قضايا وآراء

الموت ومعتقداته الشعبية في بلاد الشام .. الجذور والديمومة

 

الموت، ظاهرة، مقرونة بالحياة، بانتفائها ينتفي، أو لعلنا أمام تواطؤ بينهما فمقابل اخضرار الحياة يلمع سيف الموت الأسود، ليحصد ما زاد عن حاجة الحياة وخصبها، وأحيانا ما لم يزد عن حاجة الحياة .

تأملَ أرسطو الموت فقال: "الموت أكثر الأشياء فظاعة "2  . أما أسخيلوس فقد أشاد بالموت " كشفاء من بؤس الحياة "3، في حين وقف الفيلسوف زينون الرواقي متصالحاً مع الموت بقوله:" إن الموت ينتمي إلى النظام الكوني للأشياء فهو موافق للطبيعة وبالتالي فإنه قانون عادل، ولا أساس للشكوى منه أو الاحتجاج ضده "4 .

إذن هو التسليم بشرعة الموت طالما أنه قدر محتوم، ولا يبقى على الإنسان سوى وعي الموت وظواهره وحتميته، كي يفوز بحياة هي طقس للعبور نحو عالم يكتنفه الغموض وطلاسم المجهول .

ولعل الانشغال بظاهرة الموت، اقتضى مرور ملايين السنين من الوجود البشري على الأرض، حتى غدا دماغ الإنسان قادراً على وعيّ هذه الظاهرة واستنباط الحلول التعويضية اللا شعورية تجاهها 5 .

فإذا كان أقدم وجود بشري دلّتْ عليه اللقى الآثارية يعود إلى 3،5 مليون سنة في أفريقيا، فإن الوجود البشري في المشرق العربي / الهلال الخصيب /  حسب المعطيات الآثارية يعود إلى حوالي مليون سنة، وذلك في موقع " ست مرخو" في اللاذقية بسوريا، حيث أبان الموقع عن أدوات خلّفها الإنسان  هي عبارة عن فؤوس ومعاول وسواطير وشظايا ونوى وقواطع استخدمها الإنسان آنذاك لغاية حياة الصيد والتقاط بذور النبات .6

 

البنية الدماغية للإنسان ووعي ظاهرة الموت:

ليس الإنسان الحالي من سلالة القرود، إنه من سلالة الرئيسيات التي عاصرت سلالات أخرى لم تتطور إلى الحالة الإنسانية، فبقيت على حالتها مورفولوجياً وفيزيولوجياً .

أما لجهة سلالتنا من الرئيسيات فقد تطورَ إدراكها مع الزمن  / تبعاً لتفاعلها مع البيئة الطبيعية ومجالها الحيوي /، ولعل قوة التفاعل تلك هي التي قدّمتْ حوافز التطور الدماغي لدى إنسان المشرق العربي منذ مليون سنة خلت وحتى الآن .7

فالمعلوم أن البنية الدماغية لدى الإنسان تتألف من ثلاثة أقسام:

- القشرة الدماغية: التي تشكل 85 % من دماغ الإنسان وتتجلى وظيفتها الأولى في الإدراك .

و تتألف من أربعة فصوص هي: الفص الجبهي - الجداري - الصدغي - القذالي .

- القسم الحوفي أو الطرفي: يعتبر مركز عواطف التدين والفرح والغيرية والعاطفة الإنسانية بما فيها ظاهرة الموت .

- القسم الزواحفي .8

و في مناقشتنا هنا لوعي ظاهرة الموت في العقل الإنساني فإن ما يهمنا هو التطور المُتبدي في القسم الطرفي من الدماغ، حيث تشير المعطيات العلمية إلى أن وعي هذه الظاهرة استغرق زمناً طويلاً امتد لملايين السنين حتى غدا الإنسان واعياً لها ولمقتضياتها .

و في المشرق العربي استغرق هذا الأمر مرور حوالي 900 ألف سنة حتى بدأ الدماغ الإنساني يعي هذه الظاهرة .

فقبل 100 ألف سنة تقريباً وحسب المعطيات الآثارية يبدو أن الإنسان المشرقي لم يعد ليترك أمواته نهباً للوحوش أو ضحايا للتفسخ والتعفن، بل سعى إلى دفنهم وفق شعائر معينة، دلّ على ذلك اكتشاف موقع مغارة الديدرية قرب مدينة حلب في شمال سوريا، حيث عثر على حوالي 70 قطعة عظمية بشرية دُفنت في هذه المغارة ولم تترك في البرية أو السهول .

وفي التسعينيات من القرن العشرين عُثر على هيكل عظمي لطفل عمره سنتان وطوله 82 سم، حيث دُفن في حفرة مستلقياً على ظهره وكانت يداه ممدودتان وقدماه مثنيتان، وتحت رأسه بلاطة حجرية وكذلك على صدره فوق القلب . يؤرخ هذا الطفل بحدود 100 ألف سنة . كما عثر عام 1997 على هيكل عظمي آخر لطفل ثان عمره سنتان أيضاً .

إن طرق الدفن المتبعة في هذا الموقع تدل على ظهور وعي لدى الإنسان آنذاك لضرورة العناية بالموتى وفق شعائر  وطقوس معينة .

ثم سوف تكرّ سبّحة الاكتشافات الأثرية، حيث نشهد طقوس دفن متقدمة في فلسطين في مغارة قفزة، حيث عُثر على 12 هيكلاً عظمياً تؤرخ بحدود 50 ألف سنة، ويتميز هذا الموقع بالعثور على قبر امرأة شابة مستلقية على جنبها الأيسر ومثنية الرجلين،  وإلى جانبها طفلها الواضع رأسه على صدرها، في حين كان بين يديه غزال يعطي دلالة على رمزية الخصب والحياة .9

و في الرافدين عثر في موقع كهف شانيدار على هيكل عظمي لرجل في الأربعين من عمره .يؤرخ في حدود 60 ألف سنة .

 ونتيجة البحث العلمي تبين أنه كان يعاني منذ طفولته من شلل نصفي بالإضافة إلى أنه أعور،  ويعاني من التهاب في المفاصل، ويبدو أنه توفي في شهر حزيران .

 والطريف في الأمر هنا أن الذي سبّب موته هو سقوط صخرة من سقف الكهف عليه، وتبين أن الورود نُثرت حول جثته .10

إن الدلائل التي قدمتها لنا المعطيات الآثارية لهذه المواقع، تشير إلى أننا أمام حالة شعائرية وطقسية تم عبرها دفن الموت وسط تطور متبدٍ في البنية الدماغية التي انعكست على إنسان تلك المرحلة، وهذا ما يؤكد وعي ظاهرة الموت عبر تطور القسم الحوفي من الدماغ لدى الإنسان تبدّت منذ حوالي 100 ألف سنة من الآن، إلا إذا قّدمت الاكتشافات الآثارية معطيات جديدة تُعيد وعي هذه الظاهرة إلى زمن أبكر من ذلك . 

 

ظاهرة الموت في المستوى النفسي لدى الإنسان:

منذ وعى الإنسان في المشرق العربي لظاهرة الموت في حدود 100 ألف عام، انعكس هذا على بُعده النفسي .

فوعي هذه الظاهرة المؤلمة انعكس عليه في المستوى اللا شعوري، حيث صُدم الإنسان بمصيره الحتمي، وهذا ما شكّل انفعالاً في عقله الباطن، ما أدّى إلى تصورات مشحونة بهذا الانفعال تمَّ التعبير عنها في الدراسات النفسية بعقدة التخلي أو النبذ .

و معلوم أن لكل عقدة نفسية لدى الإنسان ضروب تعويضية لا شعورية، تسعى بالإنسان إلى إعادة توازنه، وتتراوح بين الايجابية والسلبية تبعاً للانفعال الذي واكبَ النفس تجاهها .

فهي عقدة الإحباط الانفعالي، عقدة الاستبعاد، وسواس القطيعة وفي صورتها المصعّدة: تصبح هذه العقدة فلسفة في الوجود الإنساني، فالإنسان " مُلقى في هذا العالم " فريسة التخلي وحصر العزلة الذي يتصف بأنه مقضيّ عليه ميتافيزيقياً .11

وعلى ذلك، فإن ضروب التعويض عن هذه العقدة تتبدى في مستويات عدّة:

المستوى الأول: معاناة من ألم التخلي والفقد بما يؤدي إلى الانكفاء والعزلة في الحياة واجترار الكآبة والاستسلام للموت .

المستوى الثاني: تعذيب الإنسان لنفسه وتحميلها ألواناً من حياة سوداوية كئيبة .

المستوى الثالث: حيث يلجأ الإنسان إلى الحلول الصوفية أو الإيمان بالتقمّص أو التناسخ أو بوجود حياة بعد الموت .

المستوى الرابع: حيث يميل الإنسان إلى الانتحار ورفض الحياة وربما تنتابه نوازع عدوانية وسادية .

المستوى الخامس: أن يتزن الإنسان وفق المبدأ الرواقي حيث القبول بالموت والعمل في الحياة كأن الإنسان خالد، واعتبار الموت جزءاً من الحياة .

الجدير ذكره هنا هو أن الأديان السماوية جاءت بحلول لهذه العقدة وضروب تعويضية صالحت الإنسان مع الموت، عبر وجود حياة بعد الموت يُحاسب فيها الإنسان من قبل الرب على أفعاله في الحياة، فقدمتْ علاجاً نفسياً لموضوع يؤرق الإنسان منذ وعيه لظاهرة الموت من جهة أولى، وخلقت معادلاً موضوعياً لهذا الأمر يتجلى في إتباع قواعد أخلاقية ومناقبية في الحياة للفوز بعالم ما بعد الموت في منحاه الإيجابي .

 

الجذور التاريخية للمعتقدات الشعبية حول الموت:

إن الأساس في استمرارية الذهنية الشعبية لظاهرة الموت يتبدى في وجود استمرارية حضارية، وتواصل حضاري بشري، وهذا محقق في المشرق العربي منذ مليون سنة، حيث أن هناك استمرارية وتواصل حضاري عبر العصور منذ ما قبل التاريخ إلى الآن، وهذه الاستمرارية استندت على عوامل تفاعلية، إن كان لجهة التفاعل مع البيئة الطبيعية والمجال الحيوي أو لجهة تفاعل البيئة الاجتماعية بمكوناتها المتجددة عبر العصور والتي انصهرت في معظمها ضمن بوتقة المنظومة الحضارية للمشرق العربي .

 

وهنا سوف نأخذ بعض المعتقدات الشعبية والحكم والأمثال التي مازالت مستمرة في مجتمعنا المشرقي، ونقاربها مع ما كان سائداً في العصور الموغلة في القدم، وهذه المقاربة تستند على قاعدة في علم النفس التحليلي يشير إليها كارل غوستاف يونغ بقوله:" كل إنسان متمدن، مهما بلغت درجة وعي نموه، لم يزل إنساناً قديماً في الطبقات السفلى من كيانه النفسي، وكما أن الجسم البشري يوصلنا بالثدييات وكشف لنا عن بقايا كثيرة من مراحل تطور أولية ترجع إلى عصور الزواحف، فكذلك النفس البشرية التي هي نتاج تطور إن تتبعنا أصوله، تكشف لنا عن عدد لا حصر له من السمات القديمة "12   

 

يتبع

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1433 الاحد 20/06/2010)

 

في المثقف اليوم