آراء
أوهام الماضي !
في العراق وقبل أكثر من خمسين عاما لم يكن احد يعلم ماذا كان يدور بين حفنة من كبار الضباط في الجيش العراقي وهم يخططون سرا لعملية إنقلاب ضد الحكم القائم آنذاك، والإستحواذ على السلطـــة. ولكن بعد سماع البيان رقم واحد أيقنت الجماهيــر البائسة بأن منقذها قد ظهر أخيرا على هيئة زعيم عسكري . إن أولئك البؤساء لم يكن بمقدورهم تغيير ظروف حياتهم المتردية لأنهم لا يمتلكون الإرادة لتحقيق ذلك . أما وعيهم السياسي فيكاد يكون معدوما، أو خارج نطاق مداركهم العقليـــة . كل ما يستطيعون فعله هو رفع أيديهم بالدعاء إلى الله، وهذه من أبرز سمات العقل الفلاحي البسيط المهيمن على مثل هكذا مجتمعات متخلفة، والذي يكون ارتباطه عادة بالطبيعة أكثر وثوقا من العقل المدنــــي، فالأمطار والتربة والجفاف ونفوق الماشية والفيضان .. كلها أشياء تتشكل على أساسها أنماط حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والدينية .
إن كل ما يحدث بالنسبة لهم هو من صنع الطبيعة والقضاء والقدر، وليس لهم إزاءه سوى الرضوخ والتواكل والانتظار . والسمة البارزة لديهم في تقييم الأمور والحكم عليها هي العاطفة الجياشة، والمشاعر المنفلتة وبها تعاملوا مع منقذهــم الجديد . فهم يهرولون خلف سيارته ويتمسحون بها، ويهتفون بحياته، ويعلقون صوره في بيوتهم ومحال رزقهم كطوطمات مقدسة . ويرون كل تصرف يبدر منه ومهما كان ساذجا وكأنه أمر خارق للعادة يستحق الانبهار والاعجاب المفرط . وبطبيعة الحال لا ينجم عن هذا التقييم إلا أمرين لا ثالث لهما، الأول هو أن ينخدع الزعيم ويداخله الغرور والكبرياء كما حدث مع هتلر وموسوليني وصدام، والأمر الثاني هو أن يهبط الزعيم إلى مستوى العامـــة، ويحاكي سلوكياتهم ويعمل وفق عقليتهم الفلاحيـــة، ويستمرىء أعرافهم وتقاليدهم . وهذا ما اخذ به الزعيم فعلا عندما ألقى القبض على من حاولوا اغتياله والإطاحة بنظام حكمه، فاستخدم قانون العشيرة المعروف ب (تحت الفراش) مصدرا حكمه الكارثي المعروف بعفى الله عما سلف !، متجاوزا بذلك على القانون العام للدولة .
وفي كلا الحالين ستضطرب الأمور وتنحرف عن مسارها الصحيح وتبؤ الجماهير بالفشل الذريع، وتعود بعد ذلك إلى استرخائها المعهود على سواحل الأمنيات، لتدير عيونا حائرة في السماء لعلها تجود عليها بمنقذ جديد مرة أخرى !.
إن الأمم المتحضرة تكاد لا تتذكر زعماءها لكثرتهم، لأنها تعيش ثورات مستمرة هادئة، قوامها عملية الانتخابات التي تأتيهم بمحض إرادتهم الواعية، وبما يختارون من أشخاص جديرون باستلام مقاليد الأمور في البلاد، وإدارة شؤونها . فهم لا يؤمنون بزعماء ينزلون عليهم كالصاعقة بانقلاب دموي، فالانقلابات الدموية هي ميزة الأمم المتخلفة التي تكتفي برفع أيديها إلى السماء لتدعوا للزعماء تارة، وتدعوا عليهم تــارة أخرى . العراقيون اليوم وبالرغم من خيبة الأمل التي أصيبوا بها من حكومات الإسلام السياسي، إلا إن هناك مؤشرات تدل على إن وعيهم السياسي يأخذ بالنضوج تدريجيا، ولكن ببطء شديد . وهم مطالبون أكثر من أي وقت آخر بالتخلص من آثار الزمن الماضي وأوهامه، والتطلع نحو مستقبل يصنعونه بأيديهم واثقين بقدرتهم على إحداث التغيير المناسب والمشاركة الفعالة فيــــــــــه .
طارق الربيعي