قضايا وآراء
الشهيد الصدر .. المسار الصعب والشجاعة والحكمة والشهادة / عبد الكريم خليفة جابر
من بداية ثمانينيات القرن الماضي الى نهايته. لقد كان أي تجمع ديني او حتى اجتماعي فيه ذكر للأمور الدينية يمثل انتهاكا للقوانين الصارمة التي وضعتها السلطة وكان اقل عقاب هو الاعتقال والحصار والطرد من الوظيفة او الدراسة وغيرها، ولاتخلو العقوبة من الاعدام في بعض الأحيان. وهذا الأمر كان واضحا في كلام رئيس النظام (صدام) الذي قال في احد لقاءاته المتلفزة انه لايهم ان يعدم عدد من يعارض نظامه سواء أكان واحدا ام عشرة آلاف. وقد طبق هذا في عدة مواقف وفي اماكن وأزمنة مختلفة ومنها في أيام السيد الشهيد محمد باقر الصدر وابان الحرب مع ايران وبعد انتفاضة 1991 وانتفاضة 1999 في البصرة.
لقد برزت مرجعية وقيادة السيد الشهيد محمد الصدر في وقت كان الإعدام واستخدام الصواريخ والدبابات والأسلحة الكيميائية وسائل اعتاد صدام وأزلامه على استخدامها ضد الشعب وضد أية مدينة او منطقة تعارض افعاله وظلمه وبدون اي تردد او رحمة او تفكير. كان النظام يحصن نفسه بأسوار قوية من مختلف أصناف الأجهزة الأمنية والعسكرية وفي مقدمتها الحرس الخاص وحرس الرئيس والحرس الجمهوري والفدائيين والبعثيين والجيش والأمن وغيرها. لم يكن لأي احد ان يخترق هذه الأسوار الكثيرة المحصنة الا ان يكون ذو حكمة وشجاعة وتفكير وتخطيط فائق لا يتحلى به الا الأنبياء والقادة العظام الأوائل ممن حدثنا التاريخ عنهم.
لقد وجد الشهيد الصدر ثغرة صغيرة في هذه الأسوار المحصنة ولكن طريقها محفوف بالمخاطر، فتوكل على الله واخترق تلك الأسوار من خلالها. ولم يكن الأمر كما قال ويقول بعض المحللين من ان السلطة كانت ضعيفة ومنهارة فاستغل السيد تلك الحالة بل بالعكس كانت السلطة قوية جدا حيث خرجت بعد الانتفاضة الشعبانية منتصرة في الجنوب والشمال واخذت ترتب اوضاعها وتعزز صفوفها واستحدثت اجهزة متعددة لحمايتها وقمع اي معارضة لها،فوجد الشهيد الصدر مالم يجده اي عراقي اخر سواء اكان قائدا ام لا. وبدأ تحركه تدريجيا وبحكمة بالغة وبدون اي تهور أو تسرع. بدأ السير في هذا الأمر الخطير مع علمه بأن علماء الحوزة الآخرين وطلبتها سوف يقولون عليه انه مرجع الحكومة وانه يعمل لأجل صدام وسلطته وكان يقول انه المهم هو رضا الله وخدمة الاسلام والمجتمع ولو كلفني ذلك سمعتي وحياتي. وقال في احد لقاءاته انهم ارادوني جسرا فجعلتهم جسرا وعبرت عليهم. وبدأ الناس يتجمعون حوله والجموع تصلي خلفه واصدر بعض الفتاوى التي تعارض تصرفات الحكومة او التعاون معها، وكان السيد الشهيد قد وظف قوة قلبه جيدا حيث سيطر على المدارس الدينية التي كانت بيد السلطة ويفعل بها أزلام السلطة مايشاؤون ويمنعون اي طالب ويسيؤون لهم وعين عليها من يديرها من طلبة الحوزة وبذلك فهو قد انتزعها منهم انتزاع الفريسة من براثن الوحش. ثم بدأت خطوته التاريخية الكبرى بإطلاق صلاة الجمعة في عموم العراق وفي مسجد الكوفة بعد ذلك. وهنا اقترب السيد الشهيد كثيرا او تجاوز بعض الخطوط الحمراء التي كان قد حددها النظام حيث بدأت صلاة الجمعة تتوسع بشكل كبير لم يشهد له العراق مثيلا وأخذت الجماهير تتخلص شيئا فشيئا من قيود الخوف والرهبة التي اوجدتها اجهزة النظام الأمنية ببطشها المستمر. وهنا بدأت المرحلة الخطيرة في مسيرة السيد الشهيد، ولم يكن الخطر من النظام فقط وانما من عدة جهات وهي:
أولا : النظام وأجهزته المختلفة والتي لم تكن تجرؤ على قتل السيد الشهيد علنا وامام الناس وانما كان الخوف من الغدر المحتمل منهم ومن اعتقال ائمة الجمعة ووكلاء السيد الشهيد ومنع بعض الصلوات. وقد حاولوا في عدة مناسبات اعتقال احد ابناء السيد الشهيد وهو السيد الشهيد مؤمل وكذلك اعتقال السيد جعفر الصدر ولكن السيد الصدر اتخذ بعض الخطوات الاستباقية التي اجهضت المخططات الخبيثة قبل وقوعها.
ثانيا : علماء الحوزة والطلبة التابعين لهم .. فقد مثلوا جبهة معارضة قوية للسيد الشهيد وتحركاته واوهموا الكثير من الناس انه مرجع للحكومة وهو مصيدة للمصلين وغيرهم وكان كلما يتقدم السيد الشهيد بخطواته يشتد عملهم ضده وتزداد اكاذيبهم لتشويه صورته وتسقيطه اجتماعيا مما ساعد النظام على الانفراد به ومثلوا الجبهة الخلفية التي استند عليها صدام واجهزته الأمنية في حربه ضد السيد الشهيد وأتباعه.
ثالثا : جهات المعارضة الشيعية والتي تعمل من خارج العراق ضد النظام وكان اغلبها يتخذ من ايران مقرا له ويتواجد بعضها في لبنان ايضا، لقد مارس اغلب قادة هذه الجهات حربا خفية ضد السيد الشهيد وحاولوا تسقيطه وتشويه سمعته وقد تحولت هذه الحرب فيما بعد الى علنية اشترك فيها ابرز القادة وبعثوا بمراسليهم الى داخل الأراضي العراقية ليعدوا تقارير كاذبة حول ضعف صلاة الجمعة وقلة اتباع السيد والمصلين وغيرها. كما ساهمت هذه الجهات في تغيير نظرة الحكومة الايرانية للسيد الشهيد وتصديق كونه مرجعا للسلطة مما جعلها ترفض فتح مكتب له في ايران واعتقال من جاء لفتح المكتب وفرض الاقامة الجبرية على مدير المكتب السيد جعفر الصدر.
رابعا : الجماهير التي كانت تصلي الجمعة خلف السيد الشهيد ووكلائه. وليست بالتأكيد كل الجماهير وانما الذين كانوا يقومون بأفعال متهورة وبحسن نية وانما كانت تضر بصلاة الجمعة وتعجل بعزم النظام على تصفية السيد جسديا. وقد شاهدنا وسمعنا السيد الشهيد وهو ينصح الجماهير بعدم اطلاق بعض الهتافات التي تعتبر متهورة. والخطر من هذه الناحية هو ان السلطة كانت سوف تتخذ من الأفعال المتهورة لبعض الجماهير ذرائع لاعتقال ائمة الجمعة ومنع الصلاة.
وقد كان السيد الشهيد يتعامل مع هذه العوامل بكل حكمة واتزان وشجاعة وحزم وبدون تقديم اية تنازلات وبدون تراجع عن مسيرته الصعبة.
وقد كانت اجهزة النظام وبأوامر مباشرة من صدام ووزرائه الامنيين قد صعدت الموقف وبدأت باعتقال بعض ائمة الجمعة ومنعت بعض صلوات الجمعة في مناطق متفرقة ولكن السيد الشهيد تعامل مع هذا التصعيد بحزم وحكمة ولم يسكت على الأمر ولكنه لم يصعد الموقف. وقد كان الكثير من الشعراء والشباب وطلبة العلوم الدينية وغيرهم يحاولون ان يجعلوا السيد الشهيد يبدأ المواجهة العلنية مع الحكومة الظالمة وكانوا يتحدثون عن استعدادهم للتضحية بالنفس وبكل شيء ولكن السيد الشهيد لم تأخذه تلك المحفزات على كثرتها حيث ان اعداد المصلين خلف السيد الشهيد ووكلائه في عموم العراق وصلت الى الملايين ولكنه في احدى خطب الجمعة ذكر ان اللذين هم على استعداد للتضحية بالنفس لأجل الدين بالمئات، وهذه المعادلة غير متكافئة وغير منتجة بالتأكيد لأن اجهزة النظام كانت تعدادها بالملايين ومجهزة ومسلحة بمختلف انواع الأسلحة فضلا عن الطيران الحربي والصواريخ والأسلحة الكيميائية وغيرها. اضافة الى الدعم الخارجي الأمريكي والعربي بينما لم يكن للسيد الشهيد واتباعه اي دعم خارجي وحتى الحكومة الإيرانية وحوزتها الدينية فقد وقفت موقف المتفرج بل كانت لهم مواقف معروفة ضد السيد الشهيد الصدر ونهضته.
وبعد ان جربت السلطة كل الوسائل لمنع السيد الشهيد من الاستمرار في مسيرته الناجحة او لوقفها على الأقل عند حد معين شرعت بتنفيذ خطتها بقتله ومنع وكلائه من ممارسة اعمالهم واعتقال اكبر عدد منهم ومنع صلوات الجمعة تدريجيا. ولم تكن السلطة تجرؤ على قتل السيد الشهيد الصدر علنا بل دبرت لقتله ليلا بعد ان طوقت النجف وباقي المدن بالقوات المسلحة والدبابات ونسبت الأمر زورا الى بعض طلبة الحوزة العلمية واعتقلتهم واعدمتهم.
علما انه عندما اشتد الوضع خطورة واخذت الأمور منحى متصاعدا نحو التصفية الجسدية للسيد الشهيد بعد ان ارسلت السلطة رسالتين دمويتين للسيد الشهيد حيث قتلت الشيخين البروجردي والغروي، جاء بعض المقربين من السلطة والذين كان للسيد الشهيد الصدر تأثير عليهم فأبلغوه ان الخطة قد اكتملت لاغتياله ولم يبق الا النتفيذ. وهنا رتب بعض اتباع السيد الشهيد ممن لهم الامكانية المادية والاجتماعية له الرحيل الى ايران لكي ينجو بحياته ولكنه رفض رفضا قاطعا وفضل الاستشهاد على ارضه وبين شعبه على ترك الجماهير تواجه الظلم وحدها دون قائدها. وهو بذلك قد اعطى درسا كبيرا للقادة الصالحين وللقيادة الشجاعة التي لاتترك جماهيرها عند اشتداد المواجهة تأسيا بالإمام الحسين عليه السلام الذي بقي مع اهل بيته واصحابه وخيرهم في الذهاب والنجاة بحياتهم وبقي هو وكان آخر من استشهد في المعركة.
عبدالكريم خليفة جابر
ذو القعدة / 1431
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1548 الاحد 17/10/2010)