نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: تحت سماء ميونخ "مينشن"

ذكرى لعيبيقررتُ أن ألتقي به، هكذا دون الالتفات إلى أي عراقيل أو مطبات قد تواجهني..

لم أعد أكتفي بالمحادثات عبر برامج التواصل الاجتماعي التي اجتاحت العالم برمته، لم أعد أقتنع بالأعذار التي يقدّمها لي كلما انقطع الاتصال، وربما يكون السبب الأهم هو اشتياقي لأن ألتقيه على أرض الواقع، لأتحقق أنه إنسان يشبهنا من لحم ودم، رجل حقيقي.. أشمّ عطره.. ألمس كفيه.. أنظر بعينيه..

أريد أن أراه من زاويتي التي لا ينظر أحد منها للبشر والأشياء سواي.

أريد أن أسمع أنفاسه وهو يقول لي:

- كالنبيذ المعتّق أنتِ.

لأضحك عاليًا بكل زهو وأردّد ذات الجملة التي تغيظه:

- العاشقون أحيانًا جبناء.

نعم جبناء عندما يقمعون الحب ويخنقونه أو يبترون العلاقة لأسباب حمقاء.

تذكرتُ أحدهم عندما طلبتْ منه أمه أن يتركني ونحن في أوج علاقتنا، وجَعَلتهُ يقسم بـ " العباس أبو فاضل" ألّا يرتبط بي، ونفّذ ما طلبتْ، ثم جاء بعد فترة يطلب زواجا مؤقتا!

نعم زواج مؤقت.. وعندما اشتطت غيظا قلت له: ولماذا لا يكون زواجا شرعيا معلنا؟

قال: لأني أقسمت لوالدتي ألاّ أتزوجك، ولا أريد أن أكسر اليمين..!!

العاشقون بعضهم جبناء أحيانًا.

ما مضى لا يهمّ، لم يعد في حساباتي، أو بالأصح لم أعد أفكر فيه كثيرا، أنا الآن أمام تجربة ناضجة، وفارس كنت أتمنى أن يخرج من إطار لوحة الأحلام ليأتيني بقلبه الأبيض، ويحملني على صهوة جواده الأشيم.

لهذا قررتُ أن أترك المدينة التي أسكن فيها والتي تبعد مئات الكيلومترات عن مدينة "ميونخ" وأتجه إليه.

لم تكن الرحلة صعبة، هنا في هذه البلاد الأوروبية تكثر الباصات وشبكات خطوط سكك الحديد لأفخم القطارات وشبكات المترو وأجملها، وجميع هذه الوسائل مريحة وتتيح للمسافر مشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة من أشجار وأزهار وجبال ومساحات شاسعة من الحقول الخضراء وقُرى جميلة؛ وبعضها يمرّ فوق جسور وبعضها الآخر داخل أنفاق.

راودتني خواطر عدّة، سيناريوهات مختلفة، أمنيات كثيرة.. جميعها تصبّ في أني سألقاه.. وهذا هو المهم.

هاتفته وأخبرته بقدومي:

  - أين؟

  - إلى ميونخ

  - تمزحين!

  - أقسم لك، انتظرني الساعة التاسعة مساءً عند " البانهوف".

نزلتُ من القطار، سرتُ خطوات قليلة وأنا أحدّق في الوجوه، لمحتُ فارسي.. كما هو في خيالي.. وكما هو في صوره التي تملأ ذاكرة الهاتف وذاكرتي أيضا.

أسمر حنطي بلون القمح، طول مهيب، قامة شامخة كأنها نخيل البصرة قبل زمن الحروب، جاء بكامل أناقتهِ، بدلة بلون رمادي غامق تحتها قميص سمائي وربطة عنق مارونية بخطوط رمادية، ساعة يد فضيّة، حذاء جلد أسود.

بدت قسمات وجهه الحادّة مبتهجة بقدومي.

تحت سماء هذه المدينة التاريخية الجميلة التقينا.. عانقني طويلا، استنشقت عطره وكأني تنفست عطر مليون سنة حضارية.

بكينا.. بكينا كثيرًا، لأن المستحيلَ ركعَ عند إرادتنا- أو هكذا تصورت- لأن حبنّا حقيقة واضحة ولم نكن نتوهم، لأنه هو بدمه ولحمه، ولأني أنا بقلبي وجرأتي، لأن القدر معنا هذه المرّة.

- أعشقكِ

- العاشقون...

وضع يده على فمي قبل أن أكمل الجملة:

- لا تقوليها مرة أخرى، لأني أعشقكِ فوق حدود العقل والمنطق، أعشقكِ إلى حد أني أرى فيكِ نفسي.

استضافنا أحد أصدقائه في بيته، تناولنا وجبة العشاء، وبعدها شربنا الشاي، قال صديقه وهو يحمل بيده أقداح الشاي:

- ليس شايا عراقيا مهيّلا؛ لكن اسمه شاي.

ضحكنا، وتندّرنا بحكايات كثيرة، ثم استأذن صديقه بحجّة ساعات عمله الليلي ليترك لنا  البيت.

أمسك بيديّ تارةً يقبّلهما وتارة أخرى يشمّهما:

- هل يعقل أنكِ الآن أمامي؟ كأني بحلم

- سعيد؟

- جدًا.. أكثر مما تتصورين.. بل لم أصدق عيني.

تلك الليلة بألف ليلة وليلة، شعرتُ بنفسي الطفلة المدللة، الحبيبة التي نالت البدر وضوءه، والشمس ونورها، والعالم وأفراحه.

طلب منّي أن أخلع حذائي والجورب، لاحظ استغرابي، فاستدرك:

- لا يذهب تفكيركِ بعيدًا، أريد أن أفعل شيئًا نذرت أن أفعلهُ لكِ.. فقط لتعرفين مقدار حبّي وتعلّقي بكِ.

فعلتُ ما طلب.. فأمسك قدمي وقبّلها، قبلة، فأخرى، فثالثة طويلة ، ثم قادني إلى الحمّام، قال:

- قفي هنا عند صنبور الماء، سأغسل قدميك.. تمسكي برأسي كي لا تقعي.

جلس عند قدميّ، أمسكَ بهما، بللهما بالماء ثم فركهما بالصابون وشطفهما ثم جففهما بالمنشفة التي وضعها على كتفه وهو مبتهج ويطلب منّي ألا أرفع يدي عن رأسه كي لا تنزلق قدمي وأقع!

شعرت حينها أني بعمر سنة واحدة، تلك الطفلة التي تعلمت المشي للتوّ واتسخت قدماها من ملامسة أرض الحديقة، فقام والدها بغسل قدميها وتقبيلهما.

شعور لا يمكن وصفه.. ولا يمكن نسيانه.. ولا يمكن تكرراه ربما، فبعض المشاعر النادرة التي تداهمنا لموقف معين أو لحظات معينة، لا تتكرر ولا تُعاد بالقوّة نفسها.

ذالك الوقت هزّتني عاصفة حنين شديدة اقتلعت الأشواك التي زرعتها سنوات الحرمان في حياتي، فصرخت بلا صوت:

- أحبكَ..

واحتضنته، ثم دفنتُ رأسي في صدره وشهقتُ ببكاء مرّ:

- لا تخذلني.

حوّط وجهي بيديه، مسح دموعي ثم طبع قُبلة دافئة فوق جبيني:

- لن أخذلكِ، أنتِ حلم الصبا، أمنيتي ومرادي من هذه الدنيا، أنتِ أمي وأمّ قلبي وروحي وأنفاسي وحبيبتي وعمري، وستكونين زوجتي.

بعد أن هدأت نفسي واطمأن أنني بخير، أرشدني إلى الغرفة التي سأقضي بها ليلتي، ثم تركني على أن يعود لي في الصباح.

بدأتُ أتقلّب على السرير، حاولت أن أغمض عيني، بدأ النعاس يتسلل رويدا رويدا، وما إن استسلمت للرقاد حتى سمعتُ رنّة الهاتف، تكاسلتُ أن أنهض وأخرجه من جيب الحقيبة حيث تركته منذ وصولي إلى مدينة ميونخ، انقطع الرنين، فعدتُ إلى رقادي، ثم عاد يرنّ مرة أخرى، فكان لا بد أن أنهض وأرى من المتصل.

نهضت والتقطت حقيبة يدي من فوق الطاولة القريبة من السرير، فتحتها وأمسكت بهاتفي لكنني وجدته مُطفأ!

من أين مصدر هذا الرنين؟

حدثتُ نفسي وقد راودني بعض الخوف.

وضعتُ وشاحًا على كتفي وسرتُ صوب غرفة الصالون، بدا صوت رنين الهاتف أكثر وضوحًا، تتبعتُ الصوت لأرى هاتفًا فوق طاولة الطعام.. اتجهتُ صوبه وما إن وصلت حتى انقطع الرنين.

قلت مع نفسي ربما صاحب البيت نسيَ هاتفه.

هممت بالرجوع إلى غرفة النوم، فقد كنت أشعر بنعاس وتعب، وما إن استدرتُ حتى عاود رنين الهاتف، دعاني الفضول إلى أن اطلع على الشاشة، فقرأت اسم المتصل: زوجتي.

في الحقيقة استغربت كثيرا، طار الرقاد من عيني، جلست على الكرسي القريب من مكان الهاتف:

إن كانت المتصلة زوجة صاحب البيت، فأين هي في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ثم أصلًا هو لم يخبرني أن صديقه متزوج! يا تُرى ماذا ستقول عنّي؟ يا إلهي كيف أضع نفسي في هذا الموقف الفج؟

وبينما أنا في دوامة أفكاري هذه، وإذا برسالة تصل:

أين أنت؟ تأخرت!

لماذا لاتردّ على الاتصال؟

الرسائل تظهر في أعلى الشاشة لثوانٍ ثم تختفي، بدأ الشكّ يتسلل إلى نفسي:

أيعقل أن يكون هذا هاتف حبيبي؟ وجاءت رسالة أخرى بالجواب:

كمال.. لماذا لا تردّ على اتصالي ورسائلي؟ أين أنت؟

هو في طريقهِ إليك.. هكذا قلت مع نفسي ودمعة حارقة نزلت بكل مرارات العالم لينقشع الضباب وينكشف الغطاء فأرى حقيقة الأمور.

تُرى هل سيكتشف أنه نسي هاتفه هنا فيعود، أم سيتركه للصباح؟ وإن جاء الآن ووجدني قرب الهاتف، ما عذره؟

انتابتني نوبة بكاء بشكل هستيري، نشيج من أقصى الروح، وجع يوازي قلع العين بعصا حديد ساخنة؛ لكن صوت بداخلي نهرني عن كل هذا:

- أنتِ أقوى وأكبر وأنبل، أنتِ التي كادت الأيام تكسركِ؛ لكنكِ تغلبت عليها بصبركِ وعزيمتكِ وحبكِ للحياة.

نهضت.. غسلت وجهي، وقبل خروجي من الحمام سمعتُ صوت باب البيت يُفتح.

رجع كمال ليأخذ هاتفه.

خرجتُ من الحمّام باتجاه الغرفة، فلمحني:

- ألم تنامي بعد؟

- كلا.. أخذت إغفاءة قصيرة ونهضت لقضاء حاجة؛ لكن ما الذي أعادك؟

- نسيتُ هاتفي هنا.

- أها.. أوكي

- تصبحين على أجمل غد.

- تصبح على خير.

كان لا بد أن آخذ قسطا كافيا من النوم، وأتهيأ ليوم غد، فالحياة لن تتوقف عند خديعة أو كذبة أو خذلان رجل، الحياة تستحق أن أعيشها، أركل أحزانها وأبتسم وسع صدري.

وجاء يوم جديد، استيقظتُ من ليلة شعرتُ أنها مرّت ثقيلة، قمتُ من السرير ومشيتُ صوب الحمام لآخذ حماما دافئا، ثم عملت فنجان قهوة، ارتديتُ ملابسي وجلست أرتشف فنجان قهوتي بانتظار قدوم كمال.

بعد دقائق وصل، كان يحاول أن يزيح القلق أو الارتباك عن ملامحه- أو هكذا شعرت-:

- صباح الخيرات حبيبتي، ما شاء الله، نشاط

- صباح الأنوار، نعم، استيقظت باكرا وجهزت نفسي وانتظرتك، هيا نخرج، أريد أن أتمشى قليلا، ونجلس في مقهى نتباحث مستقبل علاقتنا.

- تأمرين، هيا.

خرجنا نمشي جنب بعض؛ لكني شعرت أن المسافة بيننا آلاف الأمتار، انطفأت لهفتي، وأُجهضت أمنياتي الصغيرة، لم تعد لي رغبة في أن أتأبط ذراعه، أو أمسك يده، وأنا متأكدة أنه شعر بهذا الشيء.

- كيف كانت ليلتكِ؟

- هادئة.

- هل تعلمين أنني حتى الآن غير مصدق أنكِ هنا؟!

أطبق الصمت عليّ، لا رغبة لي بالكلام، بداخلي بركان يكاد يثور بأي لحظة؛ لكني ظاهرا هادئة جدا.

لمحتُ مقهى جميلا، فطلبتُ منه أن نجلس.

وما أن جلسنا حتى جاء النادل يسألنا عن طلباتنا، فطلبنا فنجانين من القهوة.

كنتُ أتحاشى النظر إليه خشية أن أضعف وأبكي.

- أليس لديكِ ما تقولينه؟

- أخبرتني أنكَ أرمل!

- أريد أن أوضحّ لكِ هذا الالتباس، وأتمنى أن تستمعيي إليّ.

تركتهُ يتحدث ويبرّر، ولم أكن أسمع سوى صدى صوت يردد: سنفترق عاجلًا أم آجلا.

- هل اقتنعتِ بما قلته لكِ؟ والله كنتُ أخشى أن أفقدكِ.

مثل الملامح الأخيرة للخريف بدت علاقتنا..

أشجار عارية، سماء ملبّدة بالغيوم، طرقات تغطيها أوراق صفراء، حدائق خلت من مرتاديها، مقاهٍ تكتظ بعجز الأمنيات، أرصفة تفتقد كعوب العاشقات، نظرتُ لعينيهِ وقلتُ بداخلي:

سأتوقف عن تصديقك بعد اليوم، كذلك سأتوقف عن تقديم التنازلات، ولا يهمّني إن نظرتَ لي على أنني إنسانة قاسية.

لكني لم أستطع أن أنطق بحرفٍ واحد، لأني أحبه كثيرًا.. ولم أكن في الوقت ذاته قادرة على أن أخالف ما أشعر به.. كذبة ستسحب كذبة..

أمسك يدي، شعرتُ بأمان الكون كله، بالدفء الذي سلبه منّي هذا المنفى، قلتُ لأصابعي: سأترك لكِ عناء الحديث، هيّا أخبريه أني بدونه مجرد اسم ورقم في هذا العالم.

لكنها لم تخبره، لأنها رقدت براحة كفّه مثل طفلة وجدتْ مهدها الذي ضاع منها قبل نصف قرن.

- استحلفكِ بالله أن تقولي أي شيء

- نفسي وسعادتي أولا.. كرامتي ثانيا.. ثم كل ما يأتي من بشر ومشاعر وعلاقات ثالثا.

***

 ألمانيا

١٣-١١-٢٠٢١

  

في نصوص اليوم