آراء

النغمة المعادة

tarik alrobaieفي الرابع عشر من تموز ومن كل عام يحلو للكثير من العراقيين أن يتغنوا بأمجاد الزعيم عبد الكريم قاسم وشهامته ومروءته وطيبته وتواضعه وزهده وعدله والى ما شئت من هذه الصفات التي تليق برجل دين ورع يفني حياته بالتبتل والعبادة، وليس بزعيم دولة مثل العراق، وفي مجتمع يضطرب على بحر هائج من الأهواء والنوازع . ويتذكروا أيضا منجزات زعيمهم الراحل، وما حققه من مشاريع خدمية كان لها أعظم الأثر في نفوسهم رغم قصر المدة التي تولى فيها إدارة شؤون البلاد . فيسبغون عليه ما لذ لهم من صفات النبل والشهامة .

وفي غمرة نشوتهم يغيب عن بالهم سؤال جوهري وهو إذا لم يقم الزعيم بمثل هكذا منجزات فما دوره إذن في السلطة ؟ وما هي وظيفته الفعليــة ؟. لقد صوروه كملاك سماوي هبط على أرض السواد،ليحيلها كجنة الله في الأرض، ولم يخطر لهم في بال أن يكون لهذا الملاك السماوي سيئة واحدة . حتى عدم زواجه صاروا يتحدثون عنه وكأنه منقبة عظيمة له . ولم يتساءلوا أيضا بواقعية لماذا أنخرط عقد الدولة بعد بضع سنوات فقط من تسلمه لزمام الأمور؟.وكان بالإمكان أن تبنى على أساس متين ويمتد بها العمر إلى أكثر مما وصلت إليه ؟؟ .

بالتأكيد لم يخطر في بالهم أيضا أن يقارنوا بين زعيمهم المتخرج من الكلية العسكرية وبين ابن سعود المتخرج من قلب الصحراء . إذ إن هذا الأخير استطاع أن يطيل عمر دولته ويحكمها كأبرع سياسي معاصر، رغم ماكان يحيط به من ظروف معرقلة لمسيرته، ومهددة لوأد دولته في مهدها، وما زالت إلى اليوم تعد في مصاف الدول الغنية، والأكثرها رفاهيــة مادية، علما إن نواتها هم حفنة من البدو المتوحشين الذي استطاع ابن سعود أن يروضهم كما تروض الحيوانات المفترسة باللين تارة وبالقوة تارة أخرى ..

في الواقع إن العراقيين إذا أحبوا شخصا صار في نظرهم بعيدا عن الشبهات والنقد، ولو إن حكم الزعيم امتد لعشر سنوات لوجدنا الآن من يضعه ضمن قائمة الأولياء الصالحيـــن !. نعم إن عبد الكريم قاسم فوق الشبهات، ولكن سياسته تبقى موضع نقد ودراسة نستخلص منها العبر والدروس . ولست هنا بصدد نقد سياسة الزعيم ومبدأه (عفا الله عما سلف) الذي جر الويلات والكوارث على الشعب العراقي، فهناك من هو أقدر مني على إبراز جوانب الضعف والقوة فيما يخص تلك الفترة من تأريخ العراق المعاصر . بيد إني أدعو للنظر إلى الأمور بواقعية أكثر، بعيدا عن المثاليات التي لن نحصد من وراءها سوى الأوهام، وتأليه الأشخاص ولن تفيدنا باستخلاص الدروس من التأريخ والتجارب السابقة، لكي نتجاوز ما وقع فيه من أخطاء قاتلة، وعدم تكرارها مرة أخرى . وان نعمل على مساعدة الناس البسطاء لكي يهبطوا إلى الأرض من مثلهم العالية، ويعتمدوا الموضوعية في التقييم، ويتمكنوا من تكوين تصوراتهم مجردة من الحذلقة والتزويق والخيال والعاطفة، وان لا يجعلوا من الشخصيات التاريخية أشبه بالملائكة المعصومين عن الخطأ، لا سيما في وقتنا الراهن حيث يستغل الكثير من رجال السياسة والديــن سذاجة عامة الشعب وقلة وعيهم، وجموح عواطفهم أبشع إستغلال . وتتحمل وسائل الإعلام والنخبة المثقفة دورا كبيرا في ذلك . رحم الله الشهيد عبد الكريم قاسم فهو شجرة طيبة كان بالإمكان أن يتفيأ العراقيون تحت ضلالها لولا إنها قطعت قبل أن تثمر أغصانها .

 

طارق الربيعي

في المثقف اليوم