قضايا وآراء
الفيلسوف سبينوزا واليهود والتوراة والشريعة اليهودية / جعفر هادي حسن
حيث يتبوأ موقعا مركزيا في تاريخها وتطورها. ولأهميته في تاريخ الفلسفة الأوربية قال عنه الفيلسوف المعروف "هيجل"(ت 1831) إن من يريد أن يكون فيلسوفا لابد له أولا أن يقرأ سبينوزا" .كما أن اليهود يعتبرونه اشهر فلاسفتهم على الاطلاق، وهم أعادوا الإعتبار له في الفترة الأخيرة، بعد أن أفتى حاخاموهم بإخراجه من اليهودية، وامروا اليهود أن يتحاشوه ويتخلوا عنه كما سنذكر فيما بعد . ويختلف سبينوزا عن الفلاسفة اليهود الآخرين في أنه تحرر من فكرة التفرد والإختيار التي أضفوها على الشعب اليهودي، والتي تمسكوا بها ولم يتخلوا عنها عند معالجتهم لقضايا فكرية عامة، أو قضايا تتعلق بالوجود ومستقبل الإنسان. وخرج سبينوزا من هذا النطاق الضيق، نطاق فكرة الإختيار إلى عالم أرحب وفضاء وأوسع،أعطاه حرية أكثر في التفكير والتنظير. وكان من نتيجة ذلك أن خالفت آراؤه آراء اليهود بل وانتقدتها، حيث أحدثت ردود فعل في حياته لدى الحاخامين والمؤسسة الدينية على الخصوص. وعلى رأس هذه الآراء التي أثارت حفيظة الحاخامين وسخطهم، تلك التي تتعلق بالتوراة وطبيعة أسفارها ومحتوياتها وجمعها وتاريخها، وكذلك أراؤه التي تتعلق بالشريعة اليهودية وبفكرة الشعب المختار. وبسبب ذلك أصدرت المؤسسة الدينية ردا على هذه الآراء قراراً دينياً بطرده من اليهودية (حِرم بالعبرية). وسنركزهنا على آرائه التي تتعلق بهذه الموضوعات دون التطرق إلى تفصيلات فلسفته ونظرياته فيها. وقبل ذلك يكون من المناسب أن نذكر شيئا عن حياة سبينوزا وشيئا من نشاطه العلمي .
ولد باروخ (بندكت) سبينوزا في امستردام – هولندا في العام 1632م أو عام 1634م لعائلة يهودية من المرانوس (الذين أجبروا على التحول إلى الكاثوليكية في أسبانيا والبرتغال)، كانت قد هربت من البرتغال أو أسبانيا واستقرت في هولندا، بعد رحلة خلال فرنسا. وعند وصول العائلة إلى هولندا أشهرت يهوديتها كما فعل الكثيرمن المرانوس الذين هربوا من محاكم التفتيش ووصلوا إلى هولندا أو غيرها من البلدان التي يشعرون بالحرية فيها. وأصبح أبوه وجده أعضاء كبارا في كنيس معروف. وكان أبوه تاجرا ثريا، وصاحب نشاط في الجالية اليهودية. وفي السادسة من عمره توفيت أمه وعند بلوغه سن الدخول الى المدرسة، أدخلته عائلته مدرسة خاصة بيهود البرتغال واسبانياً. وفي هذه المدرسة درّسه اساتذة يهود مشهورون من الذين كانوا مرانوس سابقين، منهم الحاخام منسّه بن اسرائيل،( الذي كان قد اقنع كرومويل حاكم انكلتلرا في هذه الفترة بارجاع اليهود الى بريطانيا، إذ كان اليهود قد طردوا منها العام 1290م). وكان منسه بن اسرائيل من أبرز زعماء اليهود في وقته وأشهرحاخاميهم في هولندا. وكان من أساتذة سبينوزا الحاخام والشاعر اسحق أبوب فونسيكا، الذي كان أول حاخام يذهب إلى البرازيل، ويعتقد أنه كان من أتباع القبلاه ومن أتباع شبتاي صبي المسيح الدجال أيضا. وكان استاذه الثالث شاؤول ليفي مورتيرا،وكان حاخاما وعضوا في المحكمة الدينية التي أصدرت طردا من اليهودية بحق سبينوزا فيما بعد(1) .
وليس هناك تفصيلات عما درسه سبينوزا في هذه المدرسه، ولكن لأن المدرسة كانت يهودية فلابد أن يكون قد درس شيئا من التلمود والتوراة وبعض شروحهما، يدل على ذلك النصوص الكثيرة التي يقتبسها من المصادر اليهودية الرئيسة في كتبه. وذُكر كذلك أنه درس تاريخ بعض الشخصيات اليهودية وأعمالها مثل موسى بن ميمون (ت 1204م) وابراهام بن عزرا (ت 1164م).وهما عالمان يهوديان مشهوران بين اليهود كانا قد ولدا ودرسا في الأندلس، ثم هاجر الأول إلى مصر فيما بعد وعمل واستقر فيها .
وعرف هذان العالمان إضافة الى كونهما فقيهين، بآرائهما الفلسفية، واشتهر الأول بمحاولاته في الجمع بين الشريعة والعقل بعد أن قرأ الفلاسفة والمتكلمين المسلمين وتأثر بهم. ويبدوذلك واضحا في كتابه موره نبوخيم (دليل الحائرين)* وعرف الثاني برأيه بالقول بوحدة الوجود. وقد عزي له القول"إن الله واحد وهو في الكل وانه في كل شيئ وكل شيئ فيه" واشتهر سبينوزا فيما بعد ايضاً برأيه القائل بوحدة الوجود حيث يرى أن كل الأشياء في العالم هي تجليات للرب . وجعلت آراء هذين الشخصيتين وغيرهما سبينوزا يتساءل عن بعض المسائل ويبحث لها عن حل. وذكر مؤرخو حياته أنه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، تجرأ وقدم مجموعة من الأسئلة تنطوي على شكوكه الى استاذه مورتيرا. وأثناء دراسته وجد سبينوزا ميلاُ في نفسه لدراسة الفلسفة. ولما لم تكن مدرسته توفر له ذلك، التحق بمدرسة أحد الأساتذة المعروفين،اسمه فرانسسكوس فان اندن. وكان هذا طبيباً ولغويا أيضاً، وينتمي الى جماعة مسيحية لا ترتبط بأي كنيسة معروفة، وليس لها رجال دين.(2).وقد أصبح أستاذه هذا صديقه القريب له فيما بعد. وكان هذا الاستاذ يدرس بعض الطلاب من ابناء الطبقة الراقية في امستردام. ودرس سبينوزا مع أستاذه هذا موضوعات كثيرة منها الرياضيات والفيزياء والفلسفة، خصوصاً فلسفة ديكارت، ودرس اللغة اللاتينية كذلك إذ لم يكن اليهود يدرسونها لاعتقادهم أنها تؤدي الى الهرطقة، وكانت المشرفة على تدريسه في هذه اللغة ابنة استاذه ولاندري فيما إذ كان قد درس لغات أخرى فهو كان يعرف إضافة إلى الأسبانية والبرتغالية واللغة العبرية الإيطالية والفرنسية . كما يعتقد انه درس شيئا من الطب مع استاذه الذي ذكرناه.
وباختلاطه مع الطلاب المسيحيين، اطلع على وجهات نظر أخرى، وأفكار جديدة لم يكن اطلع عليها قبلاً، إضافة الى تأثير استاذه عليه. وتميز سبينوزا عن بقية الطلاب خلال دراسته بذكائه وجده، فأعجب به كثير من الطلاب، وتحلق حوله منهم يهود ومسيحيون. وأخذ يبوح بآراء جديدة ويجهر بها، منها قوله إن عمل الإنسان يجب أن يتفق مع العقل، ولما كان الكثير في الشريعة اليهودية الحالية لا يتفق مع العقل، فلا بد وأن يكون هذا من صنع البشر، وليس وحياً أوحي به الى موسى، وهو شكك أيضا في أن يكون موسى قد كتب التوراة، وقال إن الناس هم الذين كتبوها من بعده كما سنذكر. وشكك فيما إذا كان للتوراة الأولوية على القانون الطبيعي (3) ولما كانت هذه قناعته نحو الشريعة اليهودية، فقد قال إنه من غير الصحيح أن يطبق الشعائر والطقوس اليهودية، لأن ذلك سيكون نفاقاً وهو لا يريد أن يطبق شيئاً لا يعتقد به، فترك حضور الكنيس وتطبيق شعائر السبت والمناسبات الدينية الأخرى، وأخذ يخالف أحكام الكشروت (الحلال والطاهر من الطعام وغيره ). كما نسب اليه أنه كان يشك في أن آدم هو الإنسان الأول وراح يؤثر بأفكاره هذه على طلابه، الذين أخذوا يدرسون على يديه . .
سبينوزا والحاخامون
وعندما عرفت المؤسسة الدينية اليهودية بافكار سبينوزا هذه، أصابها القلق مما سمعته عنه، فقد كان رجالها يأملون منه خيراً، لما عرف عنه من ذكاء وموهبة، قبل أن يعرفوا آرائه هذه. وكان أكثر ما يخشونه أن يترك سبينوزا اليهودية ويتحول الى المسيحية، ويستغل مواهبه للهجوم عليهم وعلى الشريعة اليهودية، وتكون حاله كحال الكثير من اليهود الذين تحولوا إلى المسيحية، وانضموا الى الكنيسة حيث أخذ بعضهم ينتقد اليهودية ويهاجمها. وكان أحد هؤلاء من أقرباء سبينوزا واسمه دون دياغو دي سبينوزا حيث كان مسؤولا كبيرا في محاكم التفتيش في أسبانيا.
وحاولت المؤسسة الدينية اليهودية في البداية أن تعامله بلطف وود ومن دون أذى، فدعته إليها وكلمته عن آرائه وعما إذا كان ما نسب إليه صحيحاً، فأقر بذلك ولم ينكره، بل ودافع عنه وقال لهم ان له الحق في حرية الرأي والتفكير
وأشهدت المؤسسة على ما قاله شهوداً، ومع ذلك لم تطبق عليه أحكام الشريعة اليهودية آنئذ كالطرد من اليهودية كي لا يكون ذلك سبباً في انضمامه الى المسيحية. وحاولت بعد ذلك أن تغريه بالمال، فأرسلت مع أحد أصدقائه رسالة تعرض عليه مبلغاً كبيراً من المال ينفق عليه طوال حياته، إذا هو حضر الكنيس بين الحين والآخر، وتوقف عن نقد اليهودية والحاخامين، وأبقى أفكاره لنفسه دون أن ينشرها بين تلاميذه أو بين المحيطين به. ورفض سبينوزا هذا العرض وأصر على حرية رأيه واستمر يجاهر بأفكاره ويدرسها لطلابه. وعندها ساءت علاقته بالمؤسسة الدينية وعُرف بين اليهود بآرائه التي يخالف بها معتقدات بقية اليهود. وقد ذكر –دون دليل- بأن أحد اليهود المتعصبين حاول اغتياله بسكين ولكن المحاولة كانت فاشلة.(4) ولكن ليس بعيدا أن يكون هذا قد حدث وبفتوى من الحاخامين، إذ جوز هؤلاء اغتيال من يعتبرونه خارجا عن اليهودية ومرتدا عنها،عقابا له على ذلك. وفي تاريخ اليهود عدد من الحالات الموثقة . ولما لم تجد المؤسسة الدينية تغيرا في آرائه، أصدرت بحقه طرداً "حرم" من اليهودية بتاريخ 27تموز في العام 1665 أمام جموع اليهود، وبحضور نسخة من التوراة كما هو متعارف عليه. ومن المفيد أن نذكر نص الحِرم.وهو قد جاء على الشكل التالي مسبوقا بمقدمة
"نحن رؤساء الطائفة اليهودية نعلمكم بالتالي: إننا لفترة طويلة كانت لنا معرفة واطلاع على الآراء والأعمال الشريرة لسبينوزا. ونحن من خلال وسائل عدة، حاولنا أن نقنعه بترك طريقه هذه، ولكننا لم نجد تغيراً نحو الأفضل في افكاره المنحرفة والفاسدة، التي يعتنقها ويدرّسها. وكذلك الأعمال المشينة التي ارتكبها، والتي كانت تصلنا معلومات عنها في كل يوم من شهود موثوقين. وكان الشهود قد أدلوا بشهاداتهم بحضور سبينوزا نفسه، وبحضور حاخامينا الذين أيّدوا ذلك. ولذلك قررنا وبمصادقة حاخامينا، أن المذكور يطرد ويعزل من بيت بني إسرائيل، ونحن الآن نعلن نص الطرد التالي (من اليهودية) عليه:
إنه طبقاً لقرارات الملائكة وأحكام الأولياء، فإننا نحرم باروخ سبينوزا ونطرده (من اليهودية) بتأييد الإله وموافقته وكل جماعة إسرائيل. وحصل هذا بوجود كتاب شريعتنا المقدسة التي تضم الاوامر والنواهي الـ613. ونحن نحرمه كالحرم الذي فرضه يشوع بن نون على مدينة أريحا ونلعنه كلعن النبي اليشع على إليشاب. وبكل لعن مذكور في الكتاب المقدس. وليُلعن سبينوزا في الليل وليُلعن في النهار، وحين ينام وحين يصحو، وسوف لن يغفر له الله، وان غضب الله وسخطه سيكونان دائماً على هذا الرجل. وسيأتي الله بكل اللعن المذكور في كتاب الشريعة عليه، وسيُمحى اسمه من تحت السماء. ولنيته السيئة، فإن الرب سيقضي عليه من بين أسباط بني إسرائيل.(وسيلعن) بكل لعنات السموات المذكورة في الكتاب المقدس. وأنتم الذين تتمسكون بالإله الرب، ستحيون اليوم والى الأبد. ونحن نعلن الآن، بأنه لا يجوز لأحد أن يتصل به بشكل مباشر أو بواسطة الكتابة. ولا يجوز لأحد أن يزامله أو أن يقضي له حاجة، أو يريه أي نوع من الرحمة، أو يسكن معه تحت سقف واحد أو أن يقرب منه لمسافة أربعة أذرع. ولا يجوز لأحد أن يقرأ مؤلفاته مطبوعة أو مخطوطة".(5)
ولم يكن سبينوزا حاضراً عندما قرئ نص"الحرم"، وعندما سمع به لم يكترث أو يهتم، ولذلك فإنه لم يحاول أن يصطلح مع المؤسسة الدينية، بل انه كتب إلى رؤساء الجالية مدافعا عن آرائه وأعماله. ولكن المؤسسة الدينية اليهودية لم تقبل دفاعه، بل طلبت من مسؤولي أمستردام أن يصدروا أمراً بنفي سبينوزا من المدينة الى الأبد.(والطرد من المدينة هو أحد أنواع العقاب الذي استعمله الحاخامون سابقا بحق اليهودي الذي ينتقد اليهودية أو الحاخامين). وبعد مناقشات بين هؤلاء ورجال الدين المسيحيين، قرروا أن ينفوه لأشهر عدة، فغادر سبينوزا المدينة وذهب واستقر في "ريجينزبرغ" قرب "ليدن" مع صديق غير يهودي، لأن اليهود تحاشوه بسبب"الحرم". وغيّر اسمه من "باروخ" العبري الى "بندكت" (بندكتوس) اللاتيني الذي يحمل المعنى نفسه وهو"مبارك".
وقد اتهم سبينوزا بالالحاد من قبل اليهود ومن قبل غيرهم كذلك، وربما كان ذلك بعد ظهور كتابه الشهير في الدين والسياسة الذي نشر في العام 1670م.ولم يكن سبينوزا قد وضع عليه اسمه، وإنما وضع عليه الأحرف ألأولى منه، وكان الكتاب قد منع بعد ظهوره في هولندا، لذلك بيع ضمن أغلفة مزورة. ويرى باحثون بأن كتابه هذا قد أرسى أسس نقد العهد القديم، الذي طوره فيما بعد العلماء الألمان في القرن الثامن عشر حيث سمي بالنقد العالي أو النقد التاريخي، والذي يعتبر الكتاب المقدس نصا كتبه أناس عاديون، وأنه يجب أن ينقد ويفكك على هذا الأساس وهو ماحدث فيما بعد.
وارسل سبينوزا رسالة – على اثر اتهامه بالالحاد – الى رئيس الجالية اليهودي أوربيودي كاسترو (ت 1687م) يدافع فيها ضد اتهامه بالالحاد، وعدم الإيمان بالدين .وكان هذا الحاخام من أشد الناس عداء لمن يبدي رأيا مخالفا لليهودية الأرثودوكسية، وله كتابات معروفة ضدهم.وهو قد كتب فيما بعد نقداً لفلسفة سبينوزا، ونشره فيما يبدو بعد وفاة الأخير.
وكتب الى سلطات امستردام مدافعاً عن آرائه ومناقشاً لهم فيها قائلا إنه لم يقترف ذنباً بحق قانون الدولة، ولكنه فقط مارس حقه المطلق في مراجعة دين آبائه والدين بصورة عامة. وأنه عرض رأياً مخالفاً لذلك، ويبدو أنه بهذا يشير إلى ماكتبه في كتابه الذي ذكرناه وشكوكه في أن التوراة كتبت من قبل موسى. وفي هذه الأثناء اضطر أن يتخلى عن العمل التجاري، بعد صدور الطرد حيث كان يعمل بالتجارة مع أخيه بعد وفاة أبيه، وأخذ يعمل في صقل العدسات وجلوها وهو عمل أجاده واتقنه واسترزق منه وكان يقول، إنه فقط يريد أن يحصل على مال ليدفع أجور سكنه وثمن غذائه وأجور دفن جثته. ويقال إن عمله في صقل العدسات أثر في صحته وسبب موته فيما بعد. وبلغت اجادته لهذا العمل حداً جعله معروفاً قبل أن يشتهر كفيلسوف له أهميته وفلسفته الخاصة به. وربما بسبب هذا الاهتمام ومعرفته بخفايا هذا العمل كتب رسالة عن طبيعة الضوء و"قوس قزح". وقد عثر على هذه الرسالة بعد موته بعد أن كانت قد اعتبرت مفقودة.
وبعد أن اشتهر اسم سبينوزا عُرض عليه أن يكون أستاذا في جامعة هايدلبرغ، وهي من الجامعات الألمانية المشهورة، ولكنه رفض، وعرض عليه الفرنسيون أن يهدي كتابا إلى ملك فرنسا ويحصل على راتب تقاعدي ولكنه رفض أيضا.(6) كما عرض عليه بعض الأثرياء أن يكون وريثا له بدل عائلته، ورفض العرض أيضا ولكنه قبل أن يكون له راتب شهري من هذا الثري، بعد أن ألح عليه واستمر يعطى له إلى نهاية حياته. كذلك أخذ يراسله بعض الفلاسفة ويناقشون آراءه خاصة فيما يتعلق بالقوانين الطبيعية، ووحدة الوجود وخلود النفس، وكذلك آراؤه عن الفيلسوف ديكارت التي ناقشها سبينوزا بشيئ من التفصيل.وعلى الرغم من أن سبينوزا كان يشتكي بأن زواره لم يتركوا له وقتا للمراسلة، لكن هناك عدد من هذه الرسائل نشرها بعض الذين كتبوا عنه، وهي تدل على احترام هؤلاء له وتقديرهم لعلمه وفلسفته.(7). وبعض هذه الرسائل عبارة عن أسئلة تطرح عليه وهو يجيب عنها.وكان من هذه الرسائل رسالة من هنري أولدينبرغ، الذي كان رئيس الجمعية الملكية البريطانية، التي كانت قد أنشئت حديثا، وهي كانت رسالة مهمة تتعلق بسؤال سبينوزا عن رأيه بحركة شبتاي صبي المسيح الدجال التي وصل أوجها عام1666م (8)
وللأسف فإننا لانعرف فيماإذا كان سبينوزا قد أجاب على التساؤل المذكور،حيث كان سيكون جوابه ذا أهمية تاريخية. وعلى رغم محاربة اليهود لسبينوزا فقد استمر بالبوح بآرائه حول اليهودية وشريعتها .
سبينوزاوالتوراة
آراء سبينوزا التي سنذكرها في الصفحات التالية مأخوذة من كتابه المهم في الدين والسياسة وليس نقلا من مصادر ثانوية.
يرى اليهود الأرثودكس أن التوراة الحالية(خاصة الكتب الخمسة الأولى) هي التوراة التي أنزلت على موسى ولم يقربها تلاعب، بل هي أيضا معصومة من الخطأ. وكما يقول سبينوزا إن الفريسيين من اليهود (فرقة قديمة ورث آراءها اليهود الأرثودكس في عصرنا الحاضر) يعتقدون أن النبي موسى هو الذي كتب التوراة، ومن لا يؤمن بهذا فإنه يعتبر كافرا.ولكن سبينوزا في رده على هذا الرأي يثبت لقرائه أن التوراة لم يكتبها النبي موسى، وإنما كتبت من قبل غيره وهو يستدل على ذلك بعدة أدلة أكثرها من التوراة نفسها والتي تسمى بالأدلة الداخلية.
ومن هذه الأدلة التي يستدل بها هو أن الحديث في التوراة عن موسى في أغلبه بضمير الغائب، مثل "وتكلم موسى مع الرب"، وكذلك "وكلم الرب موسى وجها لوجه" ومن ذلك عبارة "وكان موسى من أحكم الناس"، وأيضا "إن موسى هو رجل الله".فهذا الكلام لم يكتبه موسى، وكذلك تتحدث التوراة عن وفاة موسى فتقول"وتوفي موسى عبد الله.. وحزن العبرانيين عليه لثلاثين يوما",كذلك ورود عبارة "ولم يكن هناك نبي في اسرائيل مثل موسى حيث عرفه الرب وجها لوجه". وكذلك ذكر في التوراة كلام عن قبره حيث جاء فيها "ولايعرف أحد مكان قبره إلى هذا اليوم". ويقول سبينوزا إن مثل هذا الكلام لايمكن أن يكتبه موسى، ولا أن يكون بقلم من خلفوه مباشرة، بل لابد أن يكون أن من كتب هذا، قد كتبه بعد قرون من وفاة موسى خصوصا عندما نجد عبارة مثل "ولم يكن في اسرائيل نبي مثل موسى أبدا"(وهذا يعني أنه كتب بعد موت الأنبياء، الذين جاؤوا بعد موسى في فترة تبلغ قرونا) . وهو يقول إنه واضح وضوح الشمس، بان موسى لم يكتب التوراة، وإن القول بان موسى هو الذي كتبها انما هو شيئ لااساس له، بل ليس عقلانيا.(9)
أما بالنسبة إلى ظهور التوراة في كتاب واحد، فهو يعتقد أنها لم تظهر إلا بعد وفاة موسى بقرون، وان الأسفار الخمسة الأولى، ومعها سفر يشوع وسفر القضاة وأسفار أخرى، كانت تمثل كتاباً واحداً ضخماً جمعه عزرا الكاتب(يعتقد أنه عاش في القرن الخامس قبل الميلاد)، ولم يكن قد تمكن من تنقيحه بسبب موته المبكر، أو لأسباب أخرى غيرها. ويقول ان عدم التنقيح والتهذيب بيّن على هذه الأسفار، لأنها تضم خليطا كثيراً من الإعادات والتناقضات. وهو يذكر أدلة كثيرة على ذلك، ويقول إن هذا يكشف عن أن مادة النصوص كانت قد جمعت على أيدي مؤلفين عدة، وإن من ينظر إلى القصص المعادة والتواريخ المتناقضة، وكيف أن الكتب الأولى وضعت بدون ترتيب، يعرف أنها جمعت بشكل غير منظم، على أمل أن ترتب فيما بعد .(10)
وهو يرى أيضا ان الذين جمعوا أسفار التوراة لم يجمعوها بشكل صحيح، فهم ادخلوا بعض ما يجب أن يخرج منها مثل سفر الأيام الأول والثاني - وهو يعجب من أولئك الذين أدخلوهما - وأخرجوا سفر
الحكمة وطوبيث/طوبيا( اللذين يعتبران من الأسفار غير القانونية، التي تسمى باللاتينية "ابوكرافا")
أما بالنسبة إلى أسفار الأنبياء فيرى سبينوزا بأنها بقايا كتب أخرى، وليست من وضع الأنبياء، وان في هذه الأسفار كثيراً من المتناقضات التي تتعلق بالقضايا الروحية والطبيعية.
ثم ينتقل سبينوزا إلى الحديث عن سفر يشوع وسفر صموئيل وسفر القضاة وغيرها، فيستدل على أنها كتبت في وقت متأخر كثيراً عما ورد فيها من أحداث، ولم تكتب في فترة معاصرة لها. ومن رأيه كذلك أن مزامير داوود جمعت وقسمت الى خمسة أقسام في القرن الأول الميلادي، وكذلك سفر الأمثال أيضا جمع في هذا القرن، وان بعض الأسفار الأخرى كسفر الأيام الأول والثاني كتبا بعد وفاة عزرا الكاتب بفترة طويلة، ربما يكونان قد كتبا في زمن الحشمونيين.(11) في القرن الثاني قبل الميلاد.
أما بالنسبة إلى سفر أيوب، الذي هو من الأسفار التي حيرت علماء العهد القديم حول أصله وأفكاره ولغته، حيث رأى بعضهم أن السفر لايعكس أحداثا تاريخية حقيقية بل هو مثل رواية أبطالها غير حقيقيين.حتى أن بعضهم رأى بأن هناك تأثيرات
نبطية- عربية في أسلوبه ولغته. وتبنى سبينوزا رأي ابراهام بن عزرا في هذا السفر، حيث اعتقد أنه في أصله ليس يهودياً، وإنما هو ترجمة من لغة أخرى. ويضيف إنه يتمنى لو كان بن عزرا قد فصل رأيه "إذ قد نعرف بأن الشعوب الأخرى قد كان عندها كتب مقدسة أيضا". وممايستدل به سبينوزا، أنه ترجمة من كتب أخرى، أن ما فيه من شعر هو أقرب إلى شعر غير العبرانيين وأن الشيطان ينتقد الرب بحرية كاملة . وهو يعتقد بأن أيوب لم يكن عبرانيا بل من شعوب أخرى.(12) ويرى سبينوزا أيضا بأن الكتب الثلاثة دانيال وعزرا وأستير، هي من تأليف شخص واحد وليست مؤلفة من قبل أشخاص
سبينوزاوتفسيرالتوراة
أما بالنسبة إلى تفسير التوراة فهو يتحدث عما يسميه التفسير الصحيح للتوراة، وقال ان لكل شخص الحق في أن يقوم بتفسير التوراة، وأن تفسيرها يشبه تفسير الطبيعة، فكما أن تفسير ظواهر الطبيعة يحتاج الى دراسة التاريخ، فكذلك يجب أن نعرف تاريخ التوراة. وأن تجمع النصوص التي تتحدث عن موضوعات متماثلة.ثم كذلك جمع النصوص التي يعتقد أنها غامضة أو تبدو متناقضة.(13) وأشار الى ان مفسر التوراة يواجه الكثير من المشاكل، نظراً الى عدم المعرفة باللغة العبرية القديمة، وكذلك عدم المعرفة بظروف جمع الأسفار. وهو يرى أن القصص المذكورة في العهد القديم يجب أن لا تفهم بشكل حرفي، لأن المقصود منها هو إرشاد الناس الذين لا يستوعبون فهم القضايا العقلية، والمفاهيم المجردة. أما مايقوله الفريسيون من أن اليهودي يجب أن يعتمد على تفسيراتهم للكتاب المقدس، فهو أمر لايمكن قبوله،ا إذ كما كان بين البابوات فاسقين ومنحرفين، فإن بين الكهنة (اليهود) الكبار في السابق من كان فاسقا ومنحرفاً عن العقيدة، وهم حصلوا على مناصبهم بطريقة غير أخلاقية. (14)
وأن ما يدعيه الحاخامون بأن التفسير الشفوي(التلمود) الذي عندهم يرجع إلى موسى، هو ادعاء فيه شك كثيرجداً.(15) وهم في الحقيقة حصروا التفسير بهم من أجل التمتع بالسلطة، ومن أجل ذلك فقد حصنوا أنفسهم بنصوص من التوراة. وينتقد سبينوزا أولئك الذين يعتقدون أن هناك معاني واسراراً عميقة خبيئة تحت النص الظاهر للكتاب المقدس حيث يقضي هؤلاء من أجل ذلك أوقاتاً ويبذلون جهدا كبيرا، للبحث عما يسميه العبث ويهملون ماهو نافع ومفيد.(16)
وهو ينتقد موسى بن ميمون الحاخام والفيلسوف اليهودي المعروف، في رأيه حول تفسير التوراة نقداً لاذعا على قوله بأن نص التوراة هو حمال أوجه، بل إنه يحمل معاني متناقضة ولايصح أن نختار واحدا منها ونفضله على المعاني الأخرى، إلا إذا كان متفقا مع العقل وغير متناقض معه، وإذا وجدنا أن المعنى الحرفي واضح، ولكنه لايتفق مع العقل ففي هذه الحالة يجب أن يكون التفسير مجازيا. وسبينوزا يرفض رأي أبن ميمون هذا ويرد عليه، ويقول إنه ليس من الضروري أن كل مافي الكتاب المقدس يجب أن يتفق مع العقل، إذ لو كان هذا كذلك لما تمكنا من الوصول إلى المعنى المقصود، وحينئذ لابد ان نستعين بطريقة أخرى لفهم النص. إذ معنى هذا أيضا كما يقول سبينوزا أن الناس العاديين الذين لايمكنهم أن يستدلوا عقليا بصورة عامة على معاني النص، يضطرون إلى الإستعانة بتفسير أصحاب المعرفة، وحينئذ يعتبر هؤلاء تفسير أولئك تفسيرا معصوما عن الخطأ، وسيعطي هذا سيطرة لرجال الدين وسيطرة للكهنة اليهود (17)
كما أن هذا الرأي يعني أننا نحرف النص، ونغير معناه الحرفي مهما كان معناه واضحاً. ويقول انا بإمكاني أن أشير إلى عدد من الناس غير المتعلمين الذين فهموا لغة الأنبياء والتلاميذ(في حالة الأنجيل).كما أن هناك الكثير من النصوص في الكتاب المقدس لايمكن أن تفسر بواسطة العقل بل يمكن تفسيرها بطريقة سهلة وبسيطة. ولابد أن نذكر هنا-يقول سبينوزا- بأن الكتاب المقدس يذكر أحيانا قضايا لا تتفق مع المبادئ العقلية والتي تتجاوز حدود استيعاب العقل البشري، مثل المعجزات والظواهر الطبيعية الإستثنائية والوحي الذي يذكره الأنبياء. إن مثل هذه الأمور يجب أن تفهم من الكتاب المقدس وحده.(18) ويقول أيضا إن بن ميمون يفترض أن الأنبياء كانوا علماء دين وفلاسفة ومتفقون فيما يقولون، وان مايقولونه هو الحقيقة المطلقة وأن معنى النص في الكتاب المقدس لايؤخذ من الكتاب المقدس وحده، بل يجب أن نعتمد على مصدر آخر. ولكن رأي بن ميمون هذا هو رأي عقيم وغير ذي جدوى، إذ هو يهمل الشيئ المؤكد الذي يمكن أن يحصل عليه عامة الناس بطريقة واضحة او طرق أخرى. ولذلك فإن رأيه في الحقيقة هو رأي مضر، وغير ذي فائدة بل هو في الحقيقة سخيف، لأن من حق أي إنسان ان يفسر الكتاب المقدس ...ولاحاجة إلى ملكة استثنائية او مرجعية .(19) ويقول إن الذين يدعون القدرة العقلية الخاصة، لانجد في تفسيرهم أي مظهر لهذه القدرة العقلية الإستثنائية، بل إننا إذا قارنا تفسيرهم بتفسير أولئك الذين لايدعون ذلك، نرى تفسيرهم لايختلف إطلاقا، كما أن الأنبياء كانوا يخاطبون أناساً لايتمتعون بأي قدرة عقلية استثنائية، فهم كانوا يخاطبون أناساً من الأشرار وغير المؤمنين، وكان هؤلاء يفهمون مايقوله الأنبياء، وإذا كان مايدعيه أصحاب هذا الرأي صحيحا فهذا يعني أن موسى قد أعطيت له شريعة غير ذات جدوى وبدون معنى إذا كان هدفها المؤمنين فقط.(20) وإحدى النقاط التي يريد سبينوزا أن يؤكدها من هذا النقاش هو رفضه أن يكون للحاخامين المرجعية في فهم نص التوراة وتفسيرها وهو ما يريده بن ميمون مما نقله عنه سبينوزا
سبينوزا والشريعة اليهودية
يرى سبينوزا أن شريعة التوراة صعبة التطبيق، ولذلك يلاقي الذين يطبقونها عنتا كثيرا وصعوبة في ممارستها. ويرى أيضا أن الشريعة اليهودية بكل طقوسها لم يقصد منها أن تكون دينا عالميا طلب من الناس إتباعه والإلتزام به، وإنما هي كانت خاصة باليهود دون غيرهم، حتى يحفظوا بها كيانهم.
وهو يستدل من أسفار التوراة على أن اليهود ما كان يجب عليهم تقديم الأضاحي، أو الاحتفال بالمناسبات الدينية والأعياد بعد تدمير مملكتهم. ويقول إن ذلك واضح من سفر النبي أرميا حيث قال بعد تدمير المعبد إن الرب يرضى في أن يعرفه الناس، وأنه رحيم يحكم بالعدل، ويريد أن تطبق العدالة في الأرض كما جاء في 9:23 من هذا السفر "بل بهذا يفتخر المفتخر بأنه يفهم ويعرفني، لأنني أنا الرب المجري الرحمة والحكم والبر في الأرض لأن فيه رضاي يقول الرب" . وكأن الرب قال إنه لا يريد من اليهود شيئاً خاصاً عدا أن يطيعوا القانون الطبيعي الذي هو ملزم لكل الناس. ويقول إن العهد الجديد ( الإنجيل) يؤكد على هذا، فهو يؤكد على الجانب الأخلاقي، وتعليمات الانجيل هي حول ذلك، وأن مملكة السماء هي الجزاء لذلك. كما أن التلاميذ(تلاميذ المسيح) لم يتكلموا عن فريضة الأضاحي (وهم كانوا يهودا)، عندما أخذوا يبشرون بين غير اليهود، ولكن بالتأكيد بقي الفريسيون يمارسون فريضة الأضاحي بعد تدمير مملكة اليهود، وأن ممارستهم هذه لم تكن من أجل ارضاء الرب، بل كانت معارضة للمسيحيين وضداً لهم وليس إرضاء للرب .
ويقول أيضا إن اليهود عندما أخذوا أسرى، تفرقوا جماعات بين الناس، وتركوا تقديم الأضاحي بل تركوا شريعة موسى، بل وتركوا تقاليدهم القومية واعتبروها غير ضرورية، وأخذوا يندمجون بين الشعوب، كما هو واضح من سفر أشعيا ونحميا، وأنا لا أشك بأنهم (فعلوا ذلك) لأنهم اعتقدوا بأنهم غير ملزمين بشريعة موسى بعد تدمير مملكتهم،وهم تصرفوا كما كانوا بين المصريين قبل خروجهم من مصر، وانشاء مملكتهم فيما بعد. وهم هناك لم يكونوا ملزمين بشريعة معينة، وكانوا أحرارا بتطبيق أي شيئ إلى أن قادهم موسى(21).
ويقول أيضاً إنه بعد تهديم الهيكل انتهى دور شريعة موسى، لأنه بمجرد أن أصبح اليهود مواطنين في بابل، فإن مملكة الرب انتهت وأصبحت حقوقهم مع دولة بابل، وأن العهد الذي على اليهود بالالتزام بالوصايا قد نسخ وانتهى. وقد انتهت الدولة التي كانت تعتمد على هذا، ولذلك فإن العبرانيين في هذه الحالة ما كان عليهم أن يلتزموا بهذه الأحكام والوصايا، لأن علاقتهم كانت بملك بابل وليس بغيره، حيث كان عليهم أن يطيعوه في كل الأشياء كما أن النبي أرميا كان قد طلب منهم ذلك.
فهم في هذه الحالة لم تكن لهم مشاركة في الحكومة حتى يشاركوا في سلامها، بل شاركوا في سلامتها على أنهم عبيد وأسرى، وكان عليهم الاطاعة في كل شيء وتفادي الفتنة والعداوات، وذلك باتباع قوانين الدولة مهما كانت مختلفة عن شريعتهم، ولذلك فإنه من الواضح أن لإلتزام بالدين بين العبرانيين، كان واجباً فقط ضمن دولتهم ذات السيادة، ولما ازيلت هذه الدولة، فلا يعمل بالشريعة على أنها شريعة تلك الدولة، بل على أنه قانون طبيعي عام ينطلق من العقل.
ويمكن اختصار ذلك بالقول، إن الدين سواء كان موحى به أو عن طريق الأنبياء، أو عن طريق القابلية الطبيعية يكون له قوة التنفيذ فقط من خلال التشريعات التي يقودها حاكم الدولة المستقلة، والرب ليس له دولة خاصة بين البشر وإنما يحكم من خلالهم"
سبينوزا وفكرة الشعب المختار
الفكرة التي تقول ان الشعب اليهودي شعب مختار(ومفضل) على بقية الشعوب، فكرة لايقبلها سبينوزا، ولايعترف بها وهو قد خالف الغالبية العظمى من اليهود في ذلك،. وهوقد عبر عن رأيه هذا بالقول"إن اليهود لا يتميزون عن الاخرين برجاحة العقل ففكرتهم عن الرب مثلا وعن الطبيعة كانت عادية، ولذلك فلا يمكن أن يكونوا مختارين من قبل الرب في هذا الأمر بشكل مطلق وأبدي، وهذا واضح من بعض نصوص التوراة، كما ولا يمكن ان يكونوا مختارين كاصحاب فضائل ومعرفة بالحياة الحقيقية. واليهودي كشخص ليس عنده ما يفضل به على الفرد غير اليهودي، وفي هذا يكون اليهود متساوين مع الشعوب الأخرى. كما أن الرب لا يفرق بين الشعوب، وهو ايضا رحيم بها ويحبها جميعاً، ويرغب في أن تكون حالهم طيبة، وان هذه الشعوب بلا شك كان عندها انبياء ايضا، وان النبوة لم تكن مقتصرة على العبرانيين. وان التاريخ الديني وغير الديني يشهد على هذه الحقيقة، وأيضا فإن الرب لم يختر اليهود على بقية الشعوب من أجل التوراة (وهذا يراه الكثيرمن اليهود، الذين يقولون إن التوراة عرضت على بقية الشعوب فرفضتها وقبلها اليهود)
ويقول أيضا، إنه على الرغم من أننا من خلال التوراة لم نطلع على كثير من الأنبياء عند غير اليهود، ولاندري فيما إذا كان (من عرفوا) مبعوثين حقيقة من قبل الرب او لا فهذا لايناقض ماقلناه، لأن العبرانيين كانوا اكثر حرصا من غيرهم على تسجيل قضاياهم. واليهود ليس لهم خصوصية الهية كذلك، وليسوا أكثر فهماً أو أكثر فضائل من الآخرين. وما يذكره الاخرون ان اليهود مختارون ابديا فإن سبب ذلك هو أنهم بعد ضياع دولتهم وتشتتهم لقرون طويلة، ظلوا مفصولين معزولين عن بقية الشعوب، فتمكنوا من البقاء ولم يختفوا عن وجه البسيطة، ومثل هذا لم يحدث عند بقية الشعوب.
ويقول سبينوزا أيضا بان هذا ليس عجيبا، لأنهم انما بقوا على مر العصور ليس بسبب عناية خاصة من الرب، ولكن بقاءهم يرجع إلى عزلتهم، وإلى تمسكهم بالطقوس الخاصة التي تخالف طقوس بقية الشعوب وتقاليدها، ومنها تمسكهم بالختان الذي يهتمون به اهتماما خاصا ودقيقا.(22). وكذلك يرجع هذا الى كره الشعوب لهم، ويرجع أيضا الى روح العداء نحوهم الذي دلت عليه التجربة. إذ أن هذه الروح هي التي أبقتهم مستمرين في الوجود الى هذا الوقت. وقال: "إذا كان أي شعب يعتقد حقيقة أنه شعب مختار فليس لدي رفض لذلك، ولكن ليس هناك فرق على الاطلاق بين اليهود وشعوب العالم الأخرى، من حيث ما حققوه روحيا وفكريا، ولذلك فانه ليس هناك اطلاقا أي شيئ في عصرنا الحاضر يمكن أن يدعيه اليهود لأنفسهم،بأنهم أفضل من الآخرين.(23)
و نشر سبينوزا في العام 1674م كتابه في الاخلاق، ولكنه لم يتمكن من توزيعه لمعارضة رجال الدين له. كما الف كتابا عن طبيعة العقل نشر بعد وفاته. وكذلك كتاباعن قواعد اللغة العبرية
وفي العام 1677م توفي سبينوزا ولم يسمح اليهود بدفنه في مقابرهم، فدفن في مقابر المسيحيين مع أنه لم يكن مسيحياً كما هو معروف، ودفن في قبر لم يكتب عليه اسمه. ولم يخلف سبينوزا مالا كافيا لنفقات جنازته فدفن في قبر مؤجر. وربما كان الحاخامون قد منعوا عائلته من إقامة الحداد عليه لأنه في نظرهم مات غيرمؤمن.(24) ومنع الحداد على أشخاص مثل سبينوزا، الذي انتقد اليهودية تقليد يلتزم به الحاخامون منذ قرون، وهم يتبعون في ذلك فتوى للحاخام المعروف موسى بن ميمون وردت في كتابه "شريعة الحداد". وتنص الفتوى على "إن كل من فصل نفسه عن الممارسة اليهودية بعدم تطبيق الوصايا، أو لا يلتزم بشعائر المناسبات الدينية، أو أنه لايذهب إلى الكنيس أو إلى بيت الدراسة، ويعتبر نفسه حرا (من هذه الإلتزامات) ويسلك مثل بقية الشعوب(ويكون) من المرتدين والمتحولين إلى دين آخر، أو يكون مثل الجواسيس فهؤلاء لا يجوز إقامة الحداد عليهم. وعندما يموتون يجب على إخوتهم والأقرباء ألآخرين أن يلبسوا لباسا أبيض، ويقيموا حفلات فرح لأن الذين يكرهون الرب تبارك اسمه قد هلكوا". وظل تطبيق هذه الفتوى مستمرا إلى وقت قريب، بل إن بعض الباحثين اليهود يقول إن هذه الممارسة مازالت تمارس عند بعض اليهود إلى اليوم(25).
وقد ترك سبينوزا أثراً على عدد من الفلاسفة والأدباء، فكان من المتأثرين به الفيلسوف والشاعرالألماني غوثهولد افرايم ليسنغ (ت1781م) الذي قال إنه وجد في آراء سبينوزا عزاء وقوة وهو قال إنه حاول أن يجدهما عبثا عند غيره، على الرغم من أنه لم يوافق على نظريته ككل. وفي نقاشه المعروف مع فريدريخ هنريخ جيكوبي(ت1819م) صرح إنه لايعرف فلسفة بالمعنى الحقيقي للفلسفة إلا الإسبينوزية.وقد جعل هذا التصريح جيكوبي يدرس سبينوزا لوقت أطول وكان من نتيجة ذلك أن كتب عنه كتابا، طبع أكثر من طبعة وكان ذلك بداية مرحلة جديدة له في دراسة فلسفة سبينوزا.
وكان من الذين تأثرو بسبينوزاالشاعر الألماني الشهير غوته(1832م)،الذي كان يتحدث دائما عن كونه مداناً لكتاب سبينوزا في الأخلاق. ونرى مظاهر هذا التأثر واضحة في شعره وفي كتاباته بصورة عامة. وكذلك الشاعر الالماني هنريش هاينه(1856م)، وممن تأثر به كثيرا وكتب عنه الشاعر والكاتب الألماني اليهودي بيرثولد(باروخ) أورباخ(ت1882م) الذي اعتبر سبينوزا مثله الأعلى والنموذج الذي يحتذى به وقد كتب عنه كثيرا. ومن المتأثرين به الشاعر الإنجليزي شيلي (1822م) وقد وصل اعجابه بسبينوزا إلى حد جعله يفكر بترجمة كتابه "في الدين والسياسة". وكذلك الروائية الإنجليزية المعروفة جورج اليوت(ت1880م)، التي قامت بأول ترجمة إنجليزية لكتابه "الأخلاق" وكذلك والشاعر الإنجليزي كولوردج(ت1834م) الذي اعتبر كتاب سبينوزا في الأخلاق إلى جانب كتابين آخرين من أعظم ماكتب منذ ظهور المسيحية. وكان ألبرت انشتاين العالم المعروف يقول بأن نظرته إلى العالم متأثرة بأفكار سبينوزا، وقال إنه يؤمن برب سبينوزا. ومن الذين تأثروا به الروائي المعروف اسحق سنغر (ت 1991م) الحائز على جائزة نوبل عام 1978م والذي كتب عنه قصة بعنوان "شارع سوق سبينوزا".ومن الذين تأثروا به كثيرا الكاتب والشاعر الإرجنتيني يورغ بورجس(ت1986م) الذي تأثرا بنظرة سبينوزا إلى العالم، وهو يشير الى فلسفته بشعره وقصصه. وكان الفلاسفة الفرنسيون من المعجبين به وكذلك في هولندا وفي بريطانيا حيث حاضروا وكتبوا عنه، وقد ذكرت في مطلع هذه الدراسة إعجاب هيجل به. وقد ألف عدد من الكتب عن حياة سبينوزا وفلسفته في أكثر من لغة. وقد كتبت عنه مسرحية في القرن الماضي وعرضت على المسارح،وخصصت هولندا جائزة مهمة باسمه أسمتها "جائزة سبينوزا" كما أن له تمثالا كبيرا في لاهاي في هذه الدولة.
وأصبح مسكنه في ريجنزبرغ في هولندا متحفا، ووضعت صورته على العملة الهولندية قبل أن يدخل اليورو في التعامل في الإتحاد الأوربي.
........................................
- هوامش:
(1) J. Prinz,The Secret Jews,p91
* يعرف الكتاب بالعربية ب"دلالة الحائرين" والصحيح ماترجمناه لأن "موره" العبرية تعني معلما أو دليلا لأنها اسم فاعل وليست إسما
2 وكانت هذه الفرقة قد انفصلت عن الكالفينية وظهرت في بداية القرن السابع عشر وسمي أعضاؤها "كوليجانتس" من كلمة "كولج" التي أطلقوها على اجتماعاتهم التي كانوا يعقدونها في أول يوم أحد من كل شهر. وفي نهاية القرن السابع عشر أصبح لأراء سبينوزا تأثيرعليها إلى الحد الذي انقسمت الفرقة على نفسها وسمي أحد قسميها باسم سبينوزا واستمر وجود الفرقة إلى القرن التاسع عشر
(3) Encyclopedia Judiaca, Spinoza,Baruch
(4)J. Prince ,op.cit.p.94
(5) Ibid.,pp.87-88
(6) Encyclopedia Judiaca,Spinoza,Baruch
(7) يوجد الكثير من هذه الرسائل في الكتاب الذي حرره Edwin Curly, وعنوانه A Spinoza Reader
(8) يراجع عن حركة شبتاي صبي وفرقة الدونمه التي ظهرت منها كتابنا"الدونمه بين اليهودية والإسلام
(9)B. Spinoza,. Tractus Theologico- Politicus p.126
(10) Ibid., p.133
(11) Ibid., p. 146
(12) Ibid p.149
(13) Ibid., 110
(14) Ibid., p.118
(15) Ibid., p. 107
(16) Ibid p.99
(17) Ibid.,p 115
(18) Ibid., p. 100
(19) Ibid pp. 117-119
(20) Ibid., pp. 114-115
(21) Ibid., p.72
(22) Ibid., pp 44-55
(23) Ibid., p.55
(24) Encyclopedia Judaica, Spinoza,Baruch
(25I. Shahak and N. Mezvinsky Jewish Fandemantalism in Israel,p.124
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1521 الاحد 19/09/2010)