نصوص أدبية

جمال العتّابي: الإختباء في المدينة

جمال العتابيصورة سجين هارب (3)

الصمت المطبق على المكان وخلو الشوارع يبعث في رأس محمد الخلف أسئلة تترى، تقطر أسى وحزناً ومرارات، إستسلم للنوم، مدّ رجليه بأصابعها المتقوسة، المتورمتين بسبب المشي، كي تلتقي أطراف غطائه، لئلا يتسرب شييء من برد آخر الليل إلى مهجعه، كان داخل إزار صوفي ملون، بعد أن لفّ رأسه بشماغ، وشخيره ملء المكان يعلو وينخفض، أخذ يتململ، وظلمة آخر الليل تتراجع أمام نور شاحب منبعث من مصباح يتدلى وسط الدار.

ماالذي يجري؟ ثمة رجلان في زي أسود يقفان بطولهما إلى جانبي، يصوبان مسدسيهما بإتجاه الرأس، (إنهض):

- أنا؟

- نعم، أنت، إنهض بسرعة!

نهضت، كان الشخصان يمسكان بي بقوة، أحدهم أحكم قبضته على رقبتي، أشعر بالإختناق، وأنا أحاول الصراخ، والإفلات منهما، أرهف السمع لأصوات متقطعة، وصوت سحب أقسام بنادق يتناهى من بعيد، صحوت على تهدجات نبرات صوت تينة، كانت تراقبني وهي لم تنقطع عن البكاء. إعتذرت لها متأسفاً، وأنا أنصت لحشرجاتها.

لم يعد للكلام معنى، المصيبة أنني أعرف ان تقريع الضمير وإيلام النفس، لا جدوى منهما، أحلم بالسكون، أشكلت على عقلي منذ أن كفّت الريح عن نشاطها، وتوقف المطر، لقد بدأت أتلمس بأصابعي المرتعشة برد أرض الغرفة، كان بارداً كالثلج، أتلمس الفراش بيد مرتجفة، لا شك أنني كنت قبل قليل أهذي، أو أن أطلق صوتاً نشازاً في هواء الغرفة، ما الذي حصل؟ أين أنا؟ حدّقت في المجهول، لم أر سوى خيط من شعاع راسب في نافذة الشباك، ثقوب رصاص من الطرف الأعلى من الزجاج، الفجر حطّ على النافذة، وفي الواجهة الأمامية إلتمعت سعفات نخلة وحيدة في باحة الدار.

كان الباب موارباً حين دخل زعيبل  مع أول خيط للنور، وقف محيياً، ينظر إلى وجهي المنمّش بآثار جدري نجوت منه في طفولتي، جلس قبالتي يتضرع، ثم يسّمي بالرحمن كلما سمع صوتاً على مقربة من الباب، أو صوت مجهول، أو صدى صوت لصائح غريب.

- عليك يا محمد أن تهيأ نفسك لحين عودتي من العطرانية ومعي أبو عباس نوار الناهض، سترافقه الى داره، وثقتي بالرجل  تدعوني للإطمئنان بسلامة الوصول، ما عليك إلا تحمّل مشاق المشي في جو بارد ورطب، الإنتقال إلى مكان آخر بات أمراً محتماً يا أخي، ليلة البارحة كنت في مقهى السوق أتابع مشهد مجزرة الإذاعة، إذ عرض التلفزيون جثة الزعيم، وبصق أحد الجنود في وجهه المدمى، البيانات تتوالى، والصراخ يتعالى، والعطش للدماء لن يتوقف، وبدأوا بإعتقال (ربعك) في (الولاية)، عدد من الحراس سيطروا عليها، وأحكموا مداخلها ومخارجها.

المدينة(قلعة سكر)، يخيم عليها  الخوف والسكون، لم يكن غير الليل يخطو على الأرصفة، ويقطع الشوارع الصامتة، وليس غير قعقعة السلاح، والمصابيح الكامدة التي تهمي ضوءاً شاحباً من أعمدة لم تعد تنتصب عمودياً.

شدً زعيبل على وسطه المبروم بقوة، كما يفعل بطل في رفع الأثقال، وأحكم حزامه، ثم أرتدى ما يقيه من المطر والبرد، وأمسك بعصاه، أراد أن يقول شيئاً لمحمد الخلف، بَيدَ أنه سرعان ما أحجم عن ذلك، وإكتفى بسلام التوديع، وبعد ان طفق الباب وأغلق رتاجه، كان زعيبل وسط الشارع، حينها كانت تينة، تصبّر نفسها، يأكلها القلق وتستبد بها الحيرة، تقف بهيكلها الملفّع بالسواد، بطولها تقف مثل حارس أمام باب كنز، تسبّح بالله، تتمتم بكلمات مبهمة منذ أن غادر والدها المنزل نحو القرية.

تأتيه رائحة الدخان المتعالي من أطراف المدينة، رائحة نفط أسود مشتعل لشوي الطين في كور بدائية لصنع الفخار، توارثها العراقيون من أجدادهم السومريين، تتصاعد معها زفرات الضجر مع تقدم ساعات النهار.

عدت ألعن سلطة الوهم، بلحظات خاطفة أسمع نقراً بالأصابع على الباب، من يكون الطارق هذه المرّة، كنت أخطو بحذر نحو عمق الدار، أدلفُ نحو عتمة الداخل بعينين غائمتين، الدقائق تمر بطيئة، بينما إنسحب الخوف، وتبددت الخشية حين توقف النقر على الباب، من المؤكد انني سأغادر المكان، انهما فقط يوم واحد أو يومان، ويصل نوار الناهض، سأرافقه الى العطرانية، ترى كيف سيكون المكان الآخر؟ ما شكله، بل ما شكل الزمان فيه؟ الأهم من ذلك كله، من يضمن خلو طينه من الأصوات من؟؟ وبنظري هو إنتقال من كابوس إلى واحة!! نعم أنا أدرك أن مداً هادراً سيكتسح البلاد طولاً وعرضاً، وستغدو الأيام المقبلة صعبة جداً.

لاشيء يصلك بالعالم، لا أثر لأية وسيلة إتصال في المنزل، حتى الراديو، أنيسي وسلوتي في زنزانتي لم يعد له وجود يشاغلني وينسيني، لقد إستبدّت بي الوحدة أن أتنبأ  بما يخبأه السكون من أسرار، أو ما يبثّه من أصوات، في حين يأتي بعض الوقت لا أستطيع فيه أن أسمع أصوات باعة النفط خلال النهار، أو صوت مؤذن الجامع الوحيد في المدينة، لكن كنت أستطيع تمييز أصوات الليل، أو الأصوات الخفية التي لا تدرك الا بالحدس، ان كثافة السكون في لحظات معينة تزيد من مخاوفي، بل تدعني أحياناً أفقد صلتي بما هو مرئي، أربكني قرع جديد على الباب، بإلحاح وبإستمرار، فتحت تينة الباب بهدوء، وهي ترد التحية:

اهلاً ابو علي تفضل، أخوك غير موجود.

أعرف، لكن جئت لأمر مهم، بودي أن يعرفه أخي، وهو سر أرجو ان تحفظيه بأمانة، لا تدعي أحداً أن يعرف به سواه. أويتسرب للغير.

ما هو يا جبر؟ ياابن العم؟

إسمعي: ليلة البارحة زارني ناصر، الجار القريب من داري، ذكر لي انه سمع  محمد الخلف بوسع أذنيه، وهو يسلّم على أهله من راديو الأهواز.

- الله يبشرك بالخير أبو علي على هذا الخبر.

كان محمد الخلف يستمع للحوار، واضعاً رأسه  بين كفيه المبسوطتين، ولم يظهر أيما حركة، مزموم الفم، يهز برأسه،  يصغي  بل يحترق ويتعذب، كان يتمنى  في تلك اللحظة ان يواجه جبر المسكين، ليروي له كيف جاء به الجن الآن، ونقله من الأهواز حال سماعه البشرى التى أزفّها جبر. ثم بعد هدأة هيمنت على المكان، غادر جبر المنزل، تاركاً وراءه رماد سجائر، وطاسة لبن أفرغ نصفها في جوفه.

مضى جبر إلى سبيله، أما محمد فكان يحصي دقائق لهاثه، هدأت نفسه بعد إنسحاب الرجل، وماهي إلا لحظات مرّت حتى دخل نوار الناهض برفقة زعيبل.

ظل نوار يرمقني بتحديقة طويلة، بعد هنيهة صمت لمحت عينيه تتحركان، ورأسه ثابت، على إستقامة بإتجاهي، لم يأتِ بحركة تمنيتها في مخيلتي، بل انني رأيته يدنو من هيكلي الضامر أكثر، ثم يمسك بي بسرعة يقبّلني في كتفي، ووجهي متوسلاً:-

لا وقت أمامنا، حاول أن تجهز نفسك بسرعة لنغادر المكان حالاً، فالحرس المدجج بالسلاح، بدؤا يفتشون بيوت المدينة، ربما هم يبحثون عن الفارين، أو المختبئين، يدققون بأوراق وأسماء يتفحصونها بين الحين والآخر.

- لاشي عندي يستحق وقتاً أطول في المكوث، سوى هذا الكيس الورقي الذي أكملت رزمه منذ الصباح.

تغيّر لون وجه زعيبل في لحظة صمت، وتلوّنت عيناه،  بينما كانت تينة تمسح دمعة سالت وقت الوداع،

- مودع بالله خويه، قالها زعيبل هذه المرة بصوت واهن مشروخ، على حين إنشغلت أصابع نوار بفتح الباب، لتبدأ الرحلة نحو بيته في عمق الريف، بعد أن أوشكت الشمس أن تختفي، والأفق خلف بيوت الطين البعيدة أحمر، مشوباً بلون رمادي.

 

  جمال العتّابي

  

في نصوص اليوم