قضايا وآراء

الموت ومعتقداته الشعبية في بلاد الشام الجذور والديمومة (3)

بالقبر واستخدامه في الحياة الشعبية واليومية، فمثلاً: إذا كان رجل حاقداً على أحد، فليس عليه سوى أن يذهب إلى أحد القبور، ويأخذ حفنة من ترابه ويذروها على راس عدوه يوم زفافه، وهذا بحسب الاعتقاد الشعبي سوف يجعل الإنسان ميتاً تماماً، حيث ينتقل الموت من أموات المقابر إلى الشخص الحي مما سيرديه ميتاً . 33

كما ترى المعتقدات الشعبية أن العبث بالقبور وهدمها أو محاولة إزالتها / لاسيما للرجال الصالحين / سوف يؤدي إلى هلاك المعتدي على حرمة هذه القبور وشلله إلا إذا قدّم أضحية بذبح شاة وتقديمها للفقراء .

و هذا باعتقادنا هو ترجيع لما ذكرته النقوش المسمارية حيث نقرأ:

" من يحطم ألواحي التذكارية .. عسى الإله أن ينسف بلاده بصاعقة مهلكة ويحلّ المجاعة والقحط والعوز والفيضان ببلاده، عساه ألا يدعه يوماً واحداً على قيد الحياة .. عساه يحطم اسمه وذريته إلى الأبد " 34  

 

و لعلنا نلاحظ الآن أن ما يميز الشعائر الجنائزية قديماً وحديثاً  ثلاثة أشياء:

أولها: سكب الماء وهو طقس موغل في القدم .

ثانيها: تقديم الطعام والذبائح كقرابين جنائزية على روح الميت . وهو طقس أيضاً موغل في القدم .

ثالثها: وضع الأغصان الخضراء والآس وأسعف النخيل والورود على قبر المتوفي باعتقاد أنها ترطب جو القبر الموحش والجاف .

و نحن نعلم رمزية اللون الأخضر في أنه رمز للخصب والحياة والربيع، حتى أن الاعتقاد الشعبي يصف العروس أثناء زفافها إذا نزل المطر بأن " إجرها خضرا " أي قدمها خضراء  في دلالة على الحياة والخصب .

 

و تستخدم أفرع شجرة النخيل في مواكب الدفن، وعند زيارة القبور وفي تزيين المقابر .

و تجمع الدراسات أن شجرة النخيل عند الفينيقيين كانت شجرة الحياة لا بل وتمَّ توحيدها مع جنة عدن في ذهنيتهم ومع رمز الخصب عشتار، كما أن هذه الشجرة كانت شجرة العائلة لدى شعوب مصر والهلال الخصيب والجزيرة العربية .

و تشير المعطيات إلى أن العرب قبل الإسلام عبدوا شجرة النخيل حيث كان في نجران شجرة يقام لها عيد سنوي . 35

و تتضح رمزية شجرة النخيل في المستوى الثقافي والأنثربولوجي في علاقتها بالموت ثم الانبعاث أو بتوالي الولادة والاستمرار .

و قد أطلق على النخلة اسم العنقاء باعتبارها إذا ما سقطت بسبب  الشيخوخة فلسوف تنمو من جديد خضراء يانعة كما كانت . وتذكر أساطير بعلبك أن طائر الفينيق أو طائر النخيل كان يحجّ إلى هليوبوليس أو بعلبك ليموت فيها ثم يعاود الحياة من جديد .( 36)

إن هذا الاعتقاد ضمن الذهنية المشرقية يشكّل كما أسلفنا تعويضاً عن حتمية الموت عبر الموت والانبعاث الذي يشكّل رائزاً من روائز الثقافة الزراعية .

 

في بعض المأثورات والقوال الشعبية حول الموت:

تحفل الذهنية الشعبية في الهلال الخصيب بشتى المأثورات والأقوال والحكم والأمثال عن الموت وعالمه، منها ما يستمد جذوره من الماضي ومنها ما هو مستحدث .

فهناك مَثَلٌ يقول: " مَن خلّف ما مات " بمعنى من له أولاد لم يمت لأنه مستمر بهم .

و هذا نجد جذوره في ملحمة جلجامش حين سأل جلجامش إنكيدو / اللوح الثاني عشر / عن مصير من له ابن واحد أو اثنان .. وهكذا، حيث يبدو أن مصير الميت جميل إن كان له أبناء كثر . 37

" من غير هاليوم " أي من غير هذا اليوم:

تقال في معرض التحدث عن شخص متوفي وحين يرد ذكر الميت يقال من غير هاليوم، لئلا يموت الرجل المُخاطَب .

" فوق الموتة عصّة القبر " أي فوق الموت ضيق القبر، وتطلق على من تكثر في حياته المصاعب ولا يستطيع الانفكاك منها، حيث تمّ استعارة هذه الصورة من عالم الموت .

و أطلق على الموت تعبير: ساعة الغفلة .. وموت أحمر، تعبير عن الموت الدموي .

و في باب الحكمة نقرأ: " بني آدم ما بملّي عينو غير التراب " وهذا يقال في وصف الانسان الطماع بالحياة ومتاعها . و" ما حدا آخد معو شي " .  

إن هذه المقارنة تعتبر مدخلاً لدراسة أشمل وأعمق حول ظاهرة الموت في المعتقد الشعبي العربي بعامة والمشرقي بخاصة ..

و لعل ما يمكننا التوصل إليه من بحثنا هو إن الموت حتمي على البشر وقدرنا أن نحيا حياة تليق بعبورنا إلى الحقيقة السامية .. المُطلقة في آن .

 

[email protected]

 

......................

الهوامش

1- د. نائل حنون - عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد وادي الرافدين القديمة . وزارة الثقافة - بغداد - ط2 1986 . 

اللوح الثاني عشر من " ملحمة جلجامش " ص 343 .

2- الموت في الفكر الغربي - سلسلة عالم المعرفة - الكويت .

3- المرجع السابق .

4- المرجع السابق .

5- د. بشار خليف - دراسات في حضارة المشرق العربي القديم - مركز الإنماء الحضاري - حلب - سوريا - 2004 . ص 152

6- د. سلطان محيسن - الصيادون الأوائل - دار الأبجدية دمشق 1996 .

7- للمزيد من التفصيل يمكن مراجعة مؤلفنا دراسات في حضارة المشرق العربي القديم .

8- كارل ساغان – تنانين عدن – ترجمة نافع لبّس – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1996 .

9- د. سلطان محيسن – مرجع سابق .

10- المرجع السابق .

11- روجر موشيلي – العقد النفسية – ترجمة وجيه أسعد – وزارة الثقافة – سوريا 1985. ص 70

12- كارل غوستاف يونغ – علم النفس التحليلي – دار الحوار – سوريا 1985 .

13- محمد توفيق السهلي – حسن الباش – المعتقدات الشعبية في التراث العربي – دار الخليل – سوريا .( بلا تاريخ ) . ص139 .

14- 15- د. نائل حنون – مرجع سابق – الدفن والشعائر الجنائزية ص 274

16- المرجع السابق – ص 278 .

17- المرجع السابق – ص 281 .

18- المرجع السابق – ص 282 .

19- محمد الجوهري – علم الفلكلور – ج2 – دار المعارف – القاهرة – ط1 1980- ص 553 .

20- د. عبد الحميد يونس – الحكاية الشعبية – المؤسسة المصرية للتأليف والنشر – دار الكاتب العربي – 1968 – ص 46-47 .

21- د. نائل حنون – مرجع سابق ص 216 .

22- د. نائل حنون – مرجع سابق ص 110 .

23- 24- د. نائل حنون – مرجع سابق 288 .

25- المعتقدات الشعبية – مرجع سابق ص 203 .

26- ألكزندر هجرتي كراب – عالم الفلكلور – ترجمة رشدي صالح – وزارة الثقافة – القاهرة – 1967 ص 156 .

27- قاموس الكتاب المقدس – مكتبة المشعل – بيروت – ط6 – 1981 ص 959 .

28- د. إبراهيم بدران – د. سلوى الخماش – دراسات في العقلية العربية – الخرافة – دار الحقيقة – بيروت – ط3 – 1988 ص 291 .

29- المعتقدات الشعبية . مرجع سابق .

30- د. سلطان محيسن – مرجع سابق .

31- جاك كو?ان – الألوهية والزراعة – ترجمة موسى خوري – وزارة الثقافة – دمشق 1999 .

32- د. علي أبو عساف – الآراميون – دار الأماني – سوريا – 1988 .

33- المعتقدات الشعبية – مرجع سابق ص 167 .

34- د. نائل حنون – مرجع سابق – ص 156 .

35- شوقي عبد الحكيم – مدخل لدراسة الفلكلور والأساطير العربية – ص59 – 1982 .

36- المرجع السابق – ص336  

37- د. نائل حنون . مرجع سابق .

        

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1436 الاربعاء 23/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم