نصوص أدبية

نضال البدري: بينوكيو

كجرس يرنّ دون انقطاع تسأل والدتها وتستعلم منها قائلة : هل كان أخي هكذا؟ وهل زواج الأقارب ينتج عنه أطفال متخلفين؟ ترد عليها الأم كيف ذلك وما الذي تعنيه بقولك! ماذا دهاك هل اصابك الجنون، وهل ستمضي حياتك بطولها تحت مطرقة هذا الهاجس اللعين. طفلك طبيعي هو خجول ليس اِلا، خوفك عليه هو ما زاد من عزلته ومن وضعه سوءاً.

تصمت محدثة نفسها: ربما والدتي على حقّ عليّ أن أتوقف عن هذا التفكير . ثم يبتسم ثغرها وهي تستذكر أشهر حملها الأولى ومدى سعادتها حين بدأ بطنها يكبر، بعد زواج متأخّر وعنوسة قضمت بعضاً من سني عمرها .طفلها نحيف ذو أطراف طويلة كالدمية الخشبية (بينوكيو) . وعيناه جميلتان بحدقة سوداء واسعة وابتسامة بريئة ساحرة، بلغ عامه الخامس ومازال منطويا على نفسه، متكورا كجنينٍ في بطن أمه،لا يتحدث الا ما ندر ولا يملك سوى التحديق حين يسلبه أحد الاطفال العابه وهو ينظر اليه عاجزا على أن يستجمع شجاعته في استردادها، أو معبراً عن اعتراضه ولو حتى بالصراخ ! كان هذا ما يزيد من قلق والديه وخصوصا الاب الذي كان يشعر بأن الامر يعنيه اكثر من زوجته، لذلك أخذ يفكر في أيجاد حل يخرج ولده من تلك الانطوائية والعزلة، فوجد ان الحل في الحاقه برياض الاطفال ممن هم تحت سن الست سنوات خصوصا وانه طفله الوحيد. تحدث الى زوجته قائلا لها : يجب أن نساعد طفلنا، كفي عن تعلقك المفرط به ! نظرت اليه واطرقت قائلة :نعم لابد من ذلك، تقبلت الامر على مضض محدثة نفسها لابأس بأن يكون بعيد عني لأربع او خمس ساعات يوميا طالما ذلك يجعله بحال أفضل . تحلّت بشجاعة زائفة، وفي اول يوم جهزت له حقيبته الصغيرة، واّلبسته الثياب التي يحبّ وكان معظمها يحمل صورة لشخصية (سبايدر مان)، فقد كان يمثل رمزية الرجل الخارق المُحببة لدى الاطفال وتحديداً الذكور منهم، كانت تسمعه وهو يتحدث معه همساً وحين يشعر انها تراقبه يتوقف فورا عن الكلام . وقبل ان يصعد الى باص الروضة قبلته وهي ترقيه بالأدعية وسور من القران الكريم وكأنها تزج به وسط معركة طاحنة، مضت عده أيام على ذهابه الى رياض الاطفال، لا شكوى تسمع ضده بل إشادة بهدوئه، الهدوء الذي كان يقُلق والده ويشعره بالاسى على طفله الخائب، لكن كان هناك ما أثار حفيظة والدته واستغرابها الا وهي حقيبته الصغيرة التي كان يعود بها حاملا داخلها تفاحة قضم منها قضمتين تركتا اّثار أسنانه اللبنية عليها وقد كساها اللون البني، بالإضافة الى قصاصه ورق زادت من حيرتها، اذ رسم عليها وجوه مستديرة غير واضحة المعالم سقط منها دمع غزير ملأ الورقة بعشرات النقاط . ذات يومٍ تأخر الطفل في العودة فهرعت والدته الى الروضة وهي في غايه القلق تبحث عنه ولم تجد سوى الحارس الذي كان يغط في نوم عميق في قيظ ظهيرة حارّة زادت من لهيب قلبها وقلقها على طفلها الصغير،ايقظه طرقُ الباب وصوت نداء الام الحارس وهي تتوسل إليه :أ فتح الباب بسرعة أين ولدي، نهض وهو يطّل براسه ويمد عنقه الطويل من خلف الباب قائلا : وقت الدوام قد انتهى وركب جميع الاطفال في الباص أتصلي بمعلمته لا علم لي بأي شئ ! اتصلت وهي تسأل عن طفلها الذي أختفى، وبعد السؤال والتأكد اتضح أنه لم يكن في الباص مع باقي الاطفال وانهم ربما نسوه داخل الروضة .فتح الحارس الباب سبقته الام تجري بهلع بالكاد تحملها قدماها تتفقد الصفوف خائفة متوجسة من ان تجد طفلها وقد ألم به شيء او أصابه مكروه، وكاد قلبها أن يتوقف بعد ان وجدته جالسا القرفصاء في أحد زوايا صفه واضعا كفيه الصغيرين على وجهه وهو يرتجف تحيط به بالونات ملونه تركت كما هي بعد ان غادر الجميع حملته متهمة ادارة الروضة بالإهمال والتقاعس، وكذلك كانت تلوم زوجها الذي اصر ان يزجّ بولده في هذا المكان الذي يفتقد العناية والاهتمام بالأطفال، بعد يومين من الحادثة اتصلت مديرة الروضة وقدمت اعتذارا بسبب تقصيرهم قاطعهً وعداً بأن لا يتكرر ما حدث ثانية، أعادت الأّم طفلها الى روضته بعد أن أطمأّنت انه سيكون بخير، مرّت عدّة ايام والطفل لم يبُد عليه اي تحسن ,.الانطواء نفسه والجلوس وحيدا وكذلك،الاطفال مازالوا يسلبونه العابه دون أي ردة فعل منه لكن فجأة حدث شئ غريب، حين علا صوت صراخ احد الاطفال، ركضت المعلمة نحو الصوت لتجد احد الأطفال يقف بالقرب منه لاصقاً جسده الصغير على الجدار ويصرخ بشكل هستيري، أمسكته وضمته بين ذراعيها , محاولة تهدئته قائله له : اخبرني ما الذي أصابك، أشار الى الطفل قائلّا لها : هو أخافني كثيرا ! أشار إليه وهو يفتح ذراعيه الصغيرتين على اخرهما، لقد أصبحت عيناه سوداوين كبيرتين كعيني جرذ وخرج منها ماء غزير أغرقني وبلّل ثيابي، لم تصدقه بل ضحكت في سرّها قائلة له : انت تبولت في سروالك سأسامحك هذه المرة لكن لو فعلتها ثانية سأخبر والدتك بذلك . لكن ذلك أخذ يتكرر كل يوم تقريبا يصُاب أحد الاولاد بالذعر بسببه ومعظمهم بدأ يخاف الاقتراب منه أو اللعب معه، بل وأصبحوا ينادونه بالوحش، ما كان من إدارة الروضة وخاصة بعد ان أن أبلغوا الأم بذلك معتذرين لها رافضين بقاء ابنها في روضتهم بعد ان سحب معظم الأهالي اطفالهم من الروضة بسبب وجوده، قائلين لها لقد أصبح طفلك عدوانيا مع اقرانه فهو يقوم بأشياء غريبة تثير الخوف فيهم، اصطحبت الام طفلها وقد لفها الحزن، وهي في حيرة شديدة من امرها ماذا ستقول لوالده؟ هل يعقل أن طفلها قد جُن وزادت حالته سوءاً، تعاطفت معه كما هي عادتها وفرط حنانها اتجاهه، ضمّته الى صدرها وهي تطبع قبلها الامومية على خده وعلى جبينه قائلة له : لن ادعك تذهب هناك ثانية يا صغيري ابقَ في حضن أّمّك سأشتري لك ألعابا كثيرة،رفع الطفل رأسه وهمس في أذنها بصوت بالكاد يُّسمع كمن يودّ أن يخبرها بسرّ قائلا لها : ماما لست أنا من أخاف الاطفال أنه صديقي سبايدر مان، فحين سمعني ابكي عندما اخذ الاطفال لعبتي حضر مسرعاً لمساعدتي، وهو أيضا من طلب مني في المرة السابقة أن ابقى في الصف كي نلعب سوياً! صمتت الامّ والدهشة تلفّها، وهي تنظر اليه متسائلة هل ما أسمعه وعاشه طفلي وهم؟ أم كابوس ليس هو بحقيقة ولا هو بخيال .

***

نضال البدري

عضو اتحاد الادباء / العراق

في نصوص اليوم