نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: عالم العطور والعقارب

الفصل (11) من رواية: غابات الإسمنت

ارتديتُ البدلة ووضعتُ بعض المكياج الخفيف، وخرجتْ معي حبيبتي ببدلة مدنية، رأيتها بشكل آخر؛ أنوثة مهملة، غير أنها بالغت في وضع المكياج، لا لقناعتها بالتزيّن المفرط، بل لأنها بنظر الآخرين أنثى.

(ليست جميلة؛ لكنها ليست قبيحة) تلك العبارة التي ردّدها كثير ممن حولها، جعلتها تنفر من الناس، وفق هذا المنظور أرادت أن تعتمد على نفسها، فدخلت كلية الشرطة، وأعرضت عن الزواج بعد تجربة فاشلة تسببت لها بألم كبير، فعدّت كل من يرغب في الزواج منها، يسعى لمنفعة مادية واجتماعية، حتى لو كان من عائلة كبيرة وغنية.

حتى ساقتني الأقدار إلى السجن، فوجدتْ صورتها فيَّ، بل سعادتها ..

كانت تقول: السعادة قرار، يأتي من اهتمامكِ بنفسكِ والسمو بذاتكِ، لا تنسي أن تتخذيه كلما داهمكِ شعور الحزن والإحباط.

بعد كل خذلان أو تجربة مريرة، اسندي ظهركِ إلى قلبكِ وعقلكِ فقط، وما يجيء من المحيطين بكِ بعد ذلك اعتبريه فائض!

قالت لي قبل أن نخرج: أخاف عليكِ من الحسد، أنا أمشي مع إلهة.

نفور من الرجال دفعها لعالم القوة الذي وجدته في مهنة الشرطة، وحنان غير متناه جعلها تكون أشد رفقا بكل أنثى، وفي لحظة سيري معها شعرتُ أني أستند إلى قوة تحميني، فلم أعد بحاجة إلى رجل.

صحبتني إلى مركز المدينة، ودفعتني إلى أكبر مركز تصفيف شعر للنساء، قالت:

هذا أشهر محلّ تؤمّه نساء الأغنياء، وتحدّثتْ مع صاحبة المحل التي اتضح لي من لهجتها، أنها ليست من أهل البلد ... "مركز السيدة الجميلة للحلاقة والتجميل" قالت للحلاّقة عنّي، إني قريبتها وسوف تعود بعد ساعة أو ساعتين، ثم خرجتْ.

خرجت مطمئنة إلى أنها ستجدني حين تعود، وارتحتُ كثيرًا حين قالت لصاحبة الحلاقة إني قريبتها.

خالطني زهو.

إني ذات منزلة في المجتمع الذي سأطالعه بوجه تصنعه ابتسام التي تحبني.

ودخلتُ في عالم آخر، سبق وأن دخلته يوم عرسي، حمّام مغربي، عناية بالقدمين واليدين والأصابع، وتجميل الأظافر وطلاؤها بلون الزهر الفاتح، كريمات... تسريح شعر... زيوت معطرّة، عوالم تشبه أن تكون فيها المرأة حوريّة، والمكان جنّة صغيرة لا تعرف الألم والهوان حتى لو كنتِ حزينة.

فاسترخيتُ مع رائحة اللافندر التي وضعتها صاحبة الصالون في جهاز فوّاحة بخار كهربائي قريب من طاولة المساج، ثم بدأت بتدليك وجهي بعد جلسة التنظيف والتقشير، وتشذيب حاجبيّ، سألتني إن كنتُ أريد تغيير لون شعري، فأشرتُ لها بعدم رغبتي في ذلك، فقامت بتجفيفه وتسريحه فقط، ومع رطوبة الكريم والمستحضرات والعطور، وجدتُ نفسي انسلّتْ من الألم مع الروائح وذابت في العطور.

خفيفة أنا كفراشة.

رائعة كملاك.

هكذا خلتني.

ثم عادت سيدتي التي جعلتني إلهة، على الأقلّ لم أسمع تلك الكلمة حتى من زوجي ... "إلهة" وقد عادت إلى الإلهة كأنني أنا سيدتها في كل مكان ماعدا السجن.

قالت ونحن في الطريق: كنت في البيت خلعتُ ملابسي العسكرية، لا أريد لأحد أن يرى سيارتي أمام دائرة تأخذ الأخبار ولا تعطي.

وخفضت صوتها لتؤكد:

مع هذه الدائرة مستقبلكِ، انتبهي جيدا ومرّني ذاكرتك، قد تحتاجينها أكثر من التدوين!

أشارت بيدها إلى إحدى سيارات الأجرة، وبعد دقائق ترجّلنا ثم مشينا إلى مكان ما، فكنتُ معها في مكتب أمام رجل ضخم، حاد القسمات يبتسم برزانة، وحين تنفرج شفتاه تزول رزانته وقسوته، خيّل إلي أنني أمام وجه يستطيع أن يتقمّص اللحظات، صاحبه كبير ذو مقام عال في هيكل الدولة يستطيع من على كرسيه أن يدير شؤون البلد؛ وإن لم يكن هو الأعلى! قالت:

ها هي سيدي العنصر الجديد.

هزّ رأسه وعقّب: حسنا ... اتركيها معي بسلام، وسأتصل بكِ حالما نعدّها للمهمّة.

تطلّع بوجهي طويلًا وهزّ رأسه فقالت:

ـ هل أنصرف سيدي؟

ـ بالطبع.

ـ لكني أريد أن أطمئن عليها.

ـ ألم أقل لكِ اتركيها بسلام.

أدّت التحية وانصرفت.

كان هناك شيء ما في ذهني وقد بقيت وحدي، ربما شككت أن هذا الرجل يمكن أن يستغل جسدي له؛ لكن بعدئذ عرفت أن كلّ من يعمل في هذه الدائرة يتجنب العاملات اللائي لا تعرف إحداهن الأخرى، ويمكن أن يجد أخرى في غير مكان.

بعيدون عن الأحاسيس ... لا يخلطون بين عملهم ورغباتهم، ويتحركون مثلما يتحرك الإنسان الآلي من دون شفقة أو رغبة أو خوف.

في هذه اللحظات شعرتُ أني أكبر من أن يرافقني الخوف، والفشل أصغر من أن أصاحبه.

لا أخاف أناسا يعيشون بغير مشاعر في مكان ما، في لحظة ما، لأنني سأكون مثلهم بالدرجة نفسها في مكان ما، في لحظة ما.

لا أواسي نفسي، بل هي الحقيقة التي تواجهني وأواجهها بكل صراحة ووضوح.

وقد ارتحت حين أدركتُ أني بدأت أعمل منذ اليوم.

سيدتي وحبيبتي تقول اعتمدي على الذاكرة .. مرّني ذهنك؛ فقد أمرّ في بعض الحالات بمواقف لا تتطلب ورقة وقلما، والذاكرة في بعض الأحيان تريد أن أنسى وأتجاهل، وبخاصة مشاهد الماضي ومعاناته، وهذه فرصة أمامي تجعلني أتذكّر وأنسى؛ أمرّن ذاكرتي على نسيان ما جعلني أدخل السجن، وأتذكر ما سوف يأتي، فلا أتشاءم ولا أخاف ما دامت الدولة نفسها معي، وسيدتي في السجن، حبيبتي في البيت معي.

وسط تلك الهواجس دخل رجل مقنّع بقناعٍ أسود يخفي وجهه، طويل القامة ممتلئ الجسد، حالما دخل لمحتُ السيد الكبير يشير إليه بطرف عينه، ويأمرني بالخروج معه، غادرتُ وكان يسير أمامي، حتى توقف عند باب لغرفة ضيّقة، فتح الباب ودفعني بشيء من الغلظة، حتى كدتُ أسقط على وجهي، تبينتُ من خلال النور الخافت، أن هذا أشبه بنفق صغير، أظنه مترًا ونصف طولا وعرضا، وبقيت أنتظر.

راودني قلق، وتذكرت قول حبيبتي النقيب ابتسام: لا تخافي، قد تمرّين باختبار، نحن طلاب كلية الشرطة مررنا بشبيه له.

رعب .. عنف .. حشرات .. ولو كنت مع عقارب، فلن أخاف ما دمت قد عشت حادثا أفظع من أي مشهد، فعندي الثقة الكاملة بنفسي، أنّي أستطيع أن أروّض أعتى الوحوش.

تسليتي أني أوظّف وأنا في السجن، بدأت لا أكره شيئا، إني أحب، أعشق.

لا أعد نفسي سيئة حتى لو كتبت تقريرًا؛ إذ لا أظن أنني سأكتب عن رفيقاتي في السجن، أو الناس العابرين الأبرياء، هؤلاء البسطاء لا ضرر منهم؛ والسجينات تحت أنظار الحكومة، فلمَ أخجل من نفسي؟

هناك رجال يملكون السلطة والمال والقرار السياسي، يمكن أن أوظّف مهاراتي للعمل معهم. جمالي وقوّة شخصيتي التي ظهرت مع الحبيبة النقيب، جعلاني أفكر بجدية في أن أصبح سيدة مجتمع، وأعود إلى وضعي الطبيعي قبل دخولي السجن من غير أن يتحكّم بي أحد.

مرّت ساعات وانفرج باب، رجل مقنّع آخر أقصر من الأول، فتح الباب وألقى إلي بقليل من البطاطا والجبن وست حبات من الزيتون، التهمتها، وبعد ساعة عاد الرجل نفسه، جمع بقايا الطعام، ثمّ نادى بصوت عالٍ على شخص ما لم يسمعه ومد يده، فالتقط من آخر هرع إليه كيسا، فتحه ونكثه في الغرفة على بعد مني، فانسلّت منه عقارب سوداء متباينة الحجم، سلّمني الرجل عصا رفيعة وقال بصوت فضّ:

ـ سآتي اليكِ في الصباح، اطردي العقارب بهذه العصا، أطرديها فقط، لا أريد أن أرى عقربًا ميتا، هل فهمتِ؟

هززتُ رأسي وقلت: فهمت.

كانت العقارب تدبّ إلي؟ تقترب وتبتعد.

يتوقف أحدها كأنه يفكّر.

يرمقني بعينين جاحظتين، أحرّك العصا وأدفعه برفق، عقرب يلتم على نفسه، يبقى في الزاوية، أعدّها خمسة عقارب .. اثنان يتجهان نحوي، أهشّ واحدًا وأدفع الآخر، لن يتضررا أو يموتا، عقرب واحد بقي ساكنًا في مكانه طول الليل، لو حاولت أن ألتقط العقارب من ذيولها فأقطع إبر السم، ستبقى حيّة؛ لكنهم يريدونها سليمة...عقرب يسعى نحوي، وآخر يدبّ، الساكن الوحيد الذي لا يتحرك قد يكون من البلاستك؛ لكنني لا أريد أن أثيره، فالخوف الذي في داخلي يجعلني أجزم بأنه حقيقي، أنظر إليه فأراه لا يزال في مكانه كأنه ملك يراقب رعيته.

هل تعلم سيدتي الجميلة بهذا الامتحان؟ قد تعرف أني سأخوض امتحانا صعبا، وتجهل ما هو؟ أهشّ عقربا وأدفع الآخر.

وأبقى طول الليل أحرّك يدي بالعصا، وعيناي لا تحرزان النوم.

فمتى يطلّ الفجر وتنتهي ملحمة العقارب؟

***

ذكرى لعيبي

في نصوص اليوم