قضايا وآراء

درس الجابري: أو حينما تنطق السيرة بأكثر من معنى

فأفصحت لغتها عن درس عنوانه الحصري: درس الجابري.

فيلسوف انغمس في مدارات فلسفية مدلهمة، ومفكر حط برحاله في كل شعاب حيث الحرية والمساءلة، ومناضل دخل غمار التدافع السياسي والحزبي بمشروع فكري، سرعان ما انزوى عنه بهدوء يقتضيه إحراج السؤال الفلسفي ونشدان الحقيقة، وناقد موهوب توجه إلى الموروث بمنهج الفصل والوصل، وكاتب مؤلف يثري خزانته بدراسات من نخبة أفكاره، كل هذه صفات حملتها رياح التغيير إلى شخصية عالم قفز من فراغ إلى أضواء الشهرة والعالمية، بعدما عاش طفولة البساطة التي قضى منها جزءا في الرعي، وارتقى بعدها في سلك التعليم متعلما ثم معلما، متدرجا إلى أن استقر به الأمر أستاذا يتربع كرسي الفلسفة بالجامعة، معلنا عن إحياء جديد للرشدية  كمنهج في التفكير والبرهنة.

كان يختفي في لباس الفكر فلا تحس منه أنه مصنوع في أحد شقيه من السياسة، وإذا انتظم في سلكها لا تجد إلى هويته الفكرية سبيلا، وبين هذا وذاك ينتقل بنشاط وسلاسة من موقع السياسي إلى صرح المفكر دون تكلف ولا انتحال.

وعلى حد تعبيره كان يمزج بين الصخرة السياسية ومثيلتها الفكرية باقتدار وحنكة، لكن عزوفه عن الساحة السياسية فيما بعد لم يكن نتيجة قطيعة ابستملوجية أو بحثية طارئة، بقدر ما كان مفاصلة حزبية مؤسساتية، بمعنى أنه خرج من النسق الحزبي الضيق الذي من مقتضياته التماهي الإيديولوجي والوفاء للمرجعية الإدارية، فيما ظل متتبعا للمشهد السياسي والحزبي من منطلق الراصد المتبصر والناقد المجرب، أي أنه ساير الوقائع السياسية والحزبية كاتبا يحلل ويفصل ويبصر وينظر، مفضلا دور المثقف الذي يتولى مهمة التنظير، تاركا مجال التدبير للسياسي، بحسبان أن الدورين متكاملين يحسن أن ينتصب لكل منهما من يتولى أمر تسييرهما، وبذلك ترك الجابري مسافة فاصلة بينه وبين العمل السياسي بمعناه التنفيذي والإداري، ليتفرغ للكتابة السياسية التي تمهد السبل المعقلنة لترشيد الأداء السياسي الذي تزاوله المؤسسة الحزبية.

 مما جعل منه قوة اقتراحية ومركزا بحثيا ينقد المشاهد والمظاهر ويعقب على السلوكيات والممارسات، فضلا عن صناعة جملة من النصوص المعرفية التي غدت فيما بعد أطرا فكرية تسهم في التأسيس لرؤية نقدية تنويرية في مجال العمل السياسي، من خلال مختلف المتون الفلسفية التي أنزل عليها ثقله الفكري وكثافته في الأسلوب، من قبيل مفاهيم الحرية والديمقراطية والعقلانية وحقوق الإنسان والعولمة والحوار الحضاري وغيرها...

وبفضل هذا التراكم الكيفي والكمي، خلق الجابري حراكا ثقافيا لأزيد من أربعة عقود كلها كد واجتهاد في القراءة والكتابة، فهو إذا نزل ساحة التراث والمعرفة التاريخية، يغوص في نصوص الفقه والتاريخ والفلسفة والكلام والتصوف بحظ وافر، دون مواربة أو اختفاء قسري في دلالاتها الزمانية، مايزا بين الذاتي والعرضي في مكوناتها وحمولتها المعرفية، ثم إذا وقع اهتمامه على نازلة ثقافية أو إنسانية في عالم اليوم، كانت وطأته شديدة تنم عن قدرة عالية في المواكبة والتشخيص، من دون افتتان بالمظاهر ولا غفلة عن الحقائق.

هكذا إذن صنع الجابري من نفسه طفرة علمية ومنهجية استثنائية، ديدنه السؤال وتوليد الإشكاليات، والحبكة في صوغ القضايا وسبكها في معنى فلسفي دقيق، مع الجمع بين أسلوبين ماتعين أحدهما تعليمي موجه بالأساس إلى جمهور المتعلمين والطلبة، والآخر حجاجي أكاديمي يرمي مطارحة الأفكار والمناهج التي تروج في نوادي الفكر وتحملها حركة النشر والطباعة.

خلف بموته تراثا لا يختلف المادحون والناقدون في التنويه بصلابته البنائية ومتانته المنهجية وغزارته المضمونية، فشكل بذلك مرحلة هامة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي منذ سبعينات القرن الماضي إلى عشرية هذا القرن الذي نعيش فيه، ملأ الفراغات وصوب مواطن الخلل وأعاد ترتيب القضايا في نقاش جديد بعيد عن آفات التبخيس والتقديس، ومدفوع بمحامد التمحيص والتأسيس.

اقتصر إبداعه الفكري على أربعة حقول معرفية كبرى: قراءات في الفكر العالمي المعاصر وفيه أنجز في جزأين "مدخل إلى فلسفة العلوم"، ثم قراءات في التراث وفيه كتب رباعية "نقد العقل العربي" وثلاثية "فهم القرآن" و"نحن والتراث"، ثم قراءات في الواقع الثقافي العربي وفيه ألف "الخطاب العربي المعاصر" و"إشكاليات الفكر العربي المعاصر"، ثم قراءات في الشأن الوطني من خلال مقالات ومساهمات في رصد هذا المجال.

هذه الحركية والنشاط وسعت من جغرافية فكره من المحيط إلى الخليج، ومن أوربا إلى تخوم آسيا، فكتبه بلغت الآفاق وعرفت انتشارا قل نظيره، بل عبرت إلى لغات جديدة غير لغة الضاد، هذا اللسان الذي اجترح منه الفيلسوف المعنى الخالد والفكرة الطيعة لحركة الترجمة، فبدل أن يجلس لدراسة اللغات ويرحل في طلبها، جاءته تطلبه وتبحث عن كنوزه المعرفية لصياغتها بلغات العالم الأكثر نفوذا.

وقد توجت أعماله بالتكريم، فمنحت له جوائز تقديرية عما سطره من أفكار يعم نفعها مطلق الإنسان فقبل بعضها وأعرض عن بعض، اعتذارا وانسجاما منه مع قناعاته وانضباطا لمساره النضالي، حتى لا يتحول إلى طالب جاه يلهث وراء عرض الدنيا ومكاسبها، أو يغدو مقاولا فكريا يجمع الأموال من كل حدب وصوب، فتضيع بذلك القيمة الأخلاقية لشخصيته العلمية والسياسية، وتذهب كلماته في سياقات الولائم والولاءات، فيموت صاحبها حينها رمزيا قبل أن يموت جسدا.

لكن إنتاجه هذا لم يكن ليمر دون أن يحدث بعض الأصداء والاعتراضات، والتي سجلت على صاحب المشروع جملة من الملاحظات المتعددة، تبعا للمحفزات التي كانت وراءها، والمنطلقات الفكرية التي تحكمت في توجيهها، وكانت تنحو أحيانا سلوك الحدة والغارة والاندفاع، وتارة تخفو وتنزل إلى مستواها الطبيعي وتلج ميدان الاختلاف الفكري والحوار العقلاني، أما المنقود فكان قليل الرد على المخالفين، يتجاهل لكنه يتفاعل بطريق مغاير، أي يزيد الفكرة موضوع النقد إيضاحا إن كانت تحتاج إليه، أو يعيد تحيين مضمونها إذا استغرقها الزمن، أو يواصل ترميم مشروعه الفلسفي وفق قناعاته تاركا للتاريخ حصته من النظر والتقويم.

 

بقلم: العربي إدناصر، الرباط

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1400 الثلاثاء 11/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم