نصوص أدبية

ناجي ظاهر: أكبر الخسائر

لن أنتظرك.. كما اعتدت انتظارك كلّ صباح، كذلك ستفعلين أنت، أعرف أنك ستتألمين وسوف تضعين يدك على وسادتك الخالية وتبكين. لأنني أنا أيضًا سأفعل هذا. سأستيقظ في الصباحات المُقبلة، سأفتح عيني لأرى أشعة الشمس تخترق نافذتي قادمة من بعيد.. بعيد. إلا أنني لن أمكث في فراشي.. كما كنت أفعل خلال السنوات الثلاث المُدبرة. وإنما سأمضي باتجاه باب شقّتي المُنهك، سأتوقف هناك وسوف تخطرين في بالي.. سوى أنك ما تلبثين أن تغادري. عندها سأغادر عمارتي منطلقًا في الفضاء الخاوي اللامتناهي.

عند وصولي فم البلدة القديمة.. هناك قريبًا من السباط الاكبر، سأتوقّفُ بتباله، لا أعرف ماذا سيحدث لي، عندها سيستغل الشيخ عبد الصمد الحالة وسوف يجدها فرصة سانحة للخروج من عالمه الحزين والدخول إلى عالمي، وسوف يجري بيننا حديث عشوائي يضجُّ بالإيحاءات، الاشارات والمعاني.

هو غارسًا عينيه في عيني: أراهن أنها هجرتك.

أبادله النظرات غارسًا عينيّ في عينيه، فيتابع:

-هذه هي الدنيا.. يأتين إلينا على غير اتفاق أو موعد، كذلك يولّين.. لا تدع الحزن يتسلّل إلى أعماقِك، لأنك إذا ما فعلت فإنه سيجد هناك مرتعًا خصيبًا وموطنًا قشيبًا..

سأرفع رأسي باتجاهه وسوف أقول له:

-هل نسيت أنت صُميدة حتى أنسى أنا أطياف؟

يبتسم الشيخ المُعمّر الواقف قُبالتي:

-كان هذا زمان يا ولدي.. أنا لم أنسِ صميدة ولن أنساها.. أما أنتم.. أبناء هذا الجيل فإنكم تُحبّون بسرعة وتكرهون بسرعة.. كلّ شيء لديكم يجري بسرعة.. لا وقت لديكم للتوقّف والتفكّر، كما كان يحدث لنا في أيامنا السمان..

تلوح دمعة في عيني أقول له:

-لا تُعمّم يا شيخي.. لا تعمّم.. لسنا كلّنا سواسية في تقبّلنا لمصائب الدهر ومآسيه.. بعضُنا مثلكم بالضبط.. يستقبل الامور حسب نيته الطيّبة وقصته الهيبة.

يصمتُ الشيخ قُبالتي.. فأغرق في بحر من التفكير.. يدخل الشيخ عبد الصمد في حالة صمت.. أشعر أن كلماتي أعادته إلى أيامه الرائعات مع صميدة.. هاجِرته التاريخية.. حكاية الشيخ عبد الصمد مع صميدة هي واحدة من عناوين قصص الحب في بلدتنا.. فقد هجرته صُميدتُه في عزّ حبّه لها وولّت في فضائها اللامتناهي.. غير ملتفتة إلى الوراء، كأنما هي خافت أن تتحوّل إلى عمودٍ من مِلح.. أما هو فقد بكاها وما زال.. تُرى بماذا اختلفُ عنك يا شيخي.. وهل تعتقد أن للأحاسيس والمشاعر تاريخًا ينفذ؟ هل نفذ تاريخ قصة المجنون؟ ألم تعش قصته وما زالت وسوف تعيش ؟.. ثم ألا توافقني أن أمر المحبّة يتعلّق بعُمقها. أفتح عينيّ. يختفي الشيخ مِن هُناك.. أعود إلى الفراغ الصباحي الحنون.. ماذا فَعلت بي أيها الصباح؟.. وأمضي.. أنا وطيفك مثلما فعلت خلال رُبع قرن من الزمان.. نصف عمري الماضي..

أتوقّف هُناك في وسط سيباط الشيخ، كذلك يتوقّف طيفُك.. يتوقّف قُبالتي. يرسلُ نحوي نظرة حنونًا.. كذلك أفعل أنا.. لماذا هجرتني.. لماذا توقفت عن اتصالاتك الصباحية.. لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ أنا لم أتركك وحيدًا.. أنت مَن تركتني.. أنت لا تريد لطيفي أن يتجسّد وأن يصبح حقيقة واقعية.. أنا؟.. نعم أنت.. سأتركك تمضي وحيدًا.. علّك تعرف معنى أن يكون الانسان مجرّد طيف يمضي في طريق وحيد..

يختفي طيفُها، كأنما هي تبدأ عقابها الواقعي الملموس لي.. تولّي وحيدة.. يجري طيفي وراء طيفِها.. طيفُها يجري وطيفي يجري.. لا ذاك يتوقّف ولا هذا يُدركُهُ.. عندما يهدّني التعب أتوقّف.. أغمضُ عينيّ و.. ألاحقها بعينيّ خيالي، إنها تجري وتجري وتجري.. إني أراها.. اراها تتوقف هناك في اعماق سيباط الشيخ.. تتوقّف متعبةً منهكة.. وأرى طيف صُميدة يقترب منها..

طيف صميدة:

-عليك بالصبر يا ابنتي.. هذا مصيرُنا نحن النساء.. الرجال يريدوننا أطيافًا تداعب أشنابهم وأخيلتهم..

يقترب طيف صميدة مِن طيف أطياف.. تهمس لها:

-حسنًا فعلت.. كان عليك أن تتركيه.. كما فعلت أنا..

تهمي الدموع من عينيّ أطياف مدرارة..

-أنا أردته مِن أعماق أعماقي.. أردته بشرًا فأرادني طيفًا.. لا أعرف ماذا افعل.. أشعر أنني وحيدة بدونه..

ينتصب طيفاهما واحدًا قُبالة الآخر.. أغلق أذنيّ.. لم يعد لديّ ما يمكنني أن أقوله لها.. غير ما قلته ألف مرة ومرة.. أنا لا أرفض ما تودين.. لكن هناك أمورًا علينا التفكير فيها قبل أن نتخذ مثل هكذا قرارات مصيرية.. أنطوي على نفسي.. أحسُّ أنها تُحس بمثل ما أحس به مِن مشاعر الفقد والخسارة.. بي مثلُ ما بكِ يا حمامةُ فاسألي مَن فكّ أسركِ أن يحلَّ وِثاقي.. أهتفُ بها.. كما هتفت بي مرّات ومرات.. أنا الآن وحيد.. أعود إلى غرفتي.. طيفًا مجرّدًا.. أنتظر ما لا يأتي.. يأتي الصباح التالي.. وبعده صباح وصباح آخر.. وأنتظرها.. أن تتصل.. لكن عبثًا انتظر.. تمضي الايام وأنا أنتظر.. رُبّما مثلما هي تنتظر.. أتمعّن في أنحاء شقتي الوحيدة.. أشعر بالخسارة تهمي عليّ من كلّ حائط وسقف.. أشعر أنني الخاسر الاكبر.. وأتابع الانتظار..

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم