قضايا وآراء
"المشهد والظل" لهيام الفرشيشي
وتحكي المعقول في تقاطعه مع اللامعقول، تسافر بك إلى أقاصي الحيرة، فتختلط عليك المسالك وتتداخل السجلات، تطوف بك الكاتبة على متن السرد وفي القصّة الواحدة أحيانا بين كهوف الواقع و شعاب الخيال، بين التسجيليّ والتخيليّ بلغة هادئة أو هكذا تبدو، إلاّ أنّها لغة على هدوئها مخاتلة تبعث فيك الحيرة والانتباه وتستدعي فيك البصر والبصيرة إذ السمة الغالبة على قصصها عنصرالمفاجأة ومراوغة أفق القارئ وانتظاراته، كما هو شأن قصتها الموسومة بعنوان "خطوات القط الأسود" هذه القصّة التي تداول عليها نوعان من الزمن نفسيّ في قولها " عادت بها ذاكرتها إلى حكايات أمها وهي تطرز اللحاف ذات مساء. كانت تتحدثعن ذلك الجني الذي يتقمص صورة قط أسود، ازدادت التصاقا بأمها وهي تمرر أصابعها على أثر مخالب القط على ساقها عندما داست ذيله دون أن تتفطن إلى وجوده إلى أن أحست بوخز الإبرة في جلدها. سعال إبنها يزداد حدة ومواء القط يزداد إلحاحا وهو يخمش الباب."
وزمن فيزيائيّ في قولها " الريح تعبث بأوراق الأشجار. تشرع الأبواب والنوافذ، أحكمت " هدى" إقفالها لكن الريح ما انفكت تطرقها في إلحاح شديد، أسدلت الستائر وأرسلت شعرها وأرخته علها تتخلص من الإجهاد. تناهى إليها بكاء ابنها في غرفته المجاورة، أحست بالقلق من سعال ابنها المتقطع، أزاحت ستار الباب قليلا لتطل على الحديقة. الريح ما انفكت تولول عاصفة بالأغصان، ابنها يتقلب على الفراش ويبكي. حملته بين ذراعيها وهدهدته متفحصة وجهه الشاحب الذي اختفى عنه كل تعبير. " حتّى الأماكن لعبت دورا في الكشف عن دواخل الشخصيّة وما يدور بخلدها من أحاسيس وذكريات، اذ المكان لم يكن حيّزا تلتقي فيه الشخصيّات ويحتضن الأحداث، بل كان الإطار المكاني كما الإطار الزمانيّ عنصرا حمّال ذكريات ويحيل على لحظات نفسية تحياها الشخوص كما في قولها من قصتها " خطوات القط الأسود" "امتطت سيارة أجرة فوصلت إلى قرطاج قبل الموعد المحدد. لم تتساءل لم اختارت أن تلتقي والدتها في هذه المنطقة الأثرية، ف "قرطاج" أعمدة ثابتة تشدها. رجلاها تخطوان برفق، تتمرغان في التراب المبلل.. بين هذه الأعمدة كانت تقضي أوقات فراغها، تتأمل صور ذكرياتها وهي تتصفح مشاهد عاشتها رفقة والدتها وهي طفلة. هذا المكان مرآة لرجليها تتوقان للحركة، تبحث فيه عن وجه أمها الغائب.. كم مر من الوقت وهي تترقبها ؟ الساعة تجاوزت الثالثة : لم لم تأت ؟ هل نكثت وعدها ؟ هل أوهمتها بالقدوم ؟ غيابها شارف عقدين من الزمن، لقد أقسمت على الرحيل دون عودة إثر طلاقها... هل تغيرت ملامح وجهها ؟ الأعمدة الجاثمة تكسوها الخدوش والندبات.. وجه أمها هل شوهته التجاعيد ؟ "، فالبناء القصصيّ لديها يحتكم إلى ثنائيّات من جنس ( الواقع / الذاكرة ) (الطفولة / الأمومة ) (السكينة / الخوف) ( الأحلام / الكوابيس ) كما لعبة الوجه والقفا، تتداخل السجلاّت والأزمنة والأماكن وتتقاطع، تنفصل وتتواصل، تتواءم وتتنافر، لتزفّ فيما بعد للقارئ مناخات تراوح مكانها بين الذاتيّ والموضوعيّ والعجائبيّ، كما تتناسل الأحداث من بعضها البعض، فحدث يحيل على آخر بنسق استرجاعي، والواقع ( الهنا والآن ) بالنسبة لشخصيات القصص يلعب دور القادح لتطفو بفضله الذاكرة على السطح، وتحتل مكانها في سير اللحظة السرديّة كما في قصّة " ظلال داكنة " في قول الراوي :
" ذكرها وجهه بذلك الوجه العالق في ذاكرتها. كان يتسلل بضراوة إلى أنفاسها، يمتزج بشعورها الراسخ، ينسكب كتلك الطقوس التي تحولت إلى تمتمات خاشعة نحو فسيفساء روحها. تتساءل : من يكون صاحب ذلك الوجه؟ قد يكون عرقا بربريا منفلتا، فوضى تضج بدفء المتوسط... أحلام هنا وهناك.. أسئلة تتشظى في العمق وتعلو على السطح كلما تشربت بالأفكار العصية عن كل يقين يبعث طمأنينة الورع، وكلما استبدت بها الدهشة... أغان، ألواح، أشعار، قصص، أشخاص يتحركون على الركح... "، فالذاكرة حاضرة بامتياز في التمشّي السردي للقصص، ولا تكاد قصّة تخلو منها، وكأننا بالشخصّيات تعيش واقعها من خلال أمسها القابع في قيعان الذاكرة، حتّى العنوان الرئيسيّ للمجموعة القصصيّة و الذي يعدّ عتبة من عتبات النصّ كان دالاّ على ازدواجيّة السرد في النصّ، " المشهد والظلّ "، وجهان لعملة واحدة، هي الذات الممزّقة بين زمن ولّى وبقيت أخاديده محفورة في الذاكرة، وزمن راهن يعاش من خلال الأمس، والنصّ من خلال رصد معالمه ومناخاته وطرق تصريف الأحداث فيه يلخّصه بيت شعري لصاحبه جمال الصليعي :
أنا المشغول بالأيام
أمضي إلى زمن وبي زمن عقيم
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1422 الاربعاء 09/06/2010)