نصوص أدبية

لمى ابوالنجا: اعترافات مبهمة

في طريق ذهابي للعمل صباح يوم الخميس، فتحت اليوتيوب على أغاني التسعينات وبداية الألفية، وضعت السماعات ورفعت الصوت لأعلى شدة متجاهلة الألم المزمن في أذني منذ سنوات أجاهد النعاس إلى أن أصل بعد 45 دقيقة ..

أعادتني تلك الأغاني إلى فترة المراهقة وماقبلها بقليل. وكالكثير غيري تلك المرحلة هي الأكثر ظلامية على قلبي.

كانت ذاكرتي حاضره مع كل أغنية وبتفاصيل شديدة الدقة. ماذا كنت أرتدي قبل 23 عام برفقة صديقاتي في الشاليهات، ملابسهن، ضحكاتهن، المحادثات التي تدور بيننا والتي معظمها يدور حول تعليقات على شكلي، ملابسي، طباعي الغريبة، مزاجي الحاد والذي كثيراً ما كان سبباً في تنمر الجميع تلك الفترة، لم يتقبله أحد ولم أشعر مطلقاً أن ثمة من يتقبلني كما أنا دون محاولة نصحي أو تغييري أو مقارنتي بفلانه الفرفوشه، وفلانه المؤدبة اللبقة في التعامل .. وفلانة الدلوعة.

لم يجمعني بالبنات حديث ولا إهتمام ولا هواية جميع أحاديثهن عن علاقاتهن الغرامية وعدد الشباب الذين عرفن وحكايات كنت أراها مبتذله، مبالغه وتحمل الكثير من التناقض ..

لم أكن متصله عاطفياً بأي شيء ولا بأي شخص وكأني أسير بشكل مستمر فوق فوهة لشيء ما غامضاً ومظلماً يسحبني إلى اللامكان. يبتلعني بداخله كلما حاول أحدهم أن يكسب المجلس على حساب التنمر علي مازلت أجهل للآن لماذا قد كانوا يفعلون ذلك، لماذا كنت مثار للتنمر والتعنيف والإستهزاء؟، لماذا لم يفكر أي أحد بإيقافهم؟ لماذا لم أوقفهم بدوري؟ بل مما يزيد الأمر سوءاً هو أنني لا أبكي مطلقاً كل ماكنت أفعله هو الإنفجار بنوبة غضب عنيفه دائما ما تنتهي إما بالتوبيخ أو بخسارة علاقة ما بحياتي ..

على خلاف البنات حولي فكل ما كان يجذبني كذلك مختلف..عشقت صيد السمك أمضي ساعات قد تطول إلى ست أو ثمان ساعات أمارس هوايتي لكني لم أقوى قط على نزع الصنارة إذا ابتلعتها سمكة والتي تتطلب سحبها بقوة لنزع أحشاء السمكة من الداخل، لم أحتمل فكرة تعذيب كائن حي بهذه الطريقة فأنتظر حتى تتوقف تماما عن الحركة لأجنبها كل ذلك الألم..

هذه الحساسية النفسية كانت مثار للسخرية خاصة من أخي الأكبر وقد طلب مني بالفعل التوقف عن الصيد اذا كنت غير قادره على تحرير سمكة واحدة على الأقل لكني لم أفعل..كنت أفضل دائما الصيد في الليل بعدما يهدأ الموج ويرحل عفاريت الدبابات البحرية حيث أن النهار مضطرب مفعم بكل ما يجبرني والأسماك للهروب إلى الأعماق.

في إحدى المرات قررت الصيد في النهار وفي وقت الذروة، كان الجميع يراقب توترت كثيراً وفجأة، اصطدت سمكة كبيرة فضية اللون من نوع " سلطان إبراهيم"

كان إنعكاس ضوء الشمس على قشورها ساطع وكأنها مرآة وكفيل بأن يجذب أنظار الناس إلي لأن الصيد في مثل تلك الظروف نادراً أن ينجح.. أثناء سحبها على السطح علقت بين صخرتين، ومن جديد لم أمتلك من القسوة مايكفي لإنتزاعها من بين الصخور فبكيت بشدة والجميع يسخر.

أتى شاب سألني عن سبب بكائي فأخبرته ضحك ومسح دمعتي بإبهامه.

تسمرت في مكاني أنظر كالمسحورة، هذه المرة الأولى التي يكترث أحدهم لأمري أو هي بالأصح المرة الأولى التي أسمح بها لأي إنسان أن يعاملني برقة..

وبدون تفكير قفز إلى البحر وحرر السمكة من بين الصخور ثم إبتسم لي وإلتفت إلى الجهه الأخرى وأكمل سباحة إلى منطقة الدبابات البحرية أخذ دبابه وانطلق في جوله إستعراضية أمام البنات، وقفت في أهدأ ركن في المكان أراقبه حتى إختفى من ناظري وتماهى في أقصى مدى هناك تلتحم السماء والبحر..كخيال كحلم قادم من بعيد .. شيئاً ما غير حقيقي.

لم يكن يشغل بالي فقط بل يعصف بكل تفكيري ومشاعري، ولأنه كان يكبرني ب بأربعة عشر عاماً لم يراني أكثر من مجرد مراهقة غريبة الأطوار وأن شيئا ما لعله الشفقه فقط تدفعه لمساعدتها ..

فترة العصر وماقبل المغرب كنت أرافق أخواتي لمشاهدة الدبابات البحرية لم تكن مشاهدة الدبابات البحرية إلا ذريعة فقط حيث أن الجسر ذاك كان بقعةً يجتمع فيها العشاق لتبادل الأغاني والغزل والنظرات حيث كان حباً ينتشر في الأجواء تمنيت يوماً أن يكون لي منه نصيب.

رأيته ينظر إلى فتاة، وقفت لأسلم عليه لكن عينيه وقلبه وكل كيانه كان يرقبها أينما ذهبت..

لم ينتبه لي ولم يراني أمامه..

شعرت حينها أن هناك شيئاً مايربطنا .. شيئاً ما يعذبنا معاً، هو: مكلوم بحب فتاة لشدة جمالها وغرورها لم تراه..

و أنا: مشغولة به معها كيف يراقب دخولها وخروجها، إرتباكه في حضورها تسارع نبضه اذا طرفته بعينها..

تعلقت بحبه لها وتمنيت أن ينجح، أن يمتلك الشجاعة أخيراً ويعترف لها دون أن تخار قواه العاطفية كلما رآها، حبه لها كان نقياً صادقاً للحد الذي منعه من إنكشافه..

وبعد مرور عدة أشهر خرجت في يوم ممسكة بيد شاب آخر شعرت بالغيرة تعصر قلبي ودمعت لأجله دون أن يدري أن هناك ظلاً ما يتبعه وقلبا هلامياً متصلاً بروحه يمتص الألم معه.

كنت أستيقظ في نفس التوقيت كل يوم الساعه الحادية عشر صباحاً بغض النظر عن عدد الساعات التي نمتها في الليلة الفائتة وأبقى في سريري إلى مابعد الثانية ظهراً منتظرة أن تصحو أخواتي غارقة في أحلام اليقظة لم تفارقني..

هناك حيث يمكنني البكاء، أن أرد على إهانة، أن أقول ما أريد، أن أعترف له بحبي، أحلم بأن أصبح شخصا آخر غير ما أنا عليه، أن أصبح بجمال رهام، وبلطافة ليال، أن تكون لدي صديقه حقيقية أو أن يغرم بي أحدهم، أن أنتقم من هذه وأتشاجر مع تلك أن أرتدي فستان رأيته في السوق.. كان حب ذلك الشاب ما منحني الأمل والألم معاً وصورته المنطبعة في ذهني بعد ليلة قضيتها بالبكاء مثل مطر روى صحرائي..

كنت دائماً أخشى، أحلم وأنتظر ..ولا أعلم أنتظر ماذا .. أنتظر أن تتغير ظروفي أن تتغير صديقاتي أن تتغير أطباعي أن يتغير من حولي كأن يصبحون لاسمح الله أكثر لطفاً مثلاً

أخشى أن أصحو لأبدأ يوماً جديداً حافلاً بالتنمر، المضاربات، الحقد والكثير من البكاء.

قضيت مراهقتي أحلم بشيء ما يحدث..

وها أنا الآن أحلم بشيء ما …أن يعود.

***

لمى ابوالنجا - كاتبة وأديبة من السعودية

 

في نصوص اليوم