”.

“وأين حقيبتك؟”.

“في الأمانات”.

“هل كانت هناك كل الوقت؟”.

“نعم”.

“ولم تفقد إيصال التسجيل؟”.

“لا. ماذا تحسبني؟”.

وحاولت أن أبدأ بحوار معه. وباشرت بهذه الطريقة:”حسنا... يمكنك أن تنتظر لفترة أطول معي. لا ضرورة للعجلة. موسكو بلد ممتع”.

لكنه لم يرد. ولم ينتبه للمفارقة - كان قد نام. وأخبرت زوجتي بذلك. حسنا. قلت لها كل شيء انتهى. هذه الخاتمة. لقد عاد.

قالت:”هل هو من كان في المطبخ؟. آه. يا الله. تساءلت ما كل تلك الضجة”.

“كانت شهيته مفتوحة”.

“أنت من سبب له ذلك. أخوك يقضم الطعام مثل ذئب. ألا تشعر بالخجل؟”.

لم تسامحني حتى الآن لأنني لم أسرع بالبحث عنه، ولأنني لم أطلب النجدة، ولم أقلق كثيرا.

أتذكر فصل صيف بشكل جيد. صيف كان فيه أخي صغيرا جدا وكنت أنا تلميذا. وكنت أعود للبيت في العطلة، وكان هو في مخيم تطوعي، واعتدت أن أزوره. ولدى وصولي شاهدت لعبة بنغ - بونغ تجري أمامي. كانت بنت صغيرة تلعب ضد صبي، وحشد من الناس يقف حولهما. وكل شخص كان منحازا لواحد من الاثنين، ويشجعه بصخب. وأحيانا في لحظات الهدوء حينما يلتقط الجمهور أنفاسه، كان صوت الكرة الصغيرة البلاستيكية يطرق مع صدى. بونغ. بونغ. بونغ. بونغ. نقرت على أكتاف بعض الأولاد وسألت عن مكان أخي. ونظر لي الجميع كأنني أحمق. كيف يمكن لأحد أن يسأل مثل هذا السؤال؟. واشتد زعيق المشاهدين. في تلك اللحظات يمكن أن تسأل عن النقاط ومن الرابح. ولكن طباخة مسنة أخبرتني بمكان تواجد أخي. وكانت تحمل بعض العظام لكلاب في الخارج.

قالت:”ذهب إلى الغابة. بذلك الاتجاه”.

ووجدته على أطراف الغابة، حيث تنتهي الأشجار وتبدأ المروج.

كانت الأعشاب في الحقل تبلغ الركبة. وشاهدني أخي من مسافة كافية وجمد بمكانه. كان الوقت عند الغروب وكانت الأعشاب مخططة بأشعة الشمس. وقف شقيقي بكسل، واحدة من ركبتيه منحنية قليلا، وبقميص أبيض وربطة عنق حمراء ولها دبوس معدني - كما لو أنه جمد في لحظة من لحظات صباه. وتقدمت عبر المروج نحوه، وابتسمت له عن بعد - ابتسامة أخ لأخيه. من يمكن أن يتصور أنه سيكون بغضون سنوات مثل صنوبرة نامية؟. وأنني سأجده في إحدى المناسبات مختبئا في خزانة داخل غرفة سكن الطالبات. وتابعت المشي وأنا أطرف بعيني أمام الشمس، وسألته ماذا يفعل هناك، في المروج. أجاب:”أطارد الدبابير”.

لو أنه لم يهرب مني وهو في الثامنة عشرة في محطة كورسكي، وتحول إلى عبقري، لنقل، على غرار غاليلو، لن أنسى تلك اللحظة ما حييت وهو يفكر بالدبابير. ولكنت أخبرت الجميع بها، فهي لحظة تنبؤ بعبقري. فقد كان منذ طفولته يبحث عن طريقه. وكانت له وجهة نظر بشؤونه. وكان يحتفظ بمسافة لنفسه عن الزحام. وهكذا وهكذا. وفي اللحظة التي غادرت بها المأوى لم يغادر أخي، طبعا، الخزانة - فهو لم يكن هناك، وهو ما تأكدت منه. لكن أفترض... أنه زحف من تحت السرير، ومسح عرقه من وجهه وذهب إلى فيكا.

ابتسمت وقالت:”هل أنت حي؟”.

“إيه”.

ووقفا جنبا إلى جنب ونظرا من النافذة. وتحت، كنت أشق طريقي ببطء عبر الساحة، بخطوات أحمق رسميا. وتوجهت إلى حافلتي أمام عيونهما. وتخيلت ما حصل عدة مرات. تخيلت كيف قبلها (وكنت مبتهجا مثل أحمق)، ثم هي قبلته. وهو قبلها. إلخ، إلخ. ثم تذكرت النقود وتوقف المشهد نوعا ما. أولا أخي أراد شراء بعض النبيذ قبل أن يغلق المتجر أبوابه، وبعد ذلك تبدأ البقية.

قال له: “سأسرع بشرائه”.

وقالت:”ولكن من أين النقود؟ دع هذا الهراء عنك”.

“سأتدبر أمري”.

“ربما لسنا بحاجة له”.

“أنا بحاجة له. وسأسرع”.

ثم أسرع، وأنفق آخر روبل معه، وسريعا أصبحا في السرير معا. وأخبرها كيف هرب مني في محطة كورسكي.

ثم أخبرها عن الغجر وكيف كان الناس يتابعونهم بزوايا عيونهم. وكيف استدار للجهة الأخرى، لأنني وأنا أراقبه، شردت بسبب الغجر، وبسبب كل الآخرين الذين ينظرون لحقائبهم بعين واحدة ولحركات الغجر بالعين الثانية. ثم هرب وأصبح رجلا حرا في موسكو. وختم كلامه أنه لم يضل طريقه.

لو فكرت بحرص في الموقف لن تسأل فيكا:”ألم  تشعر بالخوف؟”.

فيرد ضاحكا:”مم؟. لو حدث أي شيء، لي أخ هنا. وهو المربي والراعي”.

ربما أخبرها بمقدار رعايتي السرية والمخلصة له. ودون إكراه وبهدوء. ومع أنه هرب لم أحرجه، وإنما زرته لمرة واحدة، للاستفسار عنه.

ولم أفتش في المكان وأصنع زوبعة من لا شيء، ولم أسد الباب، ولم أسترق النظر من النوافذ. وبهذه الطريقة يشعر أنه بوضع آمن وهو ليس وحده وأنني بالجوار لنجدته. ولست بعيدا عنه، هنا في المدينة. فأنا أخوه. ولم يزعجني غير مشكلة النقود. وكان أمامي احتمالان. أن أخي وفيكا يعيشان بميزانية واحدة صغيرة، مع التأكد قدر الإمكان أنها ستكفي لفترة طويلة. وأن الوضع سيكون محتملا. ومقنعا. على أساس أنهما رجل وامرأة.... ولكن هذا سيضعهما في الدائرة الخضراء، فالنقود بالنسبة لهما مشكلة رومنسية. وفي الواقع هذا ليس مشكلة بنظرهما وسيعيش كل منهما على نفقته الخاصة. وسترتجف ركبتا وأطراف أخي من ندرة الطعام. وسيحاول أن يعيش مع فيكا قدر ما يمكنه.

وحينما جاء إلى البيت في اليوم الرابع عشر، كنت أتوقع كل ما سيقوله مسبقا. كيف جرت الأمور فعلا. وكيف كان يفكر بي، باعتبار أنني كفيله. ولكنه لم يبدأ بالكلام، ولم ينطق بكلمة واحدة. ولا اخترع أية قصة.

وفي الصباح رافقت أخي إلى محطة القطار. واشتريت له تذكرة. وحينها دفعت خمسة وعشرين روبلا للمرة الثانية، قدمتها له، واستلمها مني. لم يبتسم، ولم يتفوه بملاحظة عن تكرار المحاولة. وأراد أن ينام، وهذا كل شيء.

ولم يكن من المقرر لقطاره أن يغادر قبل أربع ساعات.  لم تكن هناك حكمة من الرجوع للشقة للانتظار لمدة ساعة. وكان علينا أن نتجول في مكان ما في الفضاء الطلق لأربع ساعات.

“هل تفضل مشاهدة فيلم؟”.

“لا”.

“ماذا بعد ذلك؟”.

“الأفضل أن نحصل على شيء في الكافتيريا”.

وفضل الطعام مجددا. وكنا قد تناولنا إفطارا شهيا منذ قليل.

تناول طعامه في الكافتيريا. وفكر بالنوم.

“يبدو أنني شبعان”.

ثم جلسنا قليلا على مقعد في الحديقة أمام المبنى. كانت هذه هي الساحة الصغيرة المفضلة للاستجمام في موسكو. وفيها أربع مقاعد عامة، وفي الوسط ما يشبه كوبا إسمنتيا. وفي داخله شيء يذكرك بالنافورة. ولكنها لا تعمل طبعا.

واستمر أخي بالتثاؤب. وسألته بعض الأسئلة. وكنت ألح على اكتشاف شيء، فكررت الأسئلة، ولكن كأنني غير مهتم حقا.

“كيف كان الحال وأنت معها؟”.

“ماذا قلت؟”.

“أعني أنت وفيكا؟”.

“إيه...”.

“ماذا قررت؟”.

“لا شيء يستحق الذكر..”.

وأومأت طبعا. نعم. أفهمك. نعم. ممتاز.

لو كنت كفيلا غبيا ومهملا، مثل آلاف البشر، سيقول، سواء أحب أم لم يحب، إن الحال مع فيكا كما يلي... لقد أتمت مدرستها المهنية وهي الآن في الجامعة. وأبواها من نوع كذا وكذا. واتفقا على تبادل كتابة الرسائل نوعا ما. أو لنقل على اللقاء في العطلة.. ولكن لم أكن أريد أن أكون واحدا من أولئك الألوف. ولم أصل معه لشيء محدد. صفر معلومات.

كانت الشمس تجلدنا. والساحة الصغيرة أصبحت حارة. وفجأة رغبت بغفوة أيضا. وأغلقت عيني قليلا. وحينما استيقظت لم أجد أخي بجواري. ولكن شاهدته بالجوار. وكانت ثلاث بنات على مقعد مقابل أمامنا، والثلاثة تأكلن المثلجات وتضحكن. وترتدين بذات بائعات في مخزن كبير في المحلة. وكان شقيقي يخبرهن بشيء وكن يضحكن. ولم يظهر بقايا التعب عليه. وخفق شيء في داخلي: ماذا لو هرب مع واحدة منهن؟. كانت فكرة عبثية ولكن بالتأكيد كافية لتدحر النوم من عيوني. وقفت البنات آنذاك - وغادرن بسبب نهاية استراحة الغداء. وغادر معهن أخي. ولم أحرص على مناداته. وضبطت نفسي وتابعت الجلوس بمكاني، وعيناي مغلقتان مثل نائم. وخلال ابتعادهن عن الساحة والمقاعد أحاط شقيقي اثنتين بذراعيه. وضحكتا مجددا. وعند مخرج ساحة الاستجمام، انتصب عمود قصير، وربما هو من بقايا بوابة آلية، وكان أخي لا يزال ملازما للبنتين، ولم يعرف أي طريق عليه أن يسلك، هل يلتف لليمين أم لليسار؟. وفي النهاية صدم العمود. وتوقف الثلاثة معا. وبدأ لغط المارة وهم أساسا كبار يدفعون عربات الأطفال. لم يعد من الممكن المتابعة لمقاعد الحديقة. وارتفعت ضحكات أخي والبنتين.

لدى عودته سألني:”هل غفوت قليلا؟”. 

“نعم، قيلولة”.

“لا يزال أمام القطار ساعة. لكن كسبت عنوان البنتين”.

“نعم”.

“هل ستكتب لهما؟”.

“ليس بالتأكيد. ربما أفعل”.

وضحك كما لو أنه يضحك سرا. وقال:”واحدة منهن ليست جميلة جدا. وسط. ولكن حصلت على عنوانها أيضا”.

ولزمنا الصمت. لاحقا وضع ذراعه حول كتفي وقال إنه بقيت ساعة لانطلاق القطار. وحان الوقت للوداع.

قلت له:”لا زلت صبيا. عمرك ثماني عشرة سنة. لماذا لم تكن حريصا؟ في الأيام الماضية”.

“وماذا يستدعي الحرص؟”.

“الكثير. هذه أول مرة لك في موسكو، أنت وحيد في مدينة كبيرة”.

ثم ردد كلاما من هذا النوع. في هذه المدينة الكبيرة كان لديه كفيل يرعاه. شخص لم يتطفل عليه، ولم يفرض نفسه أو يخبره ماذا يفعل، ولكنه حافظ على دوره في الرعاية.

قلت:”حسنا يا رجل. هذا يكفي”.

قال باندفاعة عاطفية:”صدقا، صدقا، هكذا جرت الأمور”.

وغمرني الحماس. وشعرت كأنني أحمر من الخجل. وسريعا بدلت الموضوع. بعد خمس سنوات فقط، في حوار مختلف جدا معه، كان - مباشرا وبسيطا - واعترف أنه في ذلك اليوم في موسكو كان في رأسه فيكا ذات العينين الزرقاوين وليس أنا.

ولكن في الدقيقة التي جلست بها قرب أخي بصفة شخص أنجز واجبه. بصفة أخ أكبر. بصفة كفيل، بأنقى وأخلص معنى بشري للكلمة. لم يبق غير خمس وأربعين دقيقة لانطلاق القطار. جلست هناك مرتاحا وسعيدا.

***

................................

- ترجمة لقصة Strazh. ترجمها من الروسية بايرون ليندسي 2008.

- فلاديمير ماكنين Vladimir Makanin كاتب روسي معاصر. مولود في الأورال عام 1937. عمل بصفة خبير رياضيات ولاحقا عمل بالإخراج السينمائي. اشتهر في سنوات ذوبان الجليد. وارتبط اسمه بروايته “المتنبئ” 1982. من أهم أعماله المترجمة إلى الإنكليزية: باب الهروب والطريق الطويل أمامنا، الخسارة، وطاولة بغطاء أخضر مع قارورة كحول 1993. وبها حاز على البوكر الروسية.

 

في نصوص اليوم