قضايا وآراء

منمنمات رعد فاضل تعيش علي حافة وجع القصيدة .. انحياز الوعي إلي التحولات الشعرية

 التي وسعت فاعليتها خارج معايير الوزن وخصائص النوع، إذ اتخذت من توظيف التفاعلات النصية، وإحداث القطيعة مع المألوف والنمطي، ومن ثم الانفتاح الدلالي مسارا شعريا سعي إلي التشكل خارج ما هو قائم وقار. ولم تكن هذه التحولات قد حققت انجازاتها في اعتماد الإدهاش والمفارقات وتجاوز الاشتراطات النمطية والمألوفة فحسب، وإنما في اختيار تفاصيل الحياة اليومية بكل تشظياتها، وتوظيف هذه التفاصيل في التعبير عن الاضطراب الداخلي للإنسان في اشتغال شعري اخذ يتوسل بالمجاز ذي الوتيرة العالية إمعانا في التخفي والغموض والالتباس الذي يعد (واحدا من أهم متكئات العمل الشعري الفذ الذي يستحق قراءة مستقبله) (1)

وبعيدا عن التسميات المقترحة للموجهات القرائية (نص مفتوح، قصيدة نثر، شعر) وغيرها من التسميات، فقد توالت مدونات رعد فاضل الشعرية وهي تحمل معها تجاوزاتها المرتقبة، فاصدر (شانقبا امورو) عام 2001، و(عندما يشتبك الضوء بالياقوت) عام 2003. و (مخطوطة المحنة) عام 2010، أما مجموعته (منمنمات) التي هي قيد الدراسة فقد أصدرها عام 2009.

لقد أدرك رعد فاضل منذ البداية ان القصيدة سحر وخطاب جمالي مختلف ينشغل باللغة وفضاءاتها فتشكل رموزها، وصورها، ومجازاتها، وإيقاعاتها، ودلالاتها حتي ليبدو (أن كل قصيدة عربية عظيمة قصيدة ثانية هي اللغة) (2). لغة يسكنها الزخم التخيلي المفعم بالغامض الشفيف، فتشغل ذهن المتلقي وهي تشكل تلك الفضاءات في مقامات التوتر والافتنان والصادم والمنعش، وتجسد رؤاه وأحلامه وتوجساته، ومن توجسات وهواجس رعد فاضل الشعرية التي أثارت انتباهي هي إصراره علي عدم الاكتفاء بقول الشعر وتركه للقارئ دون أن يتدخل في عملية القراءة، ويشكل هذا الإصرار استفزازا قرائيا يقود إلي أسئلة تقود استجابتها أو عصيانها أمام متلق ذي حساسية عالية تجاه الخلق الشعري :

(أي اثر يقتفي القارئ الشخصي، أثر الشكل/مسحال المعني.........المجموعة :20)

فإذا كان الروائي في (ما وراء السرد) يعتمد في صياغاته الفنية علي تقانات أسلوبية عزاها كثير من النقاد إلي تقانات ما بعد الحداثة، علي سبيل المثال لا الحصر التدخل المباشر من قبل المؤلف او السارد في شرح كيفية الكتابة وتوجيه القارئ، فان الشاعر رعد فاضل وظف هذه التقانة في مجموعة (منمنمات) حسب قدرة الشعر علي إمكانية توظيفها تلميحا أو تصريحا، وتركزت في إخبار القارئ عن كيفية كتابة القصيدة، واقتراح متلق من نوع الغواصين الذين يبحثون عن لؤلؤة مستحيلة حسب تعبير حسن بحراوي :

(1- صيد الأفكار حقا بلا دم وسلاح /غير انه يتلف العمر/2- كل فكرة أتصيدها البسها وجهي وثوبي وخُفَّيَّ/....../ 4- حقا الفكرة خَيَّالٌ /والعبارات خيول/وما الورقة إلا برية/وما بين السطور إسطبل/ 5- ما العبارات إلا مراكب. والأفكار مسافرون /والورقة بحر. والقراء علي الساحل مستقبلون/ وما أنا إلا الريح والأشرعة والقبطان/ يا ليت قرائي ما بين مبحر ونوتي وديدبان.....المجموعة : 51).

بإمكاننا أن نعد التحولات الشعرية عندما تؤثث اشتغالاتها بالابتكارات، وتواتر الأسئلة المشاكسة، من أهم مرتكزات الاختلاف الشعري وهو يتباهي بقوته رموزا ودلالات وانزياحات وانفلاتات من صنمية النمطية علي مستوي التشكيل والتدليل معا. إذ تمظهرت هذه التحولات في مجموعة (منمنمات) علي شكل تجانسات ثيمية سعت بوساطة تكرارها وتحولاتها الدلالية الي تشكيل المحتوي الكلي للمجموعة. هذه التشاكلات المهيمنة في النصف الأول من المجموعة (الي العالم/وأنا أمر به) والثاني (إليها /ولها وحدها : وحدها) أدت الي تكثيف توقيعاتها ومن ثم حساسية فعلها الشعري المكتنز في مقطعات المجموعة باعتماد فاعلية المدخرات الذاكرتية وضراوة المخيلة والحضور الذهني في صياغات شعرية مكنت الشاعر من انتقائها وسط هذا الثراء الحياتي الهائل.

 

فاعلية المتلقي

ان اختيار العنوان ـ كما هو معروف ـ هو عملية قصدية متعارف عليها يتوخي الشاعر والكاتب منها الحيازة علي الوظائف الأكثر قدرة في إيصال هذه الفاعلية الي المتلقي، إذ أن اختيار (منمنمات) لم يتشكل إلا ضمن هذه الدائرة القرائية في الأقل، وقد جاء متطابقا مع اختيار الشاعر للتأثيث الصوري في تقديم خطابه الشعري، فمثلما يتم التشكيل المادي لمنمنمة ما علي أساس التكرار وتجاور المنمنمة وتراصفها لتشكل إيقونة ما في نهاية النسيج والتصوير، كذلك تم التشكيل الشعري في هذه المجموعة بالطريقة ذاتها، وتبعا لذلك فان علاقة العنوان بالمتن في هذه الحالة علاقة ترابطية.

 

دلالة المنمنمة

لقد ورد في الويكيبيديا العربية بان (منمنمة) تتصف بسعة دلالاتها، وهي إنتاج فني صغير الأبعاد يتميز بدقة في الرسم والتلوين، وهو اسم يطلق عادة علي الأعمال الملونة وغيرها من الوثائق المكتوبة والمزينة بالصور او الخط او الهوامش المزخرفة، وقد حقق فن المنمنمات المرتبط بالمخطوطة كمالا رفيعا خلال القرون الوسطي في الشرقين الأوسط والأدني وحتي في أوروبا، وقد استخدم لفظ المنمنمات للتعبير عن أعمال التصوير وخاصة الصور الشخصية الصغيرة التي كان يجري رسمها وتلوينها علي الخشب والعاج والعظام والجلود والكارتون والورق والمعدن وغيرها من المواد (3)

تثير مجموعة منمنمات كثيرا من التساؤلات حول أمكانية ان تشكل (العلائقية) بين الكلمات طاقة شعرية هائلة (أن تكون مادة ما شعرية فهذا يعني أنها تتطلب مستوي عاليا وخاصا من تأمل اللغة ومن إعادة تخليقها او ابتكارها بكل خطوة من خطوات عبورها الي منطقة الشعر بمعناه العميق) (4) وذلك بالاعتماد علي الانزياح، والفجوة: مسافة التوتر في تحريك هذه الطاقة نحو منطقة الإشباع، أي الزخم الحيوي في حركية النص، لترك المتلقي في تفاعل/ تشارك يعيد الخلق الشعري مرة أخري. وهذه العلائقية هي الأمكنة السرية للغة الشعرية التي تتحرك في فضاء رهاناتها، ولا تستقر إلا في النوافذ المفتوحة والمفترضة لتسعي إلي حراك قرائي مرة أخري وهكذا.

ان مجموعة منمنمات بمجملها تجربة شعرية لعشق يومي اختزلتها اللغة في نسيج النص بتكثيف لغوي تجسد في الاختزال والتركيز والإيحاء والغموض والانحرافات والفجوات والمفارقات والصور والرموز والمفردات والتراكيب، وقد جاء تقطير هذه التفاصيل في فيض دلالي متخم بحساسية اللحظات المختزلة في الفعل الشعري (العطر نص يكتبه الورد بلغة الهواء.....ص4/ كل الفراشات يأتين وفي أعناقهن سلال ملئ بغبار الشمس ورذاذ الصباح......ص8). كما جاء التقطير في فسيفساء الوجع المسكون بألف صرخة ما زالت تدوي بصداها في أعماقنا التي فقدت عصيانها أمام البوح،وتقطّر عطب الروح ـ الذي توغل في الصمت عميقا ـ ضجيجا موبوءا بالخصب الشعري (ثقيلة أحمال الحب، من هنا ظهر العاشق قوس/الحب مهد له شكل قبر/القبلة نبض علي نبض، القبلة رحلة طويلة الي شفتين).

كما أن تشاكل المعني الذي هيمن بشكل ملحوظ في مقطعات المجموعة، هو الآخر يشكل إثارة قرائية تقود القارئ إلي كشف فرادة الاشتغال الشعري في فضاءاتها الخاصة بها. ولا ضير من عرض ـ بشكل متواضع ـ مفهوم التشاكل الذي دخل الخطاب النقدي الحداثي بفضل (غريماس) منذ أن نقله من العلوم التجريبية (الكيمياء والفيزياء) الي الدرس النصي بوصفه (تنمية لنواة معينة سلبيا او ايجابيا بأركام قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضمانا لانسجام الرسالة) (5). وقد استطاع حميد لحميداني كشف أهم مقولات هذه القراءة وصيرورة المصطلح بما يلي : (6)

أولا : ان "تتمة لنواة معنوية " تساوي الجانب التركيبي والتحويلي بشقيه التعبير والدلالة.

ثانيا: ان أركام قسري واختياري يساوي التناص.

ثالثا : ان التداولي يساوي البعد السيسولوجي.

وبعيدا عن الدخول في مقاربة المصطلحات المترجمة عن المصطلح الفرنسي الأصل isotopie. واقترابا من الاتفاق الذي أكد عليه معظم الباحثين، فقد استقر هذا المصطلح عندهم بـ(التشاكل) ويعني في المفهوم العام : تتابع التعبيرات المترابطة بوساطة صفة مشتركة موضوعية، فالأسماء والعبارات الوصفية والضمائر تترابط تشاكليا في النصوص المتجانسه، وبتعميم أوسع فان المترادفات والتعبيرات المرجعية تكون متصلة تشاكليا. وعلي هذا الاساس فالتكرارات والتوازيات والمتقابلات والمتضادات مؤشرات هامة علي التشاكل المركزي(7).

 

بلوغ التاثيرات

يولد تشاكل المعني لدي المتلقي تراكمات تعبيرية دلالية تفرضها طبيعة اللغة التي يفرضها الشاعر في النص، إذ يسعي إلي ممارسة الترميز لبلوغ منطقة التأثيرات النفسية علي الواقع الإنساني. وسندع مقاربة هذا التشاكل إلي دراسة مستقلة نسعي إلي تحقيقها في قابل الأيام، وسنعرض جانبا آخر في هذه المقاربة من التشاكل وهو التشاكل الصوتي.

في القراءة النقدية للتشاكل الصوتي في النص النقدي يتم البحث عن دلالة الأصوات وقيمها الجمالية عندما تهيمن تراكمات صوت أكثر من غيره في أجواء النص، إلا أن هذه الأصوات لا تأتي مجردة ؛ لان التشاكل لا يؤدي وظيفة كاملة إلا إذا تجلي في النبر الذي يقع في الكلمة والتركيب، ولا يشخص الصوت بكيفية جيدة إلا ضمن سياق ومساق. فلو أخذنا السطرين الشعريين (وحدنا حزينين وحائرين/من حوله أنا والهواء... ص3) لوجدنا أن التشاكل الصوتي في هذين السطرين الشعريين اعتمد علي صوت الحاء الذي يخرج من وسط الحلق وهو متوسط بين أمرين : أقصي الحلق وأدني الحلق، ويكون بين طرفين. فلو تمعنا في الكلمات (وحدنا، حزينين، حائرين، حوله) لوجدنا أن الأصوات في السياق التركيبي للجملة قد تنحرف عن الدلالة المتعارف عليها وهي ان للحاء دلالة الحب. أو تتضمن هذه الدلالة بافتراض علاقة محذوفة تسهم في انتاج المعني الكامن في ثنايا النص.

ولو أخذنا التشاكل الصوتي في العنوان أيضا (منمنمات) لوجدنا أن صوت الميمم قد تكرر ثلاث مرات، وصوت النون مرتين، وربما لا يؤدي هذا التكرار في قراءة العنوان منفردا أية دلالات تخص الصوتين المذكورين، ولكن قد تختلف الدلالة فيما لو كانا ـ أي الصوتين الميم والنون ـ في سياق تركيبي آخر، أي قد تتحول وظيفة التكرار من وظيفة إيقاعية الي وظيفة دلالية.

أما لو أخذنا هذا المقطع من بدايته (كأن الوردة ثدي. والتويج حلمة/ والندي قطرات حليب....ص15) وحتي نهايته (كأن ما حولي/وفوقي نجوم/وأنا اصعد سلم نفسي واقطف) نجد أن أداة التشبيه (كأن) قد تكررت اثنين وثلاثين مرة بوصفها لازمة قبلية أدت وظيفتها الإيقاعية بوصفها اصواتا متكررة، ووظيفتها الدلالية بوصفها أداة تشبيه عملت علي تجسيد العلاقة بين المشبه والمشبه به. إذ منح تكرار هذه الأداة النص الشعري تجانسا استطاع الشاعر بوساطته التمسك بالتقاطب الدلالي علي الرغم من إمكانية توسيع المستوي السياقي وانفتاحه علي أكثر من تشاكل استعاري او تشبيهي آخر، يستطيع الشاعر توظيفه للهروب من المكوث في منطقة التكرار بوصفها بنية حضور/ غياب تمارس وخزتها الشعرية في تشاكلات بلاغية متعددة.

لقد أتت معظم التشاكلات الصوتية في جمل قصيرة متوترة تحمل دلالاتها بشفافية عالية (إن النار وهي ترقص موجة في ثوب أحمر)، فتكرار صوت (الراء) ثلاث مرات يتطابق مع دلالة الرقص وحركاته الاستعراضية، إذ أن حرف (الراء) يخرج من طرف اللسان الأمامي مع أصول الثنايا العليا قريبا من الظهر، ويدل معناه علي الترجيع أو الترديد كون الحرف مكرر النطق، ويحدث التشاكل الصوتي نفسه من حيث الصوت الراء في الجملة الآتية (كأنّ الريح خمرٌ والضّوءَ خميرٌ).

وعلي أساس كل ما تقدم نخلص الي ان شعرية رعد فاضل متجاوزة، كونها تقدم المفاجئ والمنفتح والمغامر والمختلف في حراك لغوي مبهر ومتألق، وتشكيل صوري قائم علي التجسيد الأنسنة أو التشخيص وتراسل الحواس وغيرها من التقانات التي تستوعب اللحظات الشعرية واشتباكها بالإيقاع النفسي، والانحياز إلي وجدان الشاعر، وكلها تقوم علي تحولات في البنية التصويرية باتجاه مختلف، بالاعتماد علي إمكانية عقلية تخيلية تركيبية يشكلها الاشتغال الشعري المتحقق وسط الثراء الشعوري الهائل وهو يلامس ذات الإنسان ويعريها ويكاشفها عن قرب توجساته وانفعالاته.

.................

هوامش :

(1) لقاء عبد الكريم الكيلاني مع الشاعر رعد فاضل.

(2) الكتاب الأول، أدونيس: 15.

(3) http://ar.wikipedia.org/wiki/

(4) الفكرة بوصفها ضياعا ومركزا، من يسكب الهواء في رئة القمر أنموذجا، رعد فاضل، ألف ياء الزمان، المجلد الثالث، كانون الثاني يناير، 2005.

(5) تحليل الخطاب الشعري، محمد مفتاح: 24

(6) التحليل السيميائي أدواته وأبعاده، حميد لحميداني : 22

(7) علم السرد، مدخل إلي نظرية السرد، يان مانفريد، ترجمة أماني أبو رحمة :54.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

في المثقف اليوم