نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: عاد النور ومني ضاع نور

ازدادت ضحى بعد ولادة عسيرة في ليلة ماطرة غاب فيها الأب كحارس ليلي ولم يحضر مع الام التي خانها حظ رؤية مولودتها غير ليليا بنتها البكر التي لا يتجاوز عمرها السنتين..

تزوج الأب بعد شهر واحد من ترمله وقد تلقفته إحدى نساء الحي من كانت عينها عليه قبل زواجه بالمرحومة..

ازدادت ضحى بلون قمحي فاتن، ومن أول يوم أطلقت صيحة وجودها هللت النساء وكبرن لحظة رؤية الصغيرة ساعة حضور جنازة أمها، وجه دائري بغمازة على الخد،شعر أسود غزير يغطي الأذنين وعيون واسعة بأهداب وطفاء كحيلة..

كل من كان يراها يكبر للشبه القوي بينها وبين أمها وهي من كان نساء الحي يلقبنها ب "فتنة الحي "وهو ما اثار غيرة زوجة الأب الذي تعلق بالصغيرة تعلقه بأمها الى درجة الوله، حريصا على تربية ابنته تقديرا وحبا لامها التي لم تمت الا من ضربة حسد..

زكام مفاجئ يصيب الصغيرة حين بلغت الخامسة من عمرها  فيُفقدها البصر، كانت زوجة الأب هي السبب، قطرت قطرات من القرنفل في أنف ضحى وادعت ان تحركات الصبية جعلت القطرات تسيح الى عيونها فبدأت تفقد البصر شيئا فشيئا ورغم محاولات الاب مع أطباء العيون فالبنت قد افل من حياتها نهار..هكذا حكم عليها الأطباء بالعمى الأبدي، تغادر ضحى الروض لاتفارق سريرها الا بمساعدة أختها..

تنمو ضحى فلا تزداد الا جمالا لكن بنفسية منهارة واضطراب حاد لما تحسه من عجز عن الحركة وعن قدرة السيطرة على بيئتها، تتهرب من كل الناس بتوجس وعدم ثقة شعورا بعجز يكبل حركتها ويولد صراعات كثيرا ما كانت أختها ليليا ضحيتها..فالنزاع بين الاختين كان يشتد كلما نمت البنتان..

كانت عبارة تنخر في صدرها يرددها كل من يراها،فتنهار ولا تجد غير دموعها تغسل بها عيونا غاب عنها النور " فاتنة !! لكن خسارة.".

تتزوج ليليا بعد أن اشتغلت في احدى المدارس الخاصة،فصارت ضحى تبتعد عنها لما يتلاعب في اعماقها من أحساس بعدم التقبل، وكراهية تجاهد النفس على إخفائها ولا أحد يدري لها سببا،ورغم اللطف والحنان اللذين كان يبديهما زوج اختها نحوها الا ان ضحى كانت تعامله بحذر قبل أن تعي حبه لها وعطفه عليها...

لا يغيب عن ضحى ما صارت تتمتع به ليليا أختها من مباهج اثر زواجها بابراهيم خاصة و أن الرجل موسر غني،أنيق بذوق ولطف.. كانت ضحكاتهما تخترق اسماع ضحى فتنسحب متوهمة أنهما يمارسان ما لا تستطيع تصوره او رؤيته، اوربما يستغلان عماها لممارسة مالا يجب أن يكون امامها، ورغم ذلك كان يغزوها نوع من انفراج الضيق الذي كانت تحسه قبل زواج لينيا، فقد تغير علاقة الزواج من سلوكاتها السيئة مما تعلمته لينيا من زوجة أبيها..

كان إبراهيم زوج الأخت رحيما بضحى يعاملها رغم حذرها منه كأخت صغيرة له لا يمكن أن تتفوه بطلب الا بادر بتلبيته، سيان بعلم أختها أو خفية عنها،فقدانها لبصرها كان الما ينقر صدره، فهو يحس معاناتها ويسأل الله فرجا لهمها وثقل ما تحمله بعلاج يعيد البصر لضحى فحرام أن يذوي هذا الجمال بين عتمات الظلام وكوابيس سوء الظن بالناس وعدم الثقة بهم..وهو ما تترجمه ضحى عند احاديثها..

شك قاتل كان يتلاعب بعقل ليليا:

ـ لماذا ينجذب لها زوجي الى هذا الحد ؟

ماذا يثيره فيها غير لونها القمحي ووجه أفقده العمى رواءه ؟

لماذا صارت ضحى ترتاح له و اليه تنحاز كلما عاد من متجره ؟

ماذا تحكي له وعنه يتكتم ؟

قرأ إبراهيم في احدى اليوميات ان طبيبا اسبانيا استطاع عن طريق تقنية جديدة باللايزر انقاد أكثر من اعمى ولو كان من أمد بعيد وان كل العمليات التي أجراها قد كللت بالنجاح..

عرض الفكرة على زوجته فعارضت ان يدخل في مغامرة قد لا تاتي بنتائج

لكن الحقيقة انها أحست بنوع من الغيرة حين اخبرها إبراهيم أنه هو من سيؤدي جميع مصاريف علاج ضحى ويصاحبها في رحلتها..

ـ كيف؟ تسافر معها..!!ومن يساعدها اذا ارادت الدخول الى الحمام أو ارادت تغيير ملابسها ؟ لا اظنها ترضى بهذا او توافق عليه، انت تعرف عقدها المتحكمة فيها..

استغل الزوج غياب زوجته في عملها وجلس الى ضحى وأمامها فجر البشرى،

بسرعة ترتمي عليه، تعانقه:

ـ كيف لا أوافق وانت تريد اضاءة عالمي المظلم ؟.. يبدو ان ليليا هي التي لم توافق..

وضع يديه على خديها وقال:

لا، ليليا لم تمانع بالعكس هي تخشى ان يأتي الرفض منك خاصة وانها لا تستطيع التغيب عن عملها لترافقك، وأنت لا بد لك من مرافق..

كان النقاش حادا بين الأختين فبقدر رغبة ضحى عارضت ليليا ان يكون زوجها هو من يصاحب أختها واقترحت عليه خالها فهو بلاعمل أو خالتها رغم كبرسنها

كان إصرار إبراهيم قاطعا فهو ادرى بالمنطقة الاسبانية ويتقن الحديث بلغة البلد لانه ازداد هناك وعاش مع ابيه بعد موت أمه الاسبانية سنوات، قبل أن يفكر في الدخول الى المغرب حتى يستثمر في وطنه بل وله متعاملون تجار يستطيعون مساعدته..

ترحل ضحى وكلها أمل أنها ستعود والعالم مرآة مضيئة مبهرة أمامها، كانت تتمسك بذراع إبراهيم لا تفارقه دون ان يغيب عنها تلونات اختها، غيرتها، وغضبها الظاهرمن شراسة كانت تقرأها ضحى من احاديث ليليا والتي ختمتها خلف ضحى وهي تقصد سلم الطائرة:

ـ احذري ان تكثري من الطلبات فلولاموافقتي ومال زوجي ما ضربك الحظ برداء، لي اليقين أن الامر لا يتعدى دعاية كما هي دعايات الأدوية التي تباع على النت، احترسي جيدا وانت تغيرين ملابسك، تحققي من خروجه من غرفة الفندق قبل أن تتعرين..

كانت ضحى لا تريد ان تفسد رحلتها أو يعكر مزاجها ما تبدى من أختها،

ما ان استقرت في مكانها وأحست بالطائرة تعلو،و تغادر المطار حتى مدت يدها الى إبراهيم، بسرعة أحست بحنانه تترجمه شفاهه تهتز على باطن يدها..

ـ إبراهيم انا من يلزمني ان اقبل يديك فانا لك مدينة بنور بصري بل بما تبقى من عمري وراحتي النفسية التي اترقبها ويقيني بالله كبير أني سأحققها على يدك..

تميل على كتفه، تشابك يدها بيده ثم تطبع لثمات عليها، ترفع رأسها وتطبع قبلة حارة على خده..

كان يدرك هواجسها، فرحتها،وما يمتزج من مشاعر شتى تتلاعب في اعماقها، كان يجاهد على ان يحسسها بالأمان والثقة التي تفتقدها..يدرك بوعي سعادتها برحلتها لكنها كسعادة طير يرقص من ألم وهو يترقب فرج النجاة..

حين نزلا في المطار الاسباني كان إبراهيم يصف لضحى كل مرئياته بدقة متناهية، كانت تسير الى جانبة ملتصقة به تصر على تكون معه جذلى يغمرها السنا والحبور..

كان إبراهيم قد حجز غرفة بسريرين وأول ما دخلا اليها كلم زوجته ناقلا اليها عبر هاتفه كل الأركان والزوايا، كان يدرك نفس ليليا التي تغلي كمرجل والتي صارت تتحدث كفقيهة في الحلال والحرام وتوصي بالحرص والانتباه..

كان إبراهيم يضع سماعتين في اذنيه حتى يجنب ضحى شكوك اختها والتي لا تتحرج في التصريح بها جارحة بلا اعتبار لنفس تنتظر مجهولا بلهفة وتذبذب لا تبديه بين الشك واليقين..

كانت ضحى تدرك كل حركات إبراهيم، تعرف لماذا يحجب عنها صوت أختها

بسماعات، ولماذا يجنب الهاتف مكان وجودها بحركة تحسها وهو يغيرمكانه حتى لا تراها ليليا عبر شاشة الهاتف وقد تعرت من ثيابها الا من ملابس داخلية شفافة فالقيظ كان يلف الغرفة بحرارة مرتفعة..

بعد سهرة طال ليلها اغتبطت فيها ضحى بعشاء لم تتذوق مثله من قبل وسعدت بما لم تسمعه في حياتها من موسيقى غربية راقصها إبراهيم ببراعة وتوأدة..لا يتوانى في وصف كل ماتراه عينه فتتمثله ضحى وكأنه رؤية عين..

كانت تلتصق به كأنه حبيب به هائمة متيمة، وكان لا يتوانى في شدها اليه حتى انها كانت تحس دبيبا يسري بين نهديها..

لم يعودا الا عند الفجر، ارتمى على سريره وهي تهم بالدخول الى الحمام ثم يتابعها بنظر عند الخروج وهي تتحسس الطريق الى سريرها و قد ظل يتابعها باهتمام خوفا من ان تتعثر او تسقط فيبادر اليها..يلف ذراعيه حول كتفيها الى ان تمدد ت على سريرها..

كانت شبه عارية كانها صنم للفتنة،نافرة النهدين، مفتولة الذراعين والساقين، كان مبهورا بما وهبها الخالق من قد مياس وجمال فاق الحد..

ـ إبراهيم هل نمت ؟

يرد عليها بكلمات شبه مهموسة فقد غاب له عقل في جمال جسدها

شتان بينها وبين أختها:

ـ لا لم انم، هل تريدين شيئا

بجرأة كبيرة تقول:

ـ أريدك جنبي اتحسس ذاتك إذا ما قُدر لي أن افتح عيوني تعرفت عليك بنظرة قبل أن ألمسك..

كان عاريا تماما، الا من تبان قصير، ارتدى سروال منامته واندس الى جانبها

لا احد منهما قد اصطبر / معا غلا فيهما دم الرغبة فتعانقا ثم صار كل منهما يلعق جسد الآخر..

يصحوان على رنين الهاتف، الساعة السابعة صباحا..

بسرعة يقفز من السرير ويتوجه نحو سريره فقد ادرك صاحبة الرنين

تبتسم ضحى وتقول بصوت ساخر تغلب عليه رغبة النوم:

ـ بادرها، لاريب انها على نار..

يرد إبراهيم ويحرك هاتفه في كل اتجاه ملتقطا مشهدا بانوراميا للغرفة فتتأكد ليليا ان أختها تنام في سرير وحدها..

كان إبراهيم لا يرد الا بنعم، حاضر، كل وصاياك تم تنفيذها حرفيا..

ثم يقطع المكالمة ويعود الى نومه قرب ضحى..

كانت الساعة الخامسة مساء حين نزل ابراهم وضحى الى مطعم الفندق يطلبان غذاء..

كان يتلبس إبراهيم نوع من الوجوم اثار ضحى باحساس من صمته :

ما بك حبيبي ؟ افتقد إحساس بسماتك التي تعودتها منك وانت تتكلم ؟

يتنهد ويرد:

ـ ما حدث بيننا، بصراحة نسينا نفسينا وبالغنا الى أبعد الحدود !!..

تتنهد وعليه ترد:

ومن بعد هل انت نادم أم خائف ؟

ـ أبدا،لا اندم عن عشق تملكني وأعيش ناره أما الخوف فأخشى حملك..

تبتسم، تشده من ذراعه وتضع رأسها على كتفه:

لا عليك، انت بعيد عن الشبهات وأتحمل مسؤولية ما قد يقع

انا وهبتك نفسي عن رضا وطواعية وانت اسعدت ليلتي بما ارقني من زمان..

يقبل يدها:

ـ أحقا كنت تتمنينني ؟

ـ أكثر مما تتصور.. كانت ليليا تتعمد ان تحرك دواخلي، تقصد اثارتك حتى تبادلها عواطفها في حضوري، لماذا؟ لا ادري.. كنت اسمع صيحاتها من غرفة نومي وكانها تتقصد المبالغة في رغباتها..

يتنهد وهو يدرك نفس ما ادركته ضحى، كانت ليليا توظف صوتها لغاية لم تكن تغيب عنه، فيتوهمه  غرور بنات أو حظوة تباهي بها أختها..

دخلت ضحى المستشفى حيث ظلت يومين قبل العملية وثلاثة أيام بعدها، احس إبراهيم بافتقادها، عصره غيابها، ايقن أنه يحبها وانه مهما كانت النتائج فلن يستطيع أن يتخلى عنها..

خلال خمسة أيام كانت ليليا تكلمه أكثر من ثلاث مرات في اليوم،تكيل له الاتهامات وترميه بشكوكها:

ـ أنا لا انام، كان يلزم ان يصاحبها غيرك، هل تريد الصراحة أتمنى ان يتضاعف عماها، أن احرقها بنار فيتشوه وجهها أكثر !!..

كان إبراهيم يقطع عنهاالهاتف فتعيد النداء وهي تصيح بهستيرية تتفوه بكلمات نابية ماسمعها منها ابدا ولا عرف اين كانت تختزن كل ذلك الكره وفاحش الكلام..

لم يخبرها بيوم خروج ضحى بالضبط حتى لا تفرض عليه العودة في نفس اليوم

ارتفعت حرارة المقال فانتقلت من لعن اختها الى تطاول على لعن زوجها بعبارات نابية، وكان جنونا قد أصابها..

ـ عشنا وشفيان العميان يسترجعون البصر بعد عشيرن عاما من العمى

لا اصدق هذا.".للا مليحة وزادتها الترويحة "

 وفي لحظة فقد فيها إبراهيم قدرته على السيطرة لما يسمع قال لها:

ـ ليليا !!.. أنت طالق !!..

انخرست بعد صيحة ظنها قد أخرجت معها روحها ثم كلم شريكه واخبره انه سيرسل اليه توكيلا لاتمام إجراءات الطلاق..

طلب إبراهيم من الطبيب ان يفاجئ ضحى دون اخبارها بقدومه

أول ما وقف على عتبة باب غرفتها في المستشفى نطت من مكانها وارتمت بين ذراعيه وكأنها كانت تراه من قبل..

في عناق حار بكت كأنها لم تبك من قبل والطبيب يصيح بها لتخفف من انفعالاتها، شرعت تقبل إبراهيم وما لبثت ان سجدت تحت قدميه فاعترض سلوكها،انبها على فعلها وانه لم يفعل أكثر مما كان واجبا وهو قادر عليه..

وهما يتناولان العشاء في احد المطاعم قال لها:

ضحى لو طلبت منك عدم الرجوع الى الوطن والسكن هنا هل توافقين؟

تطلعت اليه بنظرة متفحصة واندهاش:

لماذا ؟ ومع من؟

ـ معي نتزوج ونعيش هنا

تتنهد بعمق وكأنها لا تصدق ما تسمع:

ـ اخبريني أولا هل توافقين ؟

ـ حبيبي أنا طوع يديك فبعد أن رأيت الدنيا استطيع ان اسقط في جهنم بعيون متفتحة من أجلك، كل ما تقرره أنفذه بعيون مفتوحة ونفس راضية..

حين اخبرها بطلاق اختها بكت:

ـ ستلعنني مابقي فيها رمق من حياة، الآن أخبرك بما لم يكن بعلم أحد:

طيلة فترة المراهقة وهي تستغل عماي،تمارس علي شذوذا وتهددني بالموت ان نبست بكلمة، كانت زوجة ابي تشاركها شذوذها بل هي من علمتها ورغَّبتها في ذلك، كانتا تمارسان بصوت مفضوح في حضوري، وبمجرد ما كنت تخرج الى متجرك تأتي اليها زوجة ابي ويشرعان في ممارسة شذوذهما ويعبثان بي معا.. ليليا كانت تريد مالك لاتريدك انت، تقودها زوجة ابي وعليك تمثل العاشقة المتيمة..

بسمة استهزاء تتربع على وجهه:

تناقضات كثيرة كنت أحسها والاحظ بعضها خصوصا حين كانت زوجة ابيك تكون في ضيافتنا، لكن ان يصل الامر الى سحاق فهذا مالم أكن اتوقعه..

لم تستطع ضحى أن تحقق لابراهيم ماعجزت عنه اختها، هي نفسها لم تكن غير ارض عقيم ورغم ذلك لم يتغير إبراهيم أو يفتر له حب في نفسه لضحى يتقد.. ظل يوهمها أن العقم منه آت..

تنهض ضحى ذات صباح لتفاجأ بموت حبيب روحها بسكتة قلبية أبعدته عنها بعد ست سنوات من زواج عاشت فيها أميرة في وطن غير وطنها وقد استطاعت ان تتكيف مع أوضاع البلد الجديد وفيه تتابع تجارة إبراهيم.وعلى ذكراه تعيش.

كم من يد امتدت لها برغبة لكنها كانت ترفض وتمتنع عن أي حديث يحاول رجل ان يشاركها حياتها او تقتسم معه حياته الى أن استطاع أن يقنعها مخرج سينيمائي

بتشخيص قصتها في شريط مطول اقترح عليها عوانه:

"عاد النور ومني ضاع نور"

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم