قضايا وآراء

حين يصدع الشعر بالنبوءة قراءة لما بقي من شعر خليل المعاضيدي

لقد حاول قاتلوه وأد تجربته الشعرية حين أوردوه موارد الهلكة وأظنهم نجحوا الى حد ما في قطع الطريق على تجربة غضّة لم تزل في بدايات تفتحها الآ أن المؤكد أنهم فشلوا في وأد الحلم الذي كان يضمرفيه خليل المعاضيدي أمنياته بعالم أكثر نقاء وأعمق جمالا.

 

"يأخذنا سفح حمرين نحو التفرد والحب

نفضي الى هكذا وطن طيب، يصطفي العشب أبناءه

مثلما تستفيق البيوت المعراة، عند احتدام الصراع المبارك

ذا وطن نرتوي نكهة الخبز منه، ونجترعُ الموتَ بين أصابعه لذة ً"

من قصيدة "هكذا نلبس الموت قبعة "

 

كان خليل مسكونا بحنين غريب الى عالم رحب تنتفي فيه الأخبار المفجعة والصراعات السمجة والمضايقات اليومية لرجال الأمن وزوار الليل.

 

" حافية  ً تطأين العشبَ المبلول

خائفة مثلي تنحسرين وتنفتحين على القارات

نبحث عن عشاق مهمومين ومندحرين

ومنتصرين على الخوف وأشياء الليل

فيا طلقة هذا الليل المجنون

تعالي.. فكي عن جسدينا الأرهاب.

 

يبدو واضحا استلهامه النفس الويتماني، فوحدة النغم هي في العبارة عوضا عن المقطع الصوتي، ووحدة الفكرة هي في السطر بدلا من الجملة وأبرز سماته أرتفاع اللهجة الخطابية وسط  جمل نديّة هادئة تنساب هامسة ورغم ما يبدو في هذا الرأي من تناقض فقد كانت تلك هي حقيقة قصائد خليل المعاضيدي.. كانت قصيدته تنتظم شعرا مرسلا على غير افتعال أو تصنّع يتغلغل فيها نفس خطابي متوازن مع جوهر المعنى الذي يريده.. وخطابيته تأتي مطبوعة لا مصنوعة تحقق هدفها دون افتعال وهو بهذا يؤكد حقيقة كونه مسكونا بوالت ويتمان ورامبو الى حد التماهي. يقول ويتمان :

 

" في مساء هذا الشهر التاسع من أعوامي الأحدى والأربعين سأشرع / من أجل الذين هم الآن أو كانوا قبلا في ربيع الشباب/ بسرد سر لياليِّ وأيامي

لأحتفل بالحاجة الى رفاق "

لنرَ خليلا وهو يهمس متنبئا بخطابية متطامنة محببة :

يدي شارة في القميص الشمالي

تلبس وجه الرفاق الوديعين

مثل الينابيع والطير

يختصرون العذابات

هذا أوان التفجّر والنطق

فاتصلي واقتفي طعم من عبروا يمنحون القرى

بحكمة الدفء.. والخبزة المستريحة.

 

بسبب من إجادته للغة الأنكليزية أطّلع على ينابيع الشعر الأمريكي وأطل بشغف وحب على والت ويتمان وأزرا باوند كذلك كان يعلن إنبهاره بتجربة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو وجرأته في أكتشاف أساليب ثورية متجددة في قوالب الشعر السائد في زمنه.

أما بالنسبة لشعر العرب فقد كان يؤكد اعجابه بأبي تمام الذي كان يفضله على المتنبي لأبتكاره أساليب متجددة في الشعر كانت تعتبر غاية في الثورية في عصره.

أن قصائد خليل المعاضيدي تنطوي على سيرته وتعكس شخصيته في أدق سماتها. لم يكن ينظر الى الحياة من نواحيها النظرية المجردة بل من نضح التجربة والنضال ومشكلات الأنسان لذلك لم يخف اعجابه بل حبه لسعدي يوسف.

 

عشبة دوختني على باب بغداد

في مائها، طينها، من يعاتبها أو يعاتبني

فالفروق إمَّحَت

أنني عشبة ٌ قرب باب بغداد

أو انها قلبي المشتهى زرقة في سماء نظيفة

" قصيدة حالتان"

 

وبسبب من اعتناقه الماركسية كان مسكونا بهموم الناس البسطاء تتناثر في قصائده مفردات : القميص الشمالي، الرفاق الوديعون، البيوت المعراة، احتدام الصراع المبارك، منتظرين على الخوف واشياء الليل، العذابات، النقابات، الموعد الصعب، العرق الحلو، عشاق مهمومون، مندحرون ومنتصرون، انتماء، مستقبل الخ.."

بشرى:

 

" لهذا نحب النقابات والموعد الصعب

فاحتملي، وانتمي، تنحني في يديك

القرى سعفة

والعصافير تمنح كل شبابيكي صحوا غريبا.

 

الا أنه لم ير في الماركسية قيدا على حريته الشعرية بل كان يترك لنفسه العنان في قول كل ما يخطر على باله ولست أدري هل كان يحمل نبوءة الرائي حين تنبأ بموته غيلة أم أنه كان يستعجل مصيره بسبب من أساليب الخداع وجزعه من المكر السياسي.

 

يسقط الكوكب المستباح

طلقة بين ضلعي والرياح ..

قصيدة " قصة"

 

لنستعيد قصيدته " هكذا نلبس الموت قبعة "

" نراود عشب القرى، خلسة كالمغنين

ندرك نكهته المستفيضة، نشحبُ عند الجداول طفلين

والحشائش تصفر كالخراف الهزيله "

 

يلتقي المعاضيدي في نبوءته بالموت الفاجع بمالك بن الريب حين رثى نفسه وهو يحتضرإذ يطلب من صحبه أن يرفعوه قليلا ليرى نجم سهيل، لأن عيونه تقر به ..

ولما تراءت عند مرو منيتـي           وحل بها جسمي وحانت وفاتيــــــــــــا

أقول لأصحابي ارفعوني فانه        يقر لعيني إنْ سهيلٌ بدا  ليـــــــــــــــــــا

ولا تحسداني بارك الله فيكما         من الأرض ذات العرض أن توسعا  ليـا

 

ويلتقي في تفجعه على مصيره بالسياب .. يقول السياب في قصيدته " أحبيني" :

 

يا أحبائي

اذا ما شئتمُ أن تذكروني

فأذكروني ذات قمراء

والآ فهو محظ أسم

تبدد بين أسماء  ِ

 

واذا كان ابن الريب والسياب قد تفجّعـا بأعلى درجات الضعف الأنساني واذا كان السياب قد دفع ثمن اعتناقه الماركسية، سجنا ومطاردة وامراضا أنهكت جسده الغض فأن خليل المعاضيدي قد أعلن نبوءة موته وهو يرفل بصحة الشباب وانطلاقته.

ثمة أمر طريف أود تسجيله ونحن نسرد بعضا من سيرته:

نشر قصيدة في أحدى الصحف عنونها: (القصيدة الثانية). حاولت من جهتي أن أجد علاقة ما بين عنوانها والمضمون فلم أوفق فهرعت اليه مبديا استغرابي !

ابتسم بكبرياء مصطنع وهمس: ستفهم عندما تكبر. فضربته مداعبا :

"نحن متقاربان في السن فمتى أكبر أيها العجوز؟! "- كنّا في العشرينات من العمر- .

أجاب جادا ً : ما أردته من العنوان ليس بعيدا عن المضمون كما تتوهم أو يتوهم قاريء القصيدة.. علينا أن نعمل الذهن في هذا الذي يبدو متناقضا. سنرى أن هنالك قصيدة لم تكتب ما دمنا أسرى قيود سلطوية واجتماعية.

لقد تحققت نبوءة خليل، فقد كبرتُ وبقي هو شابا في الثلاثين من عمره ولا تزال هناك قصيدة ثانية لم تكتب .. انها قصيدة الأمل في قصيدة أخرى تتجاوز المسكوت عنه سياسيا واجتماعيا ذلك ما عناه الشاعر خليل المعاضيدي وهو في الخامسة والعشرين من عمره! فلله دره حين عاش وحين قُتل، ولله دري حين صبرت وحين تحملت فقدانه..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1351 الاحد 21/03/2010)

 

 

في المثقف اليوم