نصوص أدبية

عقيل العبود: قضمة الأخطبوط

عقيل العبودتوزعت قلوبهم، كما أنفاسهم بين الخوف، والصبر، والتحدي، راحوا يضعون أياديهم فوق صدورهم، يكتمون دموعهم، وأحزانهم، كأنهم يودعون الحياة، وبقي الألم شاهقاً يرسم المسافات بين الآباء، وأبنائهم، على أمل اللقاء عبر خطوات تنتظر العودة.

اقترب الموعد المرتقب للمهمة التي أمدها أشهر عدة، وترتب على الغواصين أن يعلنوا استعدادهم لما تمليه عليهم حقيقة المغامرة القادمة.

وعلى غرار العرض، مضت قوافلهم، أولئك الذين ما انفكت أحاديثهم، وذكرياتهم، بل وحتى لحظات الوداع بينهم، وبين من يحبون، تسير على خطى تلك المشاهد.

لم تكن قصة الغواص الذي رسم لخطواته، المخرج خالد الصديق مجرد مقطع زمني لواقعة تخص عصر من التاريخ مضى، إنما هي إمتداد حي لمشاعر امرأة بقيت تنتظر عودة ابنها من كابوس وشيك، حتى بكت، وأبكت من حولها لمصرع وحيدها حين أيقنت أنه لم يعد.

حدث ذلك بعد أن تحققت رغبة مالك المراكب، وعدة الغوص من إلزام مستخدمه المعاق بفعل سمكة قرش هاجمته ذات سنة من سنوات خبرته الطويلة، من تجنيد ابنه لهذه المهمة الشائقة، مستغلاً ظروف العوز التي أحاطت به مع الديون، وأسوة بالآخرين، ممن أحكم سيطرته عليهم متحكماً بظروف حياتهم.

آنذاك تم إجبار من وقع الاختيار عليه، لاداء مهمة الغوص، تاركاً أهله، وذويه، وبضمنهم الفتاة التي أحبها، وأحبته تحت تأثير القلق المستفز، مع أمل الرجوع سالماً، حيث لا أحد يقدر أن يتنبأ بما يفرضه المجهول، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواجهة شبح الغيب، والقهر، والفناء.

فمواجهة أخطبوط البحر، مثل مخاوف السير على مجسات الألغام، ونيران الحرب، وهما معاً أي البحر، والحرب صنوان لمعادلة ملاكها الفقد.

….

بات المنظر أكثر خشية وهو يحمل معه سيناريوهات لها علاقة بإنذار مغامرة مفروضة، فالمد الشاهق من الأمواج أمسى أكثر علواً، كأنه يحتفي بقدوم من ترتب عليه أن يكون بطلا مثل أبيه.

هيمن القلق بطريقة لا تختلف عن حالة محارب في معركة، وبقي التنين قائما ينتظر هذا الذي جاء دوره للهبوط مع لحظات كانت تنذر بخبر ما. فهنالك عند المدى البعيد من اتساع فضاء شرس، أطبقت على إحدى ذراعي الشاب آكلة الأجل المحتوم، لتجعله مقيداً عند القاع دون أن يعرف ماذا يفعل، حاول الصراخ، ولكن دون جدوى، أصبح عاجزاً عن الحركة، ليتم اصطياده مثل فريسة عسكرية وقعت في حقل الألغام.

…..

عاد المركب بشراعه المنكسر، حاملاً معه خبراً عن غياب من كان ينتظر العودة مع أصحابه سالماً، ليعلن مراسيم خطوبته لمن أحبها، بعد حصوله على بعض النقود.

وقفت تلك المتشحة باللوعة مع باقي الأمهات، تنتظر بلهفة عودة فلذة كبدها الذي تم الزامه بدفع فاتورة المواجهة. التفت برداء الخيبة، والانكسار، أوشكت الشاشة أن تعلن الحداد تضامناً، كأنها تتشبث بطقوس عزاء شامل لضحايا البحر، والحرب معاً.

…..

غدت الحكاية تحمل أوزار الذكريات المعجونة بتفاصيل

ذلك العمق، لتلقي بظلالها الكثيفة في نهاية المطاف نحو من أبحر وصولاً صوب أعمق نقطة من الغار، ليدفع حياته ثمناً، وتلك مرارة غدت تحمل مع بذورها لغة الفقر، والقهر، والحرمان، لتؤرق حنو من بات شاهداً يتلو، وقائع عصر يسوده البؤس.

 

عقيل العبود

......................

* قراءة تأويلية سردية لفلم بس يا بحر، للمخرج الكويتي خالد الصديق. النص تم تنقيحه عن مقال سابق تم نشره في كتابي الأول، الذي صدر لي في دمشق تحت عنوان حقائق غير هامشية المنشور عام ٢٠٠٠.

 

 

في نصوص اليوم