قضايا وآراء

أوفيد العصر وتجربة الشعر المطلق في قصائد النور أو القصائد العذراء

أعدكم هنا أنكم ستدخلونها جميعا لكن من بوابة السحر والحب والجمال هي جنة من فردوس الشعر المطلق وجنائن كلمات من سحر البيان المعتق، إلى كل نفس تواقة للحب والسحر

 والجمال هذا هو طريق الجنة وهذا هو عنوانها . صراطها المشي على أطراف أصابع الحب في اتجاه السفر نحو وجه الله المتجلي نورا. وإن كانت تهزكم رغبة لرؤية الله فما عليكم سوى امتطاء صهوة حصان شعر الشاعر أليس أمام الله طرق عدة للتجلي ومن بينها التجلي في الطبيعة أو بواسطة الشاعر كما يقول هيجو؟

 

تخيلوا أنفسكم الآن واقفين أمام هذه الجنة تنتظرون دوركم في العبور، طبعا لن يكون العبور على طريقة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران أو دانتي في الكوميديا الإلهية أو فريد الدين العطار في منطق الطير بل عليكم أن تخلعوا نعالكم الشعرية المتهرئة البالية من فرط الانتعال وأن تضعوا مكانها أجنحة الملائكة. فهذا العالم يحتاج لا السير على الأرض بل الطيران والتحليق عاليا في السماء وبعد أن تنزعوا نعالكم أمام معبد الشعر عليكم أن تتوضئوا بنور هذه الكلمات وأن تغتسلوا بسحرها طهارة شعرية استعدادا للصلاة في محرابها..

 

   لما تستغربوا هذا؟ وهي قصائد ملائكية عذراء لم يطمثهن مخيلة شاعر إنسي أو جان بل هن حوريات وملك يمين شاعر كثيرا ما رقصت عرائس البحر على ناي شعره واتبعت جنيات الأساطير خطوات نشيد كمنجاته الذارفة لدموع الحب فرحا . إنه الشاعر الكوني أوفيد العصر في رحلته الأوديسية منير مزيد وهو يترنح صوفية وعشقا إلهيا يهذي عبقرية لسانه جنونا ساحرا سحريا وإليكم بعض ما من هذيانه العبقري :

 

قصائدَ ملائكيةً تشرَبُ ضوءَ الأحلامِ

تقفُ الشمسُ مسحورةً على ظلالِها

و النجومُ صامتةً تغرقُ في بُحيراتِ الشِعر

كلُّ شيءٍ يلمَعُ في السماواتِ الناعمة

الجمالُ .. السحرُ والحبُ

أنتِ يا حبيبتي

 

ألم أقل لكم أنها "قصائد ملائكية عذراء" تتطلع إلى عالم مضاد قوامه ثلاثي " الجمال والسحر والحب ..." ثلاث أقانيم "  تذكرنا بثلاثية ' "الأب"، "الأم" و"روح القدس" فالجمال " امرأة و"السحر" " إلوهية " والحب ثمرتهما، أو إن شئنا على غرار المثالية الأفلاطونية المجسدة في ثلاثية "الحب والخير والجمال". ومن هنا نفهم معنى انصراف تجربة الشاعر في قصائد النور إلى عالم الروح قوامها لغة ارتوت من نبع كلمات نقية معطرة متحررة من قيود لسانية شاحبة

 صفراء . أكاد لا أرى إلا نورا يقف ركوعا وسجودا على سجادة من ضوء في يده مسبحة من لؤلؤ الكلمات تسبح جمال الحب وسحره، وما تراص كلمات من مشتقات النور إلا دلالة على هالة السطوع التي يحملها عرش قصائد النور فنجد عبارات "الضوء، الشمس، النجوم، يلمع" وهي كلها تنتمي إلى نفس المعجم الدلالي المتعلق بانتشار أنوار القصيدة وزحفها على ظلام الكون تلفظ روحه الميتة لتحل محله عالما من الحلم والخيال .

 

فهل نحن بصدد شاعر متمرد لا يقبل بعالم إلا من صنع أجنحة خياله ؟ ربما علينا أن نقبل بجواب الشاعر الإسباني الكبير " خورخي لويس بورخيس في جوابه عن سؤاله التالي " ما الذي يعنيه أن أكون كاتبا ؟ يجيب لوبرخيس "يعني ببساطة أن أكون مخلصا لمخيلتي " . وهذا ما سنقوله نفسه عن الشاعر فماذا يعني أن تكون شاعرا؟ إنه يعني أن تكون مخلصا لمخيلتك وهذا ما ينطبق على الشاعر الكوني منير مزيد إنه مخلص تمام الإخلاص لمخيلته الراكضة في جسد إستيطيقا الروح متحديا ركام الغبار الذي اعتلى ذاكرة البشرية فغطاها بنسيان الحب والجمال والسحر وها هو يمشط ذاكرتها المنعشة بشراب الشعر " المعتق سحرا " عسى تستفيق من غيبوبتها الجمالية عن الكون ويبث فيها حلم الأنبياء بالخلاص.

 

إنه يثأر من قبح العالم على طريقته الشعرية المزيدية العشقية الغاصة برؤى الأنبياء متكئا على أجنحة شعره يحاول أن ينفث روح الحب في عالم لم يبق فيه من حلم سوى حلم المغادرة والرحيل والسفر فيما وراء سفوح العدم وقمم المجهول يركل جثة العالم الممددة أمامه بأوركسترا من قصائد الشعر المعتق البالغة 25 قصيدة أو ربع قرن قصيدة إنها سنة اكتمال نضج الشباب "شباب القصيدة" وربما هذا العدد لم يكن عبثيا بل مقصودا لأن عادة ما يقترن سن الخمسة والعشرين بأحلى وأنضج مرحلة من مراحل عمر الإنسان ويقود هذه الأوركسترا الشعرية العذبة كينبوع ماء صاف مقدس عازف ماهر أتقن أصول العزف المنفرد على كمنجات شعره التي " تغني لمجد الحب" على حد قول الشاعر نفسه :

 

يتكئُ على أجنحةِ الشعرِ

مُنطلقاً

يبحثُ عن الفردوسِ المفقودْ

 

إنه شاعر يرى رؤية الأنبياء تلاحقه أطياف الملائكة وتودع سر الكلمة المقدسة في خياله فتصبح لديه حالة وجد وتوحد روحي ونوع من الحلول الصوفي في الذات الإلهية هذا الحلول جعله شاعرا يوحي إلى العالم بالحب والجمال لا يوحى إليه وكيف تريده أن يوحى إليه وما علمه أحد السحر وما ينبغي بل هو من يحاول تعليم العالم سحره عبر تشكيل رؤيته الفنية الإبداعية المبنية مرة على ذاكرة الألم والتهجير والحزن، والمنفلت أخرى من مقابر الفزع إلى ملكوت الله حيث تصير القصيدة "قصيدة أرجوانية " مزيدية الروح والمبنى كنعانية المنبت لا تشبه قصائد الأرض كلها لأنها وحي السماء ترتيلة الله وتسبيحة الملائكة تتغنى عبقريتها المزيدية كما يلي :

مِن ذروةِ الرَمادِ

ينبَعِثُ حيّاً

طائرُ فينيقِ القصيدةِ الأرجوانَّيةِ

يُرفرِفُ حوريةً ساحرةً

حُرةً في سماءِ الشعرِ

لا تُشبٍهُ القصائدَ

مزيديَّةَ الروحِ

كنعانيَّةَ الألوانِ

كلماتُها مِن سَقسَقةِ السماءِ

و المَطرِ

حولَ ظلالِها

يرقُصُ الكونُ ثملا

أعجوبة إلهية بل آية من "آيات الله" وكأننا أمام شاعر في سباق محموم مع الزمن بيد شعره يبيد عالما مدنسا بأشلاء القبح ورائحة الحقد والكراهية وعفونة ذات تلبست بثياب القتامة وأعلنت الحداد الكلي على الحياة وهذا ما يظهر في كثير من المقاطع الشعرية حين يتحدث بصيغة الذات المفردة وهي تسرد رحيلها وترحالها الموشم بداء الغربة ولهاثها الفوق بشري في دهاليز التيه

 وعذابه في انهماك شعري قل نظيره ممتطيا صهوة حصان الشعر ولكنه ليس حصانا شعريا مألوفا بل حصانا طائرا بأجنحة من دمقس الخيال حاملا على أكتافه الشعرية أهرامات من قصائد الضوء والنور يحاول من خلالها ترويض آيائل الكلمة المقدسة المشفرة بألغاز الكون يفك شيفرته الحضارية منذ "عشتار القصيدة" وهو يحارب تهجير بساتين اللوز و" سنابلّ الثورةِ والحُبِّ" و" فراشات الحلم" وكل المجازر التي ترتكبها "جيوش الريح" في قصيدته التالية حين يتحدث الشاعر بلغة تشع إنزياحات لغوية عن "جيوش الريح" التي لا تمل عن مطاردته رغم أنها لا تعدو أن تكون عدما بما أن الريح هي غير مرئية فهذه الجيوش إذن تدعي الفعل والقدرة على أن تطبق على ذات وأنفاس شعر الشاعر وهي تنسى كونها عدما لا مرئيا كسراب لا يحمل أي أمل للارتواء من العطش

.

كل شيء يهذي باسمكْ

أنا المسافرُ في صحارى الحزنِ

لا أحد معيْ

غيرَ ظلِّ حلمٍ لامعٍ

يَتهادى على سقف الرملِ

يُرشدني إليها

خلفي جيوشُ الريحِ

تخيِّمُ في حُلمٍ فارغٍ

تطهو حكايتي بتوابلِ الزيفِ

حولي

طيورٌ بيضاءُ تتجوَّلُ في قلبي

تَغُوصُ في أعماقِ الصمتِ المقدسِ

فوقي

أُمُّ الحلمِ في غابةٍ مليئةٍ بالنجومِ

تجمعُ حطبَ كلماتي

لتدفئ صيصانَها

تعلمُ أنني أقوى مِن الموتِ

الذي يركض خلفي

أكثرَ صبراً من القَدَرِ الظامئِ

الذي يهرع للماءِ

حبيبتي

أنا نشوةُ وألمِ الروحْ

لـ بحرٍ ثائرٍ فوق السماءِ

علَّمَ حزني الغناءَ

قبل شروقِ الحبِّ في سمائهْ

أسْكَنَ عصافيرَ الشعرِ في ذاكرتي

شهيةٌ أنتِ يا حبيبتي

قصيدةُ حبٍّ

لا أريدُ أن تنتهيَ

حتى لا يُفيقَ الكونُ

من تأثير سحرِ الحبْ

 

أما اليد الشعرية الثانية فهي " يد بنائية تنزع إلى إقامة عالم مقدس على أنقاض ذلك العالم المدنس لتأذن بانبعاث جديد وقيامة جديدة تبشر بميلاد قيم جمالية خالدة ولذلك تجد ديوان الشعر المعتق سحرا يتشبع بدلالة تغرف من رمزية السحر والمقدس والحب والجمال ويحتشد معجما لغويا يفيض بمعان مشتقة من مترادفات "الضوء، النور اللمعان والإشراق، الاشتعال، الجمر، النار وحتى الظل هنا هو دلالة على الضياء لا الظلمة لأن الظل هو ظل الله وكل ما يصدر عن الله فهو نور وإشراق وكأننا أمام نظرية الفيض والصدور الأفلاطونية الإشراقية حيث كل شيء يصدر عن الله يضيء منه وينطلق ويعود إليه وكل شيء يوحي بلهب الحياة وإستمراريتها وأبديتها حتى القصيدة ذاتها نحت سماوي بأنامل إلهية تمكنت الروح الديونزية المتمردة لذات الشاعر من قطفها من جنان الخلد من " عرش الضوء " ولنتأمل مدى فردوسية وعجائبية القصيدة المزيدية النابضة بسحر العاطفة وتوهج شاعرية الحب الذي ليس كمثله حب في قصيدته "عرش الضوء " حيث سرمدية الحب وعذرية الأحلام الشعرية وسحرها الشرقي المتيم بحب الأساطير العالمية

و المغرمة بانفتاحها على التجارب الحضارية الإنسانية المتنوعة

حبـيبـتي

في سرمديةِ هذا الحلمِ المبللِ

بعطرِ أنفاسكِ العاصفةِ بالحبِّ

أتنفَّسُ سحرَ الشعرِ الصافي

أراني أعبرُ طرقَ الروحِ السريةَ

حاملاً عذريةَ السحرِ والإلهام

جنونَ الكونِ

هذيانَ الريحِ

و شدوَ البلابلِ

طائراً في فردوسِ الحكمةِ المقدسةِ

أَسْحبُ البحرَ من عمقِ السماء

فاصلاً بين الماء والملح

أعتلي العرشَ دونهم

أبـذرُ بذورَ أزهارِ الحبِّ

في رحمِ الطبيعةِ

و في الفضاءِ الأثيريِ

أنثرُ جداولَ الضوءِ

 

ربما علينا أن نلخص في ختام هذه المقاربة المتواضعة لتجربة شعرية عظيمة فاقت كل حدود العقل البشري أن القصيدة المزيدية ليست فعلا طارئا أو حدثا عارضا داخل التجربة الشعرية الحضارية الإنسانية بل هي عمودها الفقري وأحد الحلقات الكبرى التي ينبني عليها الشعر العالمي وقصيدة النثر الكونية تقيم خارج أسوار مدن الشعر المألوفة بما تكتنزه من تنوع في الإيقاع وما تحتويه من قاموس فيروزي من لغة تعبق بالنور والروح وتنوع في الصيغ البنائية الإشراقية تغري بقراءة أكثر عمقا وتحرض على الغوص البعيد في متونها السحرية النائية عن كل تقليد تحركها انبثاقية حلم حر ووعد بالعودة والانتصار ولعل لهذا الشأن العظيم الآتي والمحقق كتب الشاعر قصيدته " رقصة العودة والإنتصار " مرتلا حلم عودته بما يلي

 

مُشتعلا ً بالنبوءات

عودةِ النوارس لعُشِ الأساطيرِ

زيتُهُ العشقُ والشعرْ

حالِماً

يرى حوريَّته الكنعانيةَ

على جَناحِ الأفقِ المسحورِ

في سماءِ الشعرِ اللازورديِّ

المُشبَّعِ بالسحرِ والألغازِ

تتأهَّبُ للرقصِ في بهارجَ ذهبيةٍ

رقصةِ العودةِ والانتصارْ

 

لتظل فنتازيا الشاعر تبحث عن ناقد ذكي يجترح عمق القصيدة ذهابا وإيابا يحفر تضاريس مخيلتها ذات الرؤية الخارقة والأنامل الساحرة ويهتك سر ألوانه فلا غرابة أن يسمي الشاعر إحدى قصائده " القصيدة العذراء" بل إن كل ديوان " السحر المعتق بالعشق" هو قصائد عذراء من حيث الجمالية الشعرية لأنها لم تخطر على لسان إنس أو جان فهي قصائد فريدة من نوعها تحتاج لمن يراها مرة بعين الأرض التي تغادر الأرض ومرة بعين السماء التي تتوق للاستقرار فيها أو كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله "بعين على الأرض " وعين على السماء

 

وقارئ شره يفترس عذوبة السحر وشهوة الجمال وصدق الحب وفتنته قبل أفول شمس الشعر قارئ يفهم معنى أن يخاطب الشاعر الحالم القادم من بلاد كنعان الشرق " الحلم " ويخاطبه على هيئة بشر مفعم بشهوة التقبيل تقبيل حبيبته البعيدة القريبة فلسطين تلك الكلمة السر والسحر المقدس ومفتاح القصيدة المزيدية 

 

وأنت أيها الحُلمُ

تمضي بك الأيامُ في قارَبِ الشعرِ

في النورِ الساطعِ مِن أصابعِ اللهِ

لـ ترسوَ على شواطئَ تشتهي حضورَكَ

وأنا أمضي معكَ

عاشقاً

في فضاءاتٍ سحريةٍ حول الروحِ

أشتهي لمسَ شفاهِ حبيبتي

 

إنها في عبارة موجزة الكلمة التي تتصدر عرش القصيدة في رحلة شعرية سيطرت فيها الأفعال المضارعة حيث لا زمانية سوى زمانية الوصل المستمر في اتجاه الأبدية وتلك هي حكاية الشعر " السحر المعتق بالعشق " تجربة شعرية فريدة في البناء الدرامي والفني  ومن نوع آخر ذات وجه سماوي قوامها التوهان إستقرارا في ملكوت الله إلى أن يقضي أمرا كان مفعولا حين يعود كل شيء إلى الحياة على حد قول الشاعر الكوني منير مزيد " كلُّ شيءٍ يعودُ للحياةِ

 

الأحلامُ

الحبُ

الشعرُ

و الإنسانْ

 

سلمى بالحاج مبروك

شاعرة وأستاذة فلسفة / تونس

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1479 الجمعة 06/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم