قضايا وآراء

الموت ومعتقداته الشعبية في بلاد الشام الجذور والديمومة (2)

فاجعة للناس، قاطعاً لحبل الرباط بين الإنسان وأهله، ونظراً لما له من أهمية فقد كثرت حوله المعتقدات منذ اللحظة الأولى التي يشعر فيها الناس بأمر الموت وحتى ما بعد الدفن بأيام وأسابيع وسنين . وتتنوع المعتقدات المتعلقة بالموت في مضمونها، فنرى منها ما يدخل في باب التشاؤم، ومنها ما يدخل ضمن دائرة الأحاسيس الإنسانية، وبعضها يدخل ضمن دائرة التصورات الميتافيزيقية، دينية وغير دينية ..)13.

 

شعائر الموت في المعتقد الشعبي المشرقي وجذورها التاريخية:

إلى الآن يسعى المشرقيون في طقوس الدفن إلى إحداث حفرة صغيرة عند الشاهدة أو ترك تربة رملية فوق القبر، غايتها صبّ الماء حين زيارة القبر، وزرع النبات الأخضر الدائم الخضرة، ولعل الاعتقاد الآن لدى مجمل الناس أن هذا يرطّب القبر لا أكثر.

 ولكن بالرجوع إلى وثائق المشرق العربي المسمارية، وفي مواقع مختلفة نجد أن هذا الطقس يمتد منذ عصور ما قبل التاريخ وتم توثيقه في الكتابات المسمارية منذ خمسة آلاف عام،واستمر مع الزمن . حيث أن تقديم القرابين للموتى من طعام أو ماء أو إقامة الشعائر عليهم في يوم الندب تحميهم من أرواح هؤلاء الموتى وترضي رموز العالم السفلي . نقرأ في احدىالوثائق:" أن الأشباح الشريرة تخرج من القبر من أجل الحصول على الطعام والماء "14و إحدى الوثائق أيضاً تشير إلى إنسان كان يعاني من مرض وحسب اعتقاده أن شبحاً يلازمه من أرواح الموتى حيث يخاطبه: " سواء كنت شبح شخص غير مدفون، أو كنت شبحاً لم يلق عناية لائقة، أو شبح الميت الذي لم تقدم له القرابين الجنائزية أو الذي لم يسكب له الماء .."1و هنا تحيلنا وثائق المشرق العربي القديم إلى عدة أنواع من الشعائر الجنائزية التي كانت تقام لعدة أهداف أهمها:

1- إرضاء الإله وبذا يضمن الناس حسن تعامل الإله مع روح الميت .

2- إرضاء روح الميت حتى لا تضطرب وتعود بهيئة شبح يبعث الرعب والفساد في الأحياء .

و كانت الشعائر تتضمن إقامة وليمة جنائزية على روح الميت لغاية خير المجتمع وهذا ما استمر في معتقداتنا الشعبية في ذبح الخراف وتوزيعها على الفقراء كرمى لروح الميت .

كانت الوليمة الجنائزية يطلق عليها بالأكادية / كسبا كسابو / حيث تصفّ المقاعد حول الأطعمة القربانية / لحوم الخراف – أنواع الفواكه – المشروبات / ويترك مقعد فارغ لروح الميت الذي أقيمت الوليمة لأجله، وكان هذا المقعد يسمى:" كرسي الروح " وبالأكادية: kussu etemme .16

أيضاً هناك نوع من الشعائر الجنائزية كان يطلق عليه اسم " مي نقو .. بالأكادية "، ومعناه بالعربية، ماء نقي . حيث يتم سكب الماء في القبر .

و هناك نوع آخر هو " شم زكارو "، وبالعربية " ذكر الاسم "، حيث يقصد به إحياء ذكر الميت في عالم الأحياء، إن كان في ذكرى الأربعين / والتي تعود جذورها إلى التقاليد المصرية القديمة / أو في ذكراه السنوية .

كذلك في إطلاق اسم الميت على أول مولود يأتي للعائلة كنوع من تخليد ذكر الميت .17

و لعل حرمان الميت من هذه الشعائر يؤدي إلى صعود روحه بهيئة شبح مسيء للأحياء .

و تذكر نصوص الملك الآشوري " آشور بانيبال " أنه انتقم من الملوك العيلاميين الموتى حيث أخرج عظامهم من قبورهم، " لقد أقلقت راحة أرواحهم، إذ حرمتهم من القرابين الجنائزية وسكب الماء .. "18

إن ما استمر من هذه الاعتقادات حول أرواح الموتى المحرومة من العناية اللائقة عبر الشعائر الجنائزية ظهر في المعتقد الشعبي المشرقي بلبوس الجن أو الجان .

فحسب هذه المعتقدات " تعتبر الجان مؤذية وشريرة تجلب النحس والمرض والرعب وتعتبر مخلوقات غيبية، غير مادية، من غير طبيعة البشر وغير طبيعة الملائكة "19 .

و تشير بعض الدراسات إلى أن هذه الكائنات ربما كانت امتداداً للخيال الشعبي من أرواح الموتى أو الموتى أنفسهم، ذلك لأنها توجد في باطن الأرض عادة ولأنها تضطر للعودة إلى مقرها قبل طلوع الفجر "20.

و يبدو أن الجان أو الجن اقترن وجودها مع الموتى في باطن الأرض في معظم المعتقدات الشعبية في العالم .

و هذا ما يدفعنا إلى دراسة العالم السفلي في تراثنا المشرقي .

حفلت اللغة الأكادية بعدة أوصاف للعالم السفلي وبمعان مختلفة، فهو:

قبرو qabru أي قبر

أرصيتو شبليتو أي الأرض السفلى .

أرصيتو ميتوتي أي أرض الموتى .

خربو أي الخربة .

كان هناك في المعتقد المشرقي القديم اعتقاد أن العالم السفلي تسكنه شياطين أو جان، على أنواع عدة، منها ما هو سماوي ومنها ذو أصل بشري كأرواح الموتى، وهناك من كان أصله من العالم السفلي، ويبدو أن هذا الأخير يتصل بتصور المجتمعات الحالية عن عزرائيل وقد جاء وصفه في إحدى الوثائق:

" عبر الأسوار العالية السميكة، يمرّون كالطوفان، يمرون من بيت لبيت، لا يمنعهم باب ولا يصدهم مزلاج، فهم ينسلون عبر الباب كانسلال الأفاعي، ويمرقون من فتحته كالريح، ينتزعون الزوجة من حضن زوجها، ويختطفون الطفل من على ركبتي أبيه ويأخذون الرجل من بين أسرته "21

و لعل أوضح وصف لعزرائيل في الكتابات المشرقية القديمة ما ورد في ملحمة جلجامش على لسان أنكيدو في وصفه لحالة موته:

" كانت السماء ترعد فاستجابت لها الأرض، وكنت واقفاً وحدي فظهر أمامي مخلوق مخيف مكفهر الوجه ... لقد عرّاني من لباسي وأمسك بي بمخالبه وأخذ بخناقي حتى خمدت أنفاسي .. أمسك بي وقادني إلى دار الظلمة .. إلى البيت الذي لا يرجع منه من دخله .. إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور .. ويعيشون في ظلام لا يرون نوراً ".22

الجدير بالذكر أن مواعيد إقامة الشعائر الجنائزية كانت تتم قديماً بشكلين: شهري وسنوي، فالأول يُقام في التاسع والعشرين من الشهر، وهو اليوم الذي يكون فيه القمر محاقاً، حيث كان الاعتقاد أن فيه تتجمع أرواح الموتى مما يدفع الأحياء لتقديم القرابين وإقامة الشعائر.

 وقد أُطلق على هذا اليوم اسم "يوم القرابين الجنائزية، يوم سكب الماء " 23عليه نعوت عديدة منها " يوم وليمة الموتى " و" يوم الكآبة " و" يوم الندب " .

أما الموعد السنوي فكان يتم في شهر آب حيث تبلغ الطقوس ذروتها في اليوم التاسع منه حيث الاعتقاد أن أرواح الموتى تنعتق من احتجازها في العالم السفلي . 24

و في المقابل نجد في المعتقدات الشعبية المعاصرة أن هناك ما يسمى \خميس الأموات \، حيث يتم إقامة الشعائر الجنائزية بذكرى الموتى فيذهب الناس لزيارة القبور حاملين الأطعمة والماء، ويذهب الفقراء أيضاً ليحصلوا على ما يوزعه أقارب الموتى من طعام . ويعتقد الناس أن الطعام الذي يصل إلى الفقراء يصل إلى أرواح الموتى .25

و يشير ألكزندركراب في كتابه " عالم الفلكلور "، إلى أن الناس يحرصون على زيارة القبر في الأسبوع الأول من موت الشخص حيث تشرب على قبره القهوة وتقام الطقوس الدينية وتوزع الحلوى، وهذا حسب اعتقادهم رحمة للميت ودفع بلاء عن الأحياء من أهله وعياله وهم يذهبون لزيارة القبور بعد شروق الشمس وذلك لاعتقادهم بأن أرواح الموتى تختفي بعد الشروق .

كما يشير إلى استرضاء الموتى عن طريق تناول الطعام عند قبورهم .

 وهناك عادة وثيقة الصلة بهذه الممارسات وهي إعطاء الميت قطعة من النقود أو وضع هذه القطعة في فمه وهذه العادة كانت شائعة في حضارات المتوسط في العصور القديمة .26

و لقطعة النقود هذه أساس قديم في المشرق العربي فقد كان اعتقادهم أن الإنسان حين يموت ويوضع في القبر فسوف يعبر " نهر عبر " إلى العالم الأسفل،و هذا يتطلب إعطاء صاحب المركب النقود أو الفضة لأجل ذلك، لا بل إن بعض القبور حوت في مرفقاتها الجنائزية على لقى جنائزية بشكل مراكب قد يستعين بها الميت في عبور النهر باتجاه العالم السفلي .

 

مناقشات في وصف حال الميت:

إلى الآن ووفق المعتقد الشعبي المشرقي نسمع أن الإنسان إذا كان يحتضر يُقال أن " نجمهُ غاص "، ولا أعتقد أن الإنسان الحالي يعي معنى هذا الوصف، غير أننا وثائق المشرق العربي القديم وفي مواقع مدنه المختلفة تعطينا الجواب .

ففي الألف الثاني / وربما الثالث ؟ / قبل الميلاد، نشط البابليون ومن ثم الكلدانيون في حقل الفلك والدراسات الكونية، وتشير وثائق تلك العصور إلى أن لكل إنسان نجماً في السماء يخصهُ فإن أفلَ النجم مات صاحبه .

فالاعتقاد بالنجوم كان يلعب دوراً مهماً في حياة الناس، وثمة اعتقاد آخر بأن لكل إنسان برجاً خاصاً، يتحكم بمجرى حياته، وإن علاقة هذا البرج مع غيره يسبب لصاحبه الخير أو الشر .

و يشير قاموس الكتاب المقدس إلى أن " الكواكب تسيطر على حياة الإنسان، وهذا إيمان موروث من عبادة النجوم زمن الكلدانيين حيث ترعرعت أعظم حضارة فلكية ونشأ معتقد عبادة الأجرام السماوية .27

و يشير الدكتور ابراهيم بدران والدكتورة سلوى الخماش إلى أن البابليين والكلدانيين كانوا من أوائل من اهتم بمراقبة الأجرام السماوية أثناء ترحالهم، مما تولد عنه مع الزمن الخرافة القائلة بأن حركة الأجرام تتحكم في حياة الإنسان وأن مستقبله يتحدد بالنجم الصاعد ساعة ميلاده والنجم الهابط في ذلك الوقت أيضاً " 28

أيضاً ثمة قول لوصف من مات في المعتقد الشعبي حيث يقال: سقطتْ ورقتهُ .. وهذا القول يعود إلى اعتقاد قديم يقول، إن الشجرة التي إلى يمين العرش الإلهي ذات الأغصان الكثيفة والأوراق الخضراء الزاهية تضم كل أسماء البشر، فإذا ولد المرء ظهرت ورقته على تلك الشجرة، وإن مرض مال لونها إلى الاصفرار وإذا ما شفي عادت للاخضرار .. وإن أوشك على الموت اصفرت ورقته وحين يموت .. تجف وتسقط مغادرة شجرتها الأم . 29

و ثمة قول آخر عن الميت في الاعتقاد الشعبي حيث يقال: " خلصت ميتو " أي انتهت مياهه،و معلوم أنه في المعتقد الشعبي يتم تنقيط الماء في فم الإنسان المحتضر حتى يبقى ريقه رطباً، وهذا يرتبط برمزية الماء في الحضارة الشرقية والتي هي رمزية خصبة نقيض حالة الموت وهذا ما يستتبع أيضاً إجراء طقس سكب الماء في قبر المتوفي .

الجماجم المقولبة قديماً .. الصور الشخصية حديثاً:

 

الإنسان المعاصر يضع الآن صورة المتوفى العزيز عليه على الحائط لاستمرار تذكره ونوع من دواعي بقائه بين الأحياء أو بالأحرى تمنّي بقاء ذكره.

و هذه المشاعر الإنسانية النبيلة نجد أصداء لها منذ بواكير الحضارة الإنسانية ولكن الأسلوب الفني المُتبع مختلف .

فبالعودة إلى المشرق العربي القديم ومع زمن ابتكار الزراعة في الألف التاسع قبل الميلاد، نجد أنفسنا أمام ظاهرة أُطلق عليها اسم الأرواحية أو تقديس الأجداد، حيث يصار إلى فصل جمجمة الميت عن جسده، وتوضع على جدار المنزل لاعتبارات عقائدية، وهذا ما عثر عليه في موقع المريبط في سوريا وموقع أريحا في فلسطين . 30

و في خطوة لاحقة متطورة عن الأولى، أصبح الإنسان يعالج هذه الجماجم كنوع من التعويض في المستوى النفسي الجمعي، حيث نشأ ما يسمى بالجماجم المقولبة، إذ كانوا يعيدون تشكيل الجمجمة بالجص، ويتم صبغها بما يماثل لون بشرة الإنسان، ثم تُنزّل العيون بالصدف أو القواقع ويرسم على الجمجمة خيوط بنية كدلالة على شعر الرأس .

و قد عُثر على هذه الجماجم المقولبة في مواقع عدة في أريحا وبيسامون ووادي حمار وفي تل الرماد . 31

 

شباط: شهر الندب

إلى الآن، يُعتبر شهر شباط شهر الأموات في المعتقد الشعبي المشرقي .

و علمياً، فنحن نعتقد أن هذا الشهر الذي يوصف بأنه " لبّاط " و" مالو رباط " هو شهر التغييرات وعدم استقرار الفعالية الجوية والطقسية وكونه بعد شهرين شتويين فاعلين هما كانون الأول وكانون الثاني، فإن أجسام الكهول والعجائز تتعب ويحين موعد قطاف أرواحها في شهر شباط .

وحتى الأن، مازال كبار السن في الساحل السوري يتهيبون حضور شهر شباط، لهذا فهم يلزمون بيوتهم طيلة الشهر خوفا من الموت، وحين يرحل الشهر يخرجون من بيوتهم وهم يتمازحون بالقول: راح شباط وحطينا في ........ مخباط .

 ويبدو أن هذا الأمر كان سائداً منذ العصور القديمة بما يعود إلى حوالي الألف الثالث قبل الميلاد، إن لم يكن قبل ذلك . وكان شهر شباط في الوثائق المسمارية يسمى (شهر نهر عبر) وشهر الندب، الجدير ذكره هنا هم أن أحوال المناخ في منطقة الهلال الخصيب لم تشهد تغييرات حاسمة منذ الألاف الثالث قبل الميلاد .

و ثمة أدلة تاريخية تشير إلى أن شواهد القبور هي ابتكار آرامي بامتياز، ففي موقع شمأل في شمال سوريا عُثر على شاهدة قبر ارتفاعها متر ونصف تشتمل على رسومات فنية يُعتقد أنها تختص بحياة العالم السفلي .32

 

يتبع

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1434 الاثنين 21/06/2010)

 

في المثقف اليوم